المثقف المغربي وسؤال “الهوية المفقودة” قراءة سوسيولوجية
◆ محمد امباركي - باحث في علم الاجتماع
الاحتجاج كمدخل لاستعادة “الهوية المفقودة”
إن مناسبة هذا المقال هو الدعوة التي أطلقها مجموعة من المثقفين في المغرب والقاضية بجعل يوم السبت 26 مارس 2022 يوما وطنيا لاحتجاج المثقفين المغاربة، وذلك دفاعا عن القيم المادية والرمزية والحقوقية التي تعلي من شأن الإنسان وتؤسس لمغرب جديد قادر على الانطلاق بشكل جماعي نحو المستقبل بأمل حقيقي ومسؤولية ثابتة، وكذلك – كما ورد في نداء الوقفة – دفاعا عن المجتمع والإنسان والقيم وكل الجمال الذي يؤسس للحياة ويصارع القبح بكل تلويناته .
فماهي دلالات هذه الدعوة ؟
لما نتحدث عن المثقف المغربي، فحديثنا يستحضر مفهوم المثقف باعتباره فاعلا سوسيوثقافيا يتشابك مع السلطة بمفهومها الواسع وفي أبعادها السياسية والاجتماعية والثقافية والقيمية، وكذلك مع قضايا المجتمع، مع أسئلته وتطلعاته وانتظاراته، أما المقصود بسوسيولوجيا المثقف فهو محاولة الكشف عن بعض خصائص وتحولات الحقل الثقافي الراهن ومسائلة بعض آليات حضور المثقف في المشهد العام .
فلماذا سوسيولوجيا المثقف المغربي؟
من الراجح أن خروج دعوة من أوساط مثقفة تدعو الى جعل 26 مارس 2022 يوما وطنيا احتجاجيا للمثقفين المغاربة، له دلالات متعددة تعكس التمزق الذي يعيشه المثقف كامتداد لتمزق المجتمع المغربي بين مشاريع متعددة ومتنافرة بل وفي أحيان كثيرة متداخلة في ظل حقل اقتصادي وسياسي واجتماعي وثقافي حابل بفرامل الدمقرطة وعوائق التحول المنشود وهدر فرص الانتقالات المنتظرة، ومن ثمة فهو حقل مؤهل لاستدعاء حضور المثقف النقدي الذي يمتلك بالإضافة الى الرأسمال الثقافي والرمزي، شجاعة تفكيك جميع السلط والكشف عن الآليات الخفية والصريحة لإعادة إنتاج تلك السلط ومصادر شرعيتها ومشروعيتها المادية والرمزية.
إن من شأن هذه الدعوة أن تمنح مشروعية السؤال السوسيولوجي حول المثقف المغربي كذات جمعية وفردية من مواقع حقول مختلفة للإنتاج الرمزي، وهو السؤال عن الهوية ربما المفقودة أو التائهة أوالهشة أو المتداخلة مع هويات أخرى قد تفصلها مسافات نظرية ومعيارية شاسعة مع الثقافة والمثقف …فهل فقد المثقف المغربي هويته؟
المثقف بين المجتمع والسلطة
من الممكن أن نعبر عن السؤال المركزي المطروح أعلاه، من خلال العديد من الأسئلة الفرعية : من هو هذا المثقف على مستوى الهوية الاجتماعية، الشروط الاجتماعية لممارسة الثقافة؟ اي نموذج مثالي يمكن ان نشيده للمثقف في هذه المرحلة ؟، أية روابط تجعله في تماس واحتكاك مع بنيات المجتمع وسلطاته المختلفة و”المغرية” ودينامياته الاحتجاجية الصاعدة في ظل استراتيجية التفقير الاجتماعي والثقافي و”الانحدار الأخلاقي والقيمي ” في العلاقة بأخلاق الالتزام والتطوع وسلطة النقد والتفكيك ؟. ببساطة ماهي علاقة المثقف بالمجتمع؟ أو بعبارة أخرى ماهي طبيعة المجتمع المغربي راهنا؟، هل هناك تراكمات نظرية وأدبيات ومتن فكري وثقافي يقربنا من فهم تحولات هذا المجتمع؟، وهو متن فكري يعكس مستوى تطوير وتجاوز الإنتاج الكولونيالي وما بعد الكولونيالي حول المجتمع المغربي من مقاربات متعددة/ تاريخية، انتروبولوجية، سوسيولوجية/ ديمغرافية، اقتصادية…الخ؟، ماهي اتجاهات هذه التحولات في العلاقة بالتقدم والحداثة من جهة، وبالمحافظة والتقليد وإعادة إنتاج الاديولوجية الماضوية من جهة ثانية؟، كيف يمكن تفسير المجادلات الحادة التي يعرفها هذا المجتمع كلما تعلق الأمر بقضايا التحديث التي تمس البنية الذهنية والهوية العقائدية كما تمت صياغتهما تاريخيا وعلى امتداد عقود من الزمن؟، في وقت لا يكون لحضور المثقف ضمن هذه المجادلات مكانة ملفتة ولائقة اللهم استثناءات قليلة تقترب من هذه القضايا الشائكة برؤية علمية رصينة وجرأة الموقف والقول مما يعرضها لاستهداف تيارات التطرف الديني التي نمت وترعرعت في أحضان السلطة السياسية السائدة كثقافة لإعادة إنتاج واقع التخلف الثقافي ومقاومة كل مظاهر الحداثة والتقدم.
لا شك أن هذا السؤال الأخير حول علاقة المثقف بالمجتمع في هذه المرحلة بالذات يكتسي الوجاهة والأهمية اللازمتين بالمقارنة مع السؤال التقليدي الذي لم يعد مزعجا: ماهي علاقة المثقف بالسلطة رغم أن المسألتين غير قابلتين للفصل؟، مع ذلك، فإن ما يفسر الطابع غير المزعج لسؤال المثقف والسلطة هو تماهي معظم النخب المثقفة مع شعار السلطة المتمثل في “المشروع الديمقراطي الحداثي ” خلال نهاية التسعينات خاصة أن هذه الفترة شهدت ميلاد حكومة التناوب التوافقي ” وتبوء مثقفين بارزين لمراكز” السلطة الحكومية … فالسؤال لم يعد مصدرا للإزعاج كما كان من قبل خلال فترة النقاشات الابستيمولوجية والأديوسياسية التي كانت تحيط بسرديات كبرى وتعلق نظري وممارساتي بالخطاطة الفكرية التي وضعها ” كرامشي لنموذج ” المثقف العضوي” والمجتمع المدني في سياق منظور يعتبر سلطة المثقف والهيمنة الفكرية كجزء لا يتجزأ من السلطة المضادة للمجتمع المدني في دلالاته الواسعة ( الأسرة، المدرسة، الإعلام، الحزب، الجمعية…)، وهنا تبدو المساهمة الضرورية للمثقف في التحديد المقبول للمفاهيم والتصنيفات، والجواب عن أسئلة حيوية من قبيل : هل المجتمع رأسمالي، ليبرالي، ما بعد صناعي، مجتمع استهلاكي، وكذلك للمشاكل الاجتماعية من قبيل الفقر، الانحراف، المعاناة في الشغل؟، وتستهدف مساهمة المثقف ليس فقط ترسيخ رؤية معينة بل إبعاد الرؤى الوهمية واللامفكر فيها 1. إن ما يحاول ” غرامشي” توضيحه من خلال مفهوم الهيمنة هو العلاقة بين الوظائف السياسية للإنتاج الفكري والأسس الفكرية للهيمنة الاجتماعية.2
لن نجانب الصواب إذا صرحنا أن العناوين الرمزية لمرحلة المد الثقافي والحيوية السياسية (من بداية الستينات الى نهاية الثمانينات) كانت ترجمة لشعاراتها السياسية وتطلعاتها نحو مغرب آخر اكثر عدلا وكرامة وحرية، وبالتالي تجسدت تلك العناوين الرمزية في منابر ومجلات فكرية وممارسات وفضاءات جمعوية، كانت بمثابة منارات ثقافية ممانعة وعالية تعتبر على حد قول ماركس في تعريفه للفلسفة باعتبارها ” الخلاصة الروحية لعصرها ” ( لاماليف، الأساس، أقلام، الثقافة الجديدة، البديل، المقدمة، جسور..)،. ثم حيوية وعطاءات النسيج الجمعوي مسرحيا، سينمائيا، غنائيا، …الخ)، وهي بالنتيجة خلاصة روحية لانشغال المثقفين المغاربة خلال مرحلة السرديات الكبرى التي أنتجت نخبا نقدية وأعلاما فكرية ظلت بصماتها غير قابلة للمحو، بل وكسرت هيمنة فكر وثقافة المشرق من قبيل ” الجابري، العروي، باسكون، جسوس، الخطيبي، الللعبي، بلقزيز، فاطمة المرنيسي، الديالمي، والائحة طويلة.
إن انشغال الاجتهادات والإنتاجات الفكرية في الحقول المعرفية المختلفة، بقضايا السلطة واستراتيجيات إعادة إنتاج ذاتها وتحالفاتها وشرعياتها ومواردها الاقتصادية والدينية والقبلية والسوسيوتاريخية، وبالتالي بلورة أدبيات غنية ومتعددة حول قضايا الحريات والمساواة وقيم التحرر والديمقراطية، هو ما صاغ ملامح النموذج المثالي للمثقف النقدي الذي ينخرط في أسئلة المرحلة من موقع التشخيص والتفكيك وإنتاج الخطاب المزعج والسعي الى تبيئة “اليتوبيات” الكبرى القادرة على تغذية القطائع الممكنة مع واقع التخلف والانحطاط والاستبداد وخنق الحريات. وعلى الرغم من حقيقة أن لكل مرحلة طبيعتها وخصوصياتها، فإن هذا لا يمنع من الإقرار بأن جودة المنتوج الثقافي من حيث ارتباطه بالقلق المجتمعي وتمزقات الهوية ومعيقات التحول الديمقراطي، اعتراها التراجع والانحدار و”الحط من شأن ” المثقف في ظل التنامي المضطرد للوسائط الرقمية وتحولات الجامعة والحقل الأكاديمي في اتجاه التسويق للمثقف ” المرئي ” على المستوى السمعي البصري، والجاهز لتلبية طلب السلطة أو المقاولة سواء كخبرة، استشارة أو موقف، خاصة في ظل تخمة الخطاب حول ربط الجامعة بمحيطها الاقتصادي وبمستلزمات النسيج ” المقاولاتي”.
إن الإحاطة بهذه الأسئلة الشائكة والصعبة تستوجب رؤية شاملة وسوسيوتاريخية تستند على أبحاث أمبيريقة ومداخل نظرية قادرة على تشييد “براديغمات” تسعف على تفسير التحولات التي مست المثقف وواقع الثقافة في المغرب في مختلف حقولها في ارتباط وثيق بتحولات المجتمع المركبة والمتناقضة والمتسارعة والبعيدة عن ممكنات إحداث القطائع الضرورية، فالمرجعية المهيكلة لوعي المجتمع تكاد تماثل المرجعية المهيكلة لاديولوجية السلطة أي ” التغيير من داخل الاستمرارية ” أو التحول من داخل الثبات ” في سياق مشروع أيديولوجي تلفيقي يحاول الجمع بين التقليد والحداثة من خلال رؤية محافظة أو بمعنى آخر، هندسة تصور محافظ للحداثة يستجيب لمستلزمات اللحظة السياسية والسوسيوثقافية والتي تتأرجح بين استدعاء التقليد تارة والحداثة تارة أخرى وذلك في السياسة والثقافة والاجتماع، ويعبر هذا التمزق عن ذاته على مستوى المجتمع الذي يبدو في الظاهر متعطش جدا الى الحداثة من خلال نمط العيش والاستهلاك والرغبة في الاستفادة من مكتسبات الحداثة من الناحية المادية والتقنية، وفي نفس الوقت معاداتها على المستوى الرمزي ورفض قيمها الثقافية والحقوقية خاصة على صعيد الحريات الفردية وعلاقة المرأة بالرجل، وهو تمزق يحيل على البنية السوسيونفسية للإنسان المقهور ولسلطة “باتريمونيالية ” تستمد أساب وجودها وسيطرتها من هذه البنية المشوهة ذاتها. إلا أن العديد من الوقائع والمؤشرات تترجم تحولات جارية بشكل موضوعي سواء على مستوى التطلع الى الديمقراطية وكرامة العيش والحريات الفردية والجماعية، وكذلك الحضور النسائي المتدحرج بالفضاء العمومي في بعديه المادي والافتراضي.
المثقف بين الاستكانة والممانعة
لا مندوحة أن ممارسة نوع مما يسميه ” ميشال فوكو ” بأركيولوجيا المثقف، تساعد على فهم الصرخة شبه جماعية لجزء من “الأنتلجنسيا” المغربية التي تدعو الى إخراج المثقف من دائرة النسيان والتغييب والإدانة، أو على الأقل الكف عن تنصيب محاكمات غير عادلة له كأننا أمام ”بيان للمثقفين المغاربة ” بشكل يجعلنا نستحضر نصا من كتاب ” سوسيولوجيا المثقفين ” يقول فيه صاحبه “ عادة ما يتم ربط الصورة الجديدة للمثقف ب “بيان المثقفين “، المنشور سنة 1898 دفاعا عن الكابيتان ” دريفوس ” الذي اتهم ظلما بالخيانة من طرف القضاء “3 .
لكن الذي يستحق التأمل والدراسة، هو التحولات السلبية التي تتعرض لها مكانة المثقف في المجتمع طالما أن القرب من السلطة ونيل رضاها أصبحا في عداد الواجهات المطلوبة خاصة أن هاته السلطة تفوقت من خلال أجهزتها الاديولوجية في تطبيع وتطويع الحقل الثقافي باسم الشراكة والحكامة وصناعة الثقافة وجدلية الأصالة والمعاصرة والمشروع الديمقراطي الحداثي، وبالتالي أصبح الهاجس المركزي الذي يسيطر على أغلب منتجي المحتويات الرمزية هو البحث عن منصات استعراض الذات وتسويق المنتوج، ولا يهم طبيعة تلك المنصات ورهاناتها سواء كانت منصات واقعية أو افتراضية،.بمعنى آخر هناك هيمنة نموذج “المثقف “الخبير” الذي يقول عنه ” ألان باديو ” “إن الخبير، الذي يتعرف غالبية أكاديمي الجامعات اليوم على أنفسهم فيه، يمثل النموذج المركزي للتفاهة ..فوظيفة الخبير هي تحويل الاعتبارات الاديولوجية والأفكار الصوفية الى عناصر معرفية ذات مظهر نقي. “4.
حقيقة، إن المثقف المغربي باعتباره منتجا للقيم الرمزية وفاعلا سوسيوثقافبا، تعرض للكثير من الهدم المادي والرمزي، وتراوحت معاول الهدم بين مشاريع المحافظة والتقليد والتسليع والانتصار للمثقف “الفقيه” والمثقف الخبير والمثقف الأكاديمي “المحايد” في سياق هواجس المشهد الاستعراضي وسيادة التفاهة إذ ” كلما تراجعت الأوليغارشية الى عاداتها السيئة (الفساد، التدليس والتفاهة) سارع “الخبراء ” الذين يتقاضون رواتبهم منها الى إنقاذها “5، وبالتالي كيف يمكن لمنتج القيم الرمزية غير المتصالحة مع استراتيجيات الترهيب والترغيب، أن يظل صامدا أمام خطط تبخيس تلك القيم لصالح إنتاج القيم المادية والمعنوية التي تعكس مصالح أقلية رأسمالية ريعية تحتكر ثروات البلاد بما فيها سلطة “تسليع، رسملة وترييع ” الثقافة كإحدى القلاع الحيوية لمقاومة التخلف والانحطاط والرداءة؟…أو ما يسميه بعض رواد مدرسة فرانكفورت ” النقدية خاصة أدورنو وهوركهايمر ” بهيمنة الصناعة الثقافية أي خضوع صناعة الثقافة للمراكز التجارية ووسائل الإعلام الجماهيري ومنطق التسليع حيث ” إن كل ما يقال، كل معلومة، وكل فكرة، كل ذلك قد تم إعداده مسبقا من قبل مراكز الصناعة الثقافية ” 6 .هذا بالإضافة الى العجز عن القطع مع شعور يسكن أعماق غالبية المثقفين، ألا وهو الشعور الداخلي العميق بالهزيمة الذاتية الناتجة عن عوامل مركبة من قبيل هشاشة أدوات النقد والمقاومة والتعبير عن الممانعة كحالة اتحاد كتاب المغرب التي تبعث على الأسى والأسف، كساد سوق المقروئية وتسارع الوسائط الرقمية التي وجد المثقف نفسه أمامها حائرا فهجرها إلا قلة قليلة ظلت تبصم حضورها من خلال صفحات مشرقة وشرائط سمعية بصرية غنية، ثم غياب السرديات الكبرى التي من شأنها خلق وإغناء منتديات الحوار والنقاش كالحداثة ومناهضة العولمة والمقاومات الثقافية والحقوقية والتحول الرقمي وقضايا الديمقراطية والتقدم والاشتراكية،ـ في مقابل تسويق كما أشرنا سابقا نموذج “المثقف الخبير ” الذي كلما نادت عليه السلطة من خلال مؤسسات “الحوكمة ” ولجان “التنمية ” تجده في كامل الجاهزية والاستعداد للانخراط في إنتاج معرفة “تقنوقراطية ” هي أقرب الى الهندسة الاجتماعية منها الى المشروع الثقافي كمشروع نقدي تحرري، ومستقل عن جميع السلط إلا سلطة الحقيقة والحجة، وغير قابل للتطويع والترويض.
إن هذا التشخيص لا يعني أن المثقف غائب، بل إن تجليات عدم الاعتراف الرسمي وغير الرسمي بأدوار المثقف والمناداة عليه مناسباتيا يجعل من الحضور غيابا وتغييبا في ذات الوقت…فعدم الاعتراف أو الاعتراف الرسمي “الصوري ” يعبر عن نفسه من خلال التفاتات ظرفية للمثقف وأحوال المثقف لحظة العجز الصحي أو الوفاة، أما تجاهل المجتمع فيترجمه السوق القرائية ودرجة حضور المسألة الثقافية في برامج وأجندات الأحزاب السياسية والمجتمع المدني الذي أصبح نسيجه الجمعوي يعج بصناعة ثقافية “تنموية تدبيرية ” تحت الطلب، وقد عبر عن هذه المفارقة الفيلسوف ” سارتر ” بقوله أنه ” أحيانا في الشرق لا ينظر الى المثقفين بعين الارتياح من الطبقة الحاكمة عامة، وللأسف في بعض الأوقات من الطبقات الكادحة ذاتها التي وإن كانت تجل العالم وتحترمه باعتباره رجل علم ومعرفة ولكن ترتاب منه إذا كان مثقفا’ مع العلم أن ما يقصده سارتر بالمثقف هو ” الذي يتدخل في ما لا يخصه ..”7… كل هذا. في ظل سياق عام تطبعه خوصصة الخدمات العمومية وتبخيس المدرسة والجامعة وهيمنة الإعلام ذي البعد الواحد ، وهي كلها شروط تغذ واقع إعادة إنتاج الاصولية والماضوية والانحطاط الاجتماعي والقيمي وضحالة الذوق الفني العام وتفشي قيم الوصولية والزبونية والفردانية المتطرفة، وبالتالي إعدام الاعتقاد في تكافؤ الفرص وثقافة الجهد وروح التطوع…
من المسؤول عن هذا الوضع الحابل بعوامل الغضب الاجتماعي وعدم الرضى؟، لماذا تنتهي كل حركية للرفض والاحتجاج إلى نتائج متواضعة؟، كيف يمكن تفسير وضعية المثقف والثقافة في ظل جدلية القمع والتشتت الخطير الذي يميز الحقل السياسي والاجتماعي والثقافي؟، أليس هذا التمزق عائقا هيكليا أمام حافز ولادة وتطوير روح التنافس والتدافع في ظل القتل المتواصل للحظة الديمقراطية فكرا، قيما وتدابيرا حيث تستمراستراتيبجية احتكار الفضاء العمومي وإفراغه من كل مضمون سياسي، ثم صناعة مشهد الانتخابي باعتباره دعامة أساسية لإعادة انتاج هيمنة قوى الرأسمال الريعي التبعي؟. لكن من زاوية أخرى معاكسة وطموحة ، كيف يمكن قراءة حماسة المثقفين لحظة انبثاق وصعود ديناميات سياسية ممانعة ( مثلا الانخراط في حركة 20 فبراير سنة 2011 ومواكبة تطوراتها، عريضة مساندة الأستاذة نبيلة منيب كمرشحة لفدرالية اليسار الديمقراطي .سنة 2016 ..)، وفي نفس الوقت التواري الى الخلف لحظة الجدل الاجتماعي الاستراتيجي المؤسس لمجتمع الغد، مجتمع الديمقراطية والحداثة ؟، من قبيل النقاش حول مشروع القانون الجنائي والقضايا الشائكة حول الحريات الفردية مثل حرية المعتقد، الإجهاض، عقوبة الإعدام، بالإضافة الى مصادرة الحق في حرية الرأي والتعبير واعتقال ومحاكمة صحفيين ومدونين ومراقبة حياتهم الخاصة؟، كيف يمكن قراءة ” الصمت المتواطئ ” لمعظم مثقفي المرحلة إزاء قضايا التطبيع الشامل وضمنه التطبيع السوسيوثقافي والتربوي مع الكيان الصهيوني في وقت شكلت فيه فلسطين قلعة وروح وخريطة الفعل الثقافي الممانع في المغرب؟، ألا يمكن القول مع سارتر أن المثقف هو ” محل ارتياب الطبقات الكادحة لأن حالته الموضوعية تجعله مشاركا لأصحاب السلطة، فهو في الواقع جزء من فائض القيمة ويعيش عموما بين الطبقات المتوسطة كالبورجوازي الصغير، وهو ليس مع ذلك في وضع الطبقات الكادحة “8.
من الاحتجاج الى “المانيفست” : النقلة المستحيلة !
ختاما، يمكن القول أن اليوم الاحتجاجي لجزء من المثقفين المغاربية في أكثر من 46 نقطة جغرافية من البلاد، هو نقطة نظام تعكس من جهة أولى استياء عميقا وخيبة أمل المثقف إزاء الواقع والذات، ومن جهة ثانية تترجم طموح المثقف المشروع لتجاوز فردانتيه وكذا تجاوز بنيات جماعية معطوبة تستبعد ممارسة تحليل سوسيسولوجي ذاتي على ذواتها كما قال “بيير بورديو ” عن مثقفي فرنسا في الخمسينات والستينات في نقده لأطروحة “سارتر” حول “أسطورة المثقف الحر ” أنه “هناك مثقفين يطالبون بمساءلة العالم، لكن قليلون هم الذين كانوا يطالبون بمساءلة عالم المثقف نفسه” 9 .
إن البنيات الموضوعية للإنتاج الثقافي وواقع الثقافة والمثقفين في بلادنا، لهما وزنهما في تفسير تراجعات الحقل الثقافي باعتباره حقلا صراع من أجل الهيمنة من موقع القوى الاجتماعية والمشاريع السياسية المتنافسة على قاعدة عدم التكافؤ من حيث الرساميل المادية والرمزية، لكن هذا لا يعفي مسؤولية المثقف “النقدي ” في إنتاج دينامية جماعية بديلة تتوخى الممانعة، التنظيم والتأثير من مواقع مختلفة، وبالتالي انتزاع الاعتراف الاجتماعي والمؤسساتي والتأسيس، من جهة أولى للقطيعة الممكنة مع استراتيجية التبخيس والنسيان المنهجي، ومن جهة ثانية المنافحة الصريحة عن الأفق الديمقراطي الكوني والإنساني، والمساهمة النظرية والعملية في ترجمة مضامين ذلك الأفق على مستوى صياغة التعبير الثقافي، القيمي والمؤسساتي والهوية المتعددة والمنفتحة في تفاعل جدلي مع كشف الستار عن الفوارق الاجتماعية والمجالية المتصاعدة، والتطلع الجماعي الى مجتمع الحرية والكرامة والعدالة الاجتماعية. . لكن يبقى السؤال العريض والحرج هو : كيف يمكن لتلك الصرخة، نقطة نظام، أن تتجاوز الطابع المناسباتي وتتحول إلى دينامية جماعية (مانيفست) منتجة ومؤثرة في مختلف حقول الصراع الاجتماعي العام؟…
الهوامش
1 Louis Pinto. La Sociologie des intellectuels. La Découverte. Paris. 2021. P : 26
2 Ibid. p : 26
3 Louis Pinto. La Sociologie des intellectuels. La Découverte. Paris. 2021. p : 7
4 آلان دونو. نظام التفاهة. ترجمة وتعليق د. مشاعل عبد العزيز الهاجري. دار سؤال للنشر. 2020. ص 81
5 نفس المرجع السابق. ص : 197
6 يان سبورك. أي مستقبل لعلم الاجتماع في سبيل البحث عن معنى وفهم العالم الاجتماعي. ترجمة د.حسن منصور الحاج . المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر والتوزيع. 2009. ص 70
7 جان بول سارتر .دور المثقفين في المجتمع المعاصر. مجلة وجهة نظر. العدد 30 خريف 2006..
8 جان بول سارتر .دور المثقفين في المجتمع المعاصر. مجلة وجهة نظر. العدد 30 خريف 2006..
9 حسن أحجيج. نظرية العالم الاجتماعي. قواعد الممارسة السوسيولوجية عند بيير بورديو. مؤمنون بلا حدود. 2018. ص 284