انتفاضات ملونة..

أعاد اختيار المحتجين ضد سياسات ماكرون الاقتصاديةوالاجتماعية للسترات الصفراء رمزا لانتفاضاتهم الجدل حول ما عرف بالثورات الملونة، تلك الثورات التي بدأت في ما كان يعرف بأوروبا الشرقية،وانتقلت لما يصرون على تسميته بمنطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا (مينا)، وهي تسمية تعكس المركزية الغربية الأوروبية في تحديد جهات العالم على الخريطة، ومعلوم أن تلك الثورات لم تكن بعيدة عن مختبرات تغيير الأنظمة بما يخدم شكل النظام الدولي الملائم لاستمرار الهيمنة الأورو-أطلسية الحاضنة للنيوليبيرالية المتوحشة،فالثورة البرتقالية في أوكرانيا، والثورة الوردية في جورجيا،والثورة الخضراء بإيران، كلها ثورات كانت مسبوقة بتداريب نظرية وعملية تخص ما سيعرف ب “المقاومة السلامية/ اللاعنفية”،، وقد كانت لمنشورات مؤسسة إينشتاين بالولايات المتحدة الأمريكية لصاحبها جين شارب، والتداريب التي كان يشرف عليها معهد “كانفاس” بصربيا دورا بارزا في تأطير هذه الثورات، من حيث آليات التعبئة والتحريض والتشبيك وتوظيف تكنولوجيا الاتصال الحديثة،بما فيها التمهير على تطبيقات لتجنب المراقبة الإلكترونية لأجهزة الاستخبارات، كان هدف هذه الثورات التي كانت مدعومة بميديا قوية، سواء من طرف قنوات إخبارية تعمل 24 ساعة على 24 ساعة متوالية،أو من طرف توجيه الرأي العام الدولي من خلال عمل متقن على منصات الشبكات الاجتماعية التي كانت في بداياتها، كان الهدف هو نزع أي مشروعية أخلاقية عن الأنظمة المراد تغييرها، عبر خيار: اللاعنف في مواجهة عنف الدولة، مع نقل مشاهد فض المظاهرات بالقوة مباشرة إلى قارات الدنيا الخمس،لخلق رأي عام متضامن مع الثوار الجدد.

في المنطقة العربية الإسلامية تأخرت الثورات الملونة، والتي كان مخططا لها حسب دراسات متعددة أن تنطلق من إيران، كان اللون الأخضر قد اختير سلفا لتسمية تلك الثورة،وكان الاشتغال قويا على كيفية مراوغة رقابة النظام الإيراني القوية على شبكة الأنترنت، وقد ثبت لاحقا تورط “تويتر” في تمكين حركة الطلاب الإيرانيين من تطبيقات بديلة في حالة حجب خدمة “تويتر”.

لكن مكر التاريخ الهيغيلي جعل الانتفاضة تنطلق من الهامش التونسي، من سيدي بوزيد تحديدا،، هل كانت تونس ضمن مخطط الثورات الملونة؟

لقد كانت ثمة تدريبات خضع لها نشطاء شباب،وكانوا في أغلبهم من المدونين، من المنطقة العربية الإسلامية، أشرفت عليها ما سميت بأكاديمية التغيير، التي كانت تتلقى تمويلات قطرية، بل إن من هؤلاء المدونين من خضع لتدريبات في قناة الجزيرة في ميدان صحافة “المواطن”، أي ذلك النوع الذي سينتشر فيما بعد انتشار النار في الهشيم، من خلال قدرة مواطنين على خلق الأحداث ونقلها وتقاسمها وتعميمها بسرعة تفوق أحيانا سرعة الوسائل الإعلامية التقليدية.

هده التدريبات التي أشك في أن يكون الشباب الذين خضعوا لها مدركين لماهيتها والسر من ورائها، لم يكن مخططا أن تنطلق في تلك السنة الاستثنائية (2011)، لقد كان التركيز منصبا على الانتخابات الإيرانية لتفجير الثورة الخضراء، فكل الثورات الملونة كانت تنطلق مباشرة بعد الانتخابات للتنديد بالتزوير الذي لحقها، وداعمة لمرشح يدافع عن سياسات السوق النيوليبيرالية، ويحظى بدعم أمريكي أوروبي، لكن حصل ما لم يكن متوقعا في تونس، إذ أدت تداعيات انتفاضة الجنوب بعد استشهاد البوعزيزي إلى انفجار طنجرة الضغط،، حاول مخططو الثورات الملونة تدارك الأمر بتوجيه بعض ممن شاركوا في تدريبات “أكاديمية التغيير” لإطلاق الثورة البيضاء، وجعلها عنوانا للانتفاضة،، وفي هذه اللحظة حصلت مواجهة رمزية غير مرئية بين “ثوار” اللون الأبيض،الذين كانوا يستلهمون تجارب أوكرانيا وجورجيا، وبين ثوار “الياسمين” الذين كانوا يستلهمون ثورات الاشتراكيين ضد الأنظمة العسكرية (ثورة القرنفل في البرتغال)، لقد كانت أحداث الحوض المنجمي التي كانت طرية في الأذهان ما زالت، وتقاليد الاتحاد العام التونسي للشغل والاتحاد العام لطلبة تونس،وحوارات أكتوبر بين إسلاميي النهضة واليسار بشقيه القومي والماركسي، والخلفية اليسارية للحركتين النسائية والحقوقية دورا في تحصين ثورة الياسمين من مغبة تحولها لقطعة في شطرنج الثورات الملونة..

في مصر، كان المخطط هو إطلاق الثورة السوداء، ويتذكر الجميع كيف أن الاحتجاجات التي كانت تشارك فيها حركة 9 أبريل مدعومة بحركة “كفاية”، كان يغلب على الشباب فيها ارتداء القمصان والتيشورتات السوداء،، استثمر شباب الطبقة المتوسطة ممن شاركوا في دورات أكاديمية كانفاس الصربية وبرنامح “قادة التغيير” في السويد،و دروس أكاديمية التغيير في قطر في حادث مقتل الشاب خالد سعيد،لإطلاق شرارة انتفاضة ضد الأمن المصري كمحطة أولى، والملاحظ أن تنامي موجة الاحتجاجات كانت بعد انتخابات مجلس الشعب المصري التي عرفت تزويرا كبيرا،كان بمثابة الفرصة لإشعال الثورة السوداء كما وقع في بلدان مشابهة ، وكان خيار البرادعي جاهزا، لكن تداعيات الربيع التونسي عجلت بإشعال الفتيل المصري،وفق نظرية الدومينو،، فتداعت باقي القطع: اليمن التي تراقب مضيق هرمز، وإيران التي تشكل تهديدا استراتيجيا لأمن إسرائيل،فسوريا الحليف لإيران والتي قد تصبح متحكمة في خط أنابيب الغاز عبر شرق المتوسط لإيجاد منافذ تعوض هيمنة روسيا على مبيعات الغاز لأوروبا،ثم ليبيا التي تنام على خزان استراتيجي من الطاقة بمساحة كبيرة وعدد سكان قليل… واللافت هو قمع انتفاضة البحرينيين الذين يعانون حكم أقلية دينية سنية بعنف وتدخل عسكري أجنبي مع صمت دولي كان يندد بما هو أقل في مناطق أخرى.

هل هذا يعني شيطنة لصرخات الميادين المتعطشة للكرامة والحرية والديموقراطية والعيش الكريم؟

بالطبع ليست السياسة متوالية خطية، بل هي صراع مصالح ومبادئ،، فقد حاولت النخب في المنطقة (أحزابا كانت أم مثقفين وتنظيمات) أن توجه هذه الانتفاضات نحو الأفق الوطني، الذي يعني التخلص من الاستبداد المحلي دون الوقوع في شرك التبعية للاستعمار الجديد،، حققت هذه النخب انتصارات نسبية في تونس، واختراقات كبيرة في الثورة المصرية، قبل أن تتحرك الثورة المضادة المدعومة خليجيا، كما شاركت في بداية الانتفاضة السورية حين حاولت تسييجها من التدخل الخارجي عبر رفع اللاءات الثلاث: لا للمذهبية، لا لعسكرة الانتفاضة،لا للتدخل الخارجي،، لكن المكر الأمريكي الخليجي التركي كان أقوى من قدرات الثوار الحقيقيين الذين انسحبوا  بعد عسكرة الانتفاضة من قبل الجيش السوري الحر الذي فتح الأبواب للمليشيات المتطرفة.

أما في المغرب، فكانت حكاية أخرى، لم يكن المغرب موضوعا على رادارات الثورات الملونة، وكانت حركة عشرين فبراير التقاء موضوعيا بين تغييرات في الهرم الديموغرافي،وبين انخراط الشباب في الثورة الرقمية التي فتحت هوامش للتعبير الحر، وبين التأثر بما كان يقع في مصر وتونس تحديدا،، لذلك لم تلاقي أي اهتمام أو دعم خارجي، كانت منذورة منذ البدء لمصيرها، ولفهم ذلك يكفي تذكر كيف كانت تركز الجزيرة على مسيرات درعا السورية وتنقلها مباشرة،ولا تخصص سوى حيز صغير لمسيرات حركة عشرين فبراير في النشرة المغاربية،مع العلم أن زخم مسيرات المغرب آنذاك كان أقوى من المسيرات في درعا، على الأقل عدديا،،

حققت حركة 20 فبراير أكثر مما كانت تسمح بها قدراتها الذاتية، وأقل مما كان يسمح به الواقع الإقليمي الذي كان مفتوحا على كل الاحتمالات، وهذا ما يفسر الردة السياسية والحقوقية السريعة بعد تبين انتصار الثورات المضادة.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى