ملف اليوم العالمي للشعر
الشاعر سامح درويش ل «الطريق» : «الهايكو العربي اليوم هو مقترح شعري يغني الشعرية العربية ويرفدها بأسئلة وتقنيات وتصورات جديدة لتحديث نفسها..»
« إن دور الشعر هو أن يعارض بواسطة الكلمات منابع ومفعولات الأصوليات، لأن النزعة العسكرية العدوانية قبل أن تكون استراتيجية وتدخلا على أرض الواقع فهي خطاب، ودور الشعراء هو أن يدعموا الحياة وأن ينهضوا بها عبر الحوار والتسامح وأيضا في خِضم المقاومة من أجل صيانة وحماية الأسس الكونية للإنسانية. إن دور الشعراء أيضا هو أن يفتحوا حقولَ تفكيرٍ أخرى، وأن يُبدعوا وجهاتِ نظرٍ أخرى لمواجهة تسلط الفكر الأوحد وهيمنته.» ◆ الشاعرة الفرنسية نيكول باريير
1- الطريق: ماذا تعني لك الكتابة الشعرية ؟
الكتابة الشعرية – بالنسبة لي اليوم بعد تحولات عميقة في فهمها – هي محاولة لإعادة الأشياء إلى براءتها الأولى، وبالتالي المؤاخاة بين البياض والسواد بما يتيح أفقا رحبا وحرا للمخيال واستكشافا لوظائف الحواس وبالتالي للنص. إن الكتابة هي طاقة متجددة لإضاءة الفراغات القائمة في ذات كل من المبدع المتلقي معا، هي القوة الجامحة لتخطي حواجز العجز أمام الكمال والاكتمال، هي مقاومة ضد مكننة الإنسان، هي حضور للإبداع بدل المبدع، هي حضور للنص بدل النّاص، هي ترياق بيولوجي وجمالي ضد هيمنة وانتفاخ ذات المبدع وتورمها.. من هنا فإن الكتابة الشعرية – في اعتقادي – ليست بذخا جماليا ولا إكسسوارا إبداعيا أو مظهرا لـ « صنوبيزم» أدبي امتيازي، بل هي انتماء لأسئلة وجودية غائرة، واحتفاء بالإنسان في جوهره الإنساني المؤطر بقوانين الطبيعة ونواميس الوجود. هكذا فأنا أكتب كي أستطيع مواصلة الحياة. أكتب كي لا أتأسن. وأكتب لكي أعيد اكتشاف الكون من زوايا نظر مخالفة ومستجدة. أكتب كمن يرمي حجرا في بركة الشعر العربي ..
2- الطريق: تخوضون اليوم تجربة متميزة في الكتابة الشعرية في إطار « شعر الهايكو».. ما الجديد الذي تبشر به هذ التجربة ؟
نعم هي تجربة.. فالهايكو العربي اليوم هو مقترح شعري يغني الشعرية العربية ويرفدها بأسئلة وتقنيات وتصورات جديدة لتحديث نفسها، وهذه التجربة لا تدعي أبدا أنها ستعوض أي لون شعري آخر، فالهايكو بالرغم من منشئه الياباني قد أصبح اليوم مكونا جماليا في مختلف الشعريات واللغات العالمية، وأن الشعرية العربية هي أقرب ما تكون إلى عمق الهايكو، أولا نظرا لانتمائها عموما إلى مناخ الفلسفات الشرقية وجمالياتها، وثانيا لأنها في الأصل شعرية البيت الواحد في نفسيْن، وشعرية مشهدية بامتياز، ناهيك عن إفرازها المستمر لأشكال من التكثيف الشعري والفني، بدءا من التوقيعة والرباعيات إلى الشذرة والومضة الشعريتين المتاخمة كلها لشعر الهايكو.. ولعل نجاح تجربة الهايكو العربي اليوم تتمثل أساسا في إمكانية نجاح هذا اللون الشعري في النفاذ إلى الذائقة الشعرية العربية، وفي إمكانية مد جسور جديدة بين الشعر العربي وجمهوره من خلال توفير فرصة لطرح أسئلة عميقة على النموذج الشعري العربي، ومحاولة الانخراط في أفق مستجد لتحديث البلاغة العربية ، وتجديد أدواتنا الجمالية بما يمكن أن يساهم في تحرير القصيدة العربية من النموذج التقليدي شبه المقدس وبالتالي المساهمة في تغيير الإنسان العربي بالمساهمة في تغيير أفقه وذوقه الجماليين، وفتح أفاق للالتحام والتفاعل مع الشعريات العالمية.
3- الطريق: تتعرض تجربة شعر الهايكو لبعض الانتقادات .. كيف تفسرونها؟ وهل تعتبرونها ظاهرة طبيعية عادة ما تواكب كل ما هو جديد ؟
بالرغم من استحضاري لإرهاصات تجربة الهايكو بالمغرب بدءا من انتباه المفكر المتفرد عبد الكبير الخطيبي إلى أهمية المثاقفة العربية اليابانية، وكتابته لديوانه « المناضل الطبقي على الطريقة الطاوية» الذي يدور في مدار الهايكو، مرورا بتجربة محمد بنيس وربما غيره من الشعراء المغاربة ( الكبار)، وصولا إلى الموجة الراهنة من شعراء الهايكو، فإنني أعتبر أن تجربة الهايكو بالمغرب ما تزال في طور التأسيس لنفسها، في تفاعل كبير مع الأشكال الشعرية المجاورة، ويمكن أن نطمئن إلى النمو والارتقاء الذي تشهده عدد من التجارب التي تتخذ من الهايكو مناطا لها، حيث تظهر كل يوم أسماء تنتمي إلى هذا اللون الشعري، كما نلاحظ صدور دواوين هايكو كاملة تختار صراحة تجنيس أعمالها باسم الهايكو. نعم ما تزال التجربة تنتظر نقادها الذين عليهم أيضا أن يكتسبوا الأدوات والمناهج النقدية المناسبة لهذا اللون الشعري. وبالمقابل لا يفوتني أن أشير إلى أن تنامي حضور هذا اللون الشعري في مشهدنا الثقافي لا يفتأ يثير نقاشا حول شرعية وجود الهايكو في دائرة المنتوج الشعري المغربي، وهذا أمر عادي جدا، لأنه قبل الآن تم طرح النقاش نفسه في مواجهة الرواية والمسرحية والسينما وقصيدة التفعيلة وقصيدة النثر، وهي كلها وافدة من مدارات ثقافية أخرى بفعل المثاقفة دائما وفعل التلاقح الثقافي الإنساني المشروع دائما أيضا، وهو ما تم الانتباه إليه الآن في المغرب بالنسبة للهايكو، ويمكن أن نقول إن احتضانه ( أي الهايكو ) قد حصل بمشهدنا الثقافي المغربي، وأن تلقي هذا اللون الشعري يتطور يوما عن يوم، بل ويتم التفاعل معه بشكل إيجابي في الملتقيات والمحافل الشعرية، ويتم تداوله وتلقيه بشكل إيجابي ومشجع. غير أن هذا لا ينفي أنه ما تزال وستظل هناك جيوب لمقاومة هذه التجربة والتنقيص منها وأحيانا السخرية منها بصيغ واضحة أحيانا ومبطنة في أحايين أخرى، وذلك في نظري نابع من عدم معرفة هذا اللون الشعري وعدم إدراك جمالياته حتى من لدن نخبة من المثقفين والشعراء، أو من دعاة الحفاظ على «الجنس الشعري» العربي، الذي لم تعد هناك معنى للمنافحة عنه بروح منغلقة، أو حتى – أحيانا- من الرغبة الخفية والمعلنة في التقليل من تأثير الهايكو على الأصوات الشعرية الناشئة، ومن الرغبة المجانية في تقزيم عدد من التجارب الوضاءة في هذا الباب. ولعلك تقرأ هنا وهناك بعض الآراء، وبعض التدوينات الطائشة التي تستهدف تجربة الهايكو بالمغرب، وهو أمر طبيعي بالنسبة لمن يقدسون النموذج الشعري العربي التقليدي، ويرون في كل جديد تهديدا لتلك القدسية، بيد أن غير الطبيعي هو أن تجد – أحيانا- المدافعين عن الحداثة الشعرية العربية يصطفون إلى جانب سدنة النموذج التقليدي المحافظ في مهاجمة الهايكو. غير أن للهايكو طريقة أخرى في السجال.
4- الطريق: كيف تنظرون إلى الإنتاج الشعري ضمن المشهد الثقافي المغربي الراهن ؟
لقد ساهمت عدد من التجارب الشعرية المغربية منذ فترة الاستقلال في التأسيس لمشهد شعري مغربي حديث، بعيدا نسبيا عن ذلك الانغلاق و الانطواء تحت جبة الفقيه، وقد شكلت نخبة من الشعراء طلائع هذا التأسيس، وقد استطاع الجيل الموالي من تكريس هذا التأسيس وشق آفاق التفرد في رسم ملامح معاصرة للشعر المغربي الحديث، ويمكن أن نستحضر هنا تجارب عدد من شعراء الربع الأخير من القرن الماضي وبداية القرن الحالي، وما يزال المشهد الشعري المغربي يتنوع بتنوع تجاربه التي تصب في مجملها في اتجاه فرز تجربة شعرية مغربية لها فرادتها. ولعل تكون السمة الأساسية للشعرية المغربية الحديثة أن أبوّتها إنسانية، منفتحة على التيارات والحساسيات الفنية العالمية، وهي لا تحقق تراكمها في إطار المحلية المحضة، ولا تنمو في اتجاه عمودي من جيل لجيل أو من شاعر لآخر يأتي بعده، بقدر ما تحقق فرادتها من انفتاحها وتفاعلها الإنساني الأفقي في سياق بحث كل شاعر – على انفراد – عن تركيبة شعرية تمكن من التفاعل مع الشعريات العالمية، وبالتالي من إنصاف المغرب شعريا، إذ في هذا السياق بالذات جاءت تجربة الهايكو بالمغرب ليعزز المشهد الشعري الوطني ويساهم في تخصيبه، باعتباره اقتراحا جماليا مختلفا وليس بديلا لأي نوع من أنواع الشعر، ولعل أن أوْجُهَ قوة تجربة الهايكو المغربي تتمثل في قدرته في وقت قصير على التعبير عن حضوره في الشعرية المغربية ، وقدرته على طرح أسئلة عميقة على المشهد الشعري المغربي برمته، وكذا قدرته على لفت الانتباه إلى عدد من القضايا الفنية والجمالية المرتبطة بمفهوم الحداثة أساسا، وكذا في تمكنه من استقطاب عدد من الأصوات الشعرية، بل ومساهمته في استعادة الشعر تدريجيا لجمهوره، وما كان ذلك ليحدث لولا توجه هذا اللون الشعري بهدوء نحو التأسيس لتقاليد شعرية مغربية وإمكانات جمالية جديدة، بعيدا عن المنبرية والإنشاد وأحابيل البلاغة التقليدية وأثقال المجاز التي أنهكت الشعر العربي. أما نقط ضعف هذه التجربة فتتمثل أساسا في عدم الاطلاع على المقومات الفنية للهايكو ، مما يجعله عند الكثير ممن يكتبونه وعند المتلقين يلتبس بالشذرة أو الومضة الشعريتين وبالحكمة بل وبالقصة القصير جدا أحيانا. وفي عدم ظهور نقد قادر على مواكبة تجربة الهايكو اعتمادا على أدوات نقدية وتحليلية غير تلك المألوفة في نقد الشعر المتعارف عليه، كما أن استسهال كتابة هذا اللون الشعري يحمل البعض على تسفيه التجربة برمتها من خلال المحاججة بتلك الأصوات والنصوص الضعيفة التي لا تنتمي في الحقيقة للهايكو، لذلك فإنني أعتبر أن مهمة شعراء الهايكو المغاربة والعرب عموما تبدو صعبة من أجل إقناع المتلقي الذي صنعت ذائقته الشعرية قرونٌ من النموذج أو النماذج الشعرية المكرسة، فيما يحاول الهايكو أن يسائل هذه النماذج ويجترح آفاقا جديدة لتطوير المشهد الشعري المغربي.
« نحلم كثيرا بأن تكون السماء بيتا شعريا، وأن تكون نجومها استعارات».الشاعر مصطفى ملح
من المفترض أن يكون الشعر منارة، وأن يكون الشاعر بحارا يحارب الأمواج للوصول إلى تلك المنارة. هذا هو ما يجب أن يتحقق، غير أن ما يحدث اليوم هو النقيض. الشاعر الذي كان أمس زعيم قومه وناطقا رسميا ومعبرا عن طموحاتها وآلامها، صار اليوم منبوذا وعابر سبيل وكائنا منفيا في قارعة الطريق. بالنسبة إلي، لن أكون استثناء، فأنا أحد المنبوذين داخل مجتمع يغتال قيم الشعر والجمال يوميا. ولأن الأمر كذلك فإنني أرى نفسي مجرد مومياء محنطة داخل تابوت يسمى الواقع، بل أرى نفسي، والشعراء الآخرين، مجرد جثث تنتظر أن تجد قبرا لتنام فيه بعيدا عن دخان الإيديولوجيا ورماد القهر. في مجتمع طبقي، ينخر الصدأ التراجيدي جسده المهترئ، أرى أن اليوم العالمي للشعر هو جنازة كاريكاتورية.. هو تأبين مسبق للشعراء أمثالي الذين ما يزالون على قيد الحياة. لهذا فأنا أقاطع هذه الاحتفالات، لأن وجودي بها يضاعف إحساسي بأنني ميت أكثر من الموتى، وبالتالي فإن الارتكان إلى عزلتي الفردية بعيدا عن لغط العالم وفوضاه، يمنحني بعض العزاء والسلوان. مات الشعر ومات الشعراء، بالنسبة إلي. كل ما يكتب هو رثاء لأنفسنا نحن الذين حكم علينا بأن نعيش في الظل مثل عناكب حقيرة، أو خفافيش ضالة. كان بودنا أن نعيش صقورا محلقة جوار أشجار السماء المجازية، لكن المجتمع يأبى إلا أن يصيرنا مومياوات داخل توابيت العدم! نحلم كثيرا بأن تكون السماء بيتا شعريا، وأن تكون نجومها استعارات، غير أننا في الصباح، حين تشرق الشمس، نكتشف بأننا لا نملك إلا بيتا وحيدا.. نملك الهاوية!
ما ذنب الشعر ؟. الشاعرة علية البوزيدي الإدريسي
هناك رمل كثير يعري أعصابه وهذا البحر الذي ما عاد يدخر دموعه ساحر ومتفائل أحيانا تفكر الموجة في أن تحط رأسها الصغير علي ركبتي قلب وأحيانا كثيرة تفكر الخطوة في أن تسبق نظرة علي جدار دائرة…
أين الشعر؟
منذ أن دلتني السماء على صندوق الآلام وأضاءت لي العتمة وأنا خلف الباب أهدهد نوافذ تركتها العواصف نصف مفتوحة، مثلما يليق بهوامش زاويا السنة الفارطة
قد تسألني لم أنا خضراء ؟
لأني شجرة أجيبك، لكني أحاول أن أقنع ظلي ألا يدوس علي قبري، أوصيه أن يدخل في شجار مع أحاديثي المتزاحمة في صدري أيام الأعياد
ماذا يعني أن تكون شاعرة اليوم ؟
أنا فقط أحتاج لوصفات أعتقل بها أكاذيبي لأن جنوني ليس علي ما يرام …
الشعر هو المكان الذي نلتقي فيه جميعا متصلين بمشاعرنا وأحاسيسنا وتجاربنا المشتركة… الشاعرة ليلى بارع
ان سؤالا عميقا حول جدوى أن تكون شاعرا اليوم يحيلنا مباشرة على جدوى الشعر في الحياة…لأنه وإن اختلفت الأزمنة فإن الشعر كجنس أدبي يعتبره البعض فاكهة الأدب يبقى دوما جنسا له خصوصيته ورهافته وصوته الخاص به. لكن سؤال الشعر مرتبط أيضا بسؤال الإبداع خاصة…الجدوى من الفن والرقص والموسيقى والكتابة …الجدوى من أن تتذوق هذه الجداول الإبداعية التي تصب جميعها في محيط واحد هو الإنسانية…إن دور أشخاص مثل بتهوفن او موزارت أو محمود درويش أو المتنبي أو بورخيس أو الجاحط….هو تقديم حياة مضاعفة لنا.. منحنا القدرة على رؤية العالم بشكل مختلف…تجربة سفر مختلفة قد تغير بعضنا للأبد..لأن حياة واحدة لا تكفي لتجربة كل الأحاسيس الممكنة. الشعر تفجير للحدود بين الممكن والمستحيل، بين الواقع والخيال، عبر اللغة البالغة الحساسية… إنه المكان الذي نلتقي فيه جميعا متصلين بمشاعرنا وأحاسيسنا وتجاربنا المشتركة…إنه الصوت الذي يخفت أحيانا ويرتفع أحيانا أخرى ليصير صرخة في وجه السلطة والرقابة…
اكتب فقط بقاموس أحرقت كلماته المياه. الشاعر سعيد عاهد
أن تكون شاعرا اليوم، هنا والآن، معناه أن تخلص الكلمات مما تدل عليه، في لغة التداول اليومي، من عنف يومي، مادي ورمزي، سماته إقبار إنسانية الإنسان، وسيادة السوق الذي لا محرك له غير ترويج السلع المنمطة ومراكمة الربح، وزحف الأنموذج الأحادي الجارف القاضي بنهاية التاريخ والاعتناق الكوني لزبور ماك دونالد.
أن تعتقها من أبوية سيبويه المتسلطة، وطهرانية الأكاديمية الفرنسية المستبدة، وكليانية مجاميع الألسن الحية والمنقرضة.
أن تهبها عضوا جنسيا ينتصب في مواجهة الطمأنينة المهادنة، وفي وجه الأصنام المقدسة والمدنسة.
أن تعلمها قول «لا» لتحلق في «هنا والآن» مغايرة. لتكشف عنفها الداخلي بلا رقيب، وتشي بنفَسها المنفلت من سطوة حراس معابد اليقينيات بدون رب ولا سيد.
أن تكون شاعرا اليوم، هنا والآن، معناه أن تبحث، في اللغة والمعنى، في الاستعارة والتركيب، في البياض ومحوه، في ما يأتيك في لحظة الصحو ولحظات التيه ولا تجرؤ على تدوينه، عن تخوم ما تحب عبر تجديفه.
أن تصرخ كلمة « كفى « مغترفة من قاموس لا يتضمن كلمة « كفى «… !
على الشاعر أن يقدم الورد كل صباح مع أبيات الشعر ويعود الناس على تقديس الحرية … الشاعر محمد عرش
أن تكون شاعرا اليوم، يعني الكثير، وخاصة في عصرنا: أن تكون لسان المستضعفين والمغلوبين على أمرهم. أن تفضح زيف القوى الرجعية، لأن ضميرك ضمير الشعر، دون أن تسخر لسانك للأذناب. أن تكون مرهف الحس، تقرع أجراس الخطر كلما شعرت بذلك، لأن لك رؤية زرقاء اليمامة، ترى أخطاء العالم بكامله، وتزرع حدائق الشعر والمحبة والتسامح، وتجنب الأحقاد والضغائن، وتربي الأذواق لتحب الجمال، لأن الشعر ترياق المحبة والتآخي، ومحو الألم يعني أن تكون شاعرا اليوم، أن تعود الناس على الإنسانية، على الشاعر أن يقدم الورد كل صباح مع أبيات الشعر ويعود الناس على تقديس الحرية: « كن وردة طيبها حتى لسارقها – لا دمنة خبثها حتى لساقيها « ، عطفا على الشاعر إيليا أبي ماضي …
أن تكون شاعرا يعني أن تمد جسور المحبة والسلام والإخاء بين سائر البشر مهما تعددت انتماءاتهم… الشاعر محمد بوجبيري
أن تكون شاعرا اليوم، معناه أنك اخترت أن تنتمي إلى فئة من الناس الذين انتصروا للكلمة، فأحبوها لأن بإمكانها أن تساهم قدر الإمكان في التخفيف من مآسي هذا العالم، وأن تمد جسور المحبة والسلام والإخاء بين سائر البشر مهما تعددت انتماءاتهم. أن تكون شاعرا اليوم، هو أن تقيم، ما أمكن، في البستان قريبا من الأطفال والعشاق وطيور المساء، أن تقيم، قريبا من المساحات الخضراء، حيث لا يبتلعك قبح العالم، وطاحون اليومي، وتعاقب الابتذال، وكل ما من شأنه أن يجعلك تفقد بعضا من آدميتك، لكي تتحول إلى مجرد رقم في سجلات الإدارات بدءا من التعيين وانتهاء بالإحالة على المعاش، بدءا أيضا من الولادة وانتهاء بالذي لا بد منه بعد بلوغ الأمتار الأخيرة من رحلة الوجود. أن تكون شاعرا اليوم، هو أن تعقم نفسك من رئات الآخرين، ومن الزكام المتاح المباح المشاع في مقاهي الاغتياب والافتراء وتفريخ الإشاعة، وأن تنأى بنفسك عن الحروب الصغيرة والهرولة إلى مراكز الضوء والصفوف الأمامية.
« أن تكون شاعرا يعني أن تكون باستمرار على أهبة الاستعداد كي تحب…» الشاعر صلاح الوديع
ماذا يعني أن تكون شاعرا اليوم؟..
يعني أن تحضن وجدان العالم وأن تستمر في نشدان العدل.. يعني أن ترى المرأة في مرآة ذاتك وأن تغلي عروقك حنقا أمام الدمار المبرمج للطبيعة.. يعني أن تبتهج أمام رذاذ موجة يداعب محياك وأن تبكي مع طفل شريد… يعني أن تبحث عنك فيك وأن تكتشف أن نفسك هي الآخر.. يعني أن تفتح مرافئ روحك في وجه أفواج الهاربين إلى لجة البحر من شظف العيش وسطوة الحكام وأن تفرح كل فجر حين تستيقظ في كامل عافيتك… يعني أن تشرب قهوة مرة وأن ترشف كأسك المشتهى زلالا حلالا طيبا… يعني أن تشعر انك أخ لكل شخص طيب على وجه الأرض وأن تصرخ ضد تشييء الإنسان … يعني ألا تترك الله عرضة للسطو من قِبل الجهلة وأن تكون باستمرار على أهبة الاستعداد كي تحب… يعني أن تطاوعك الكلمات وأن تطاوع الكلمات… يعني ألا تكون سجين قناعتك وأن تشعر انك عضو في أسرة كبرى بعدد أفراد البشرية وأن بيتك هو كل هذه البسيطة… يعني أن تقنع بكسرة خبز عند الاقتضاء دون فقدان حلمك في أن تجوب العالم وأن تستمر في العيش كأنك مالك الكون..
الشعر ضرورة وجودية الشاعر صالح لبريني
الشعر، في جوهره، مَصْلٌ لمكافحة الشَّرِّ في الإنسان؛ وَتَصَادٍ ضدّ كلّ مَنْ يعمل على جعْل الحياة أكثر بؤسا وكآبة جراء ممارسات الكائن البشري تُّجاهَ الجمال والبهاء، الجلال والصفاء، إنه بمثابة المناعة ضدّ كلّ تشييئ وأسْلبة للإنسان وتحويل الوجود إلى مضمار للقتل ونشْر الفكر الأصولي بتجلياته المختلفة في كافّة الديانات، والأكثر من ذلك كونه المنافح الشرس -عبْر اللغة والمتخيل والتجربة في الحياة؛ والمحفّز على خوض مغامرة البحث عن المجهول في الذات والعالم، والحفر على العميق فيهما معا. من هذا المنطلق يسعى الشاعر إلى تحويل الكون إلى لوحة تشكيلية مزهوة بالإنسان وما يعتوره من مشاعر متناقضة ومحيِّرة في الوقت نفسه، ورغبة في اعتناق الجميل والبهي، الفاتن والمدهش، الملتبس والمُربك. ولولا الشعر ما شعرنا بحرارة الأنفاس المتلهّفة والملتاعة والمتنسِّكة في محراب العشق بتمظهراته الربّانية أو المعنوية، إذ به استطاع الكائن البشري الخروج من زمن الفكر الغابوي إلى الزمن الإنساني المتمدّن والمتحضر حتى تشيع القيم النبيلة ويشعّ نور المحبة والحياة.
إن الشعر ضرورة وجودية، بها تستطيع الإنسانية الخروج من وضع العابر إلى وضع المقيم، إذ لا يمكن للكائن البشري أن يعيش بعيدا عن العالم الذي يوجد فيه، إلا أن هذا التواجد ينبغي أن يكون مرتبطا بالجانب المعنوي المتمثل في العودة إلى الشعر كملاذ للحماية من المشاعر البلاستيكية السائدة في زمن مُعَوْلَم، قاتل لكل العواطف النبيلة والجيّاشة، زمن لا يؤمن إلا بالقيم الاستهلاكية المخرِّبة للأواصر العميقة بين الإنسان والإنسان، بين الإنسان والطبيعة، بين الإنسان والكون. إن هذه العولمة تمكّنت من القضاء على جوهر الخيال والحلم، منتصرة للعابر والزائل، محاربة الجوهري والأصيل في الإنسان منذ آدم عليه السلام…
« أن أكون شاعرة يعني أن أحدق في المجهول والغامض والمستفِز بعين الإنسان المنتصر للحياة …» الشاعرة دامي عمر
ما معنى أن تكون شاعرا اليوم ؟ هل هو بمعنى: أن تكون شاعرا بالمطلق في زمن يحاصر فيه الشعر ويتكبد فيه الإبداع عموما خسائر مرعبة ؟ وأن تكون مختلفا في عالم يجتهد في جعلك ذاتا ضمن ذوات أخرى يمتصها هذا المتشابه العدمي المطمئن لسقوطه؟ .. أم أن تكون شاعرا حقيقا ؟ وهنا سأغير السؤال ليصبح: ما الذي يجعل الشعر شعرا ؟ سؤال كبير، يتعلق بوعي الشاعر القائم على اتصاله وانفصاله بواقعه، وبالتجارب الشعرية العظيمة، فالشعراء لا يسقطون من فراغ، وتأسيس الشاعر لفرادته آت من قدرته على التحكم في جدلية الاتصال والانفصال هاته في بعدها الكوني. يغدو الأمر مثار جدل حينما تختار بوعي أن تكون شاعرا حداثيا، لأنك متصل بالحداثة الشعرية التي أسس لها أسلافك الكونيون العظام، في عالم مفتوح، غير مقبول منك فيه أن تقيم في الماضي وتحيى في الحاضر. هذا الحاضر الذي تحاول فيه أن تحافظ على منسوب عال من الدهشة الخلاقة ضد الخوف المدمر الذي يتسلل إلى الأساسات الإنسانية المُؤَمِّنة لوجودنا القلق، أنت تملك اللغة وهي سابقة عن القتل، إنها الخلق نفسه.. أو بها يكون. وبالتالي أنت تقف على خط المواجهة مجردا سوى من قوة الإبداع المانِحة والمهدَّدَة، و التي تضمن لهذا الوجود ماءَه.
ما معنى أن تكون شاعرا اليوم؟ دعني أفكر في السؤال من زاوية أكثر تعقيدا، ما معنى أن أكون شاعرة اليوم ؟ لايمكن أن أجيب عن هذا السؤال دون التفكير في جداتي الشاعرات القلقات عبر التاريخ البشري، اللواتي تعلمت منهن أن روح الشعر المانحة هي أن أحدق في المجهول والغامض والمستفِز بعين الإنسان المنتصر للحياة، لأن الشعر فعل ولادة، وترويض للألم والوجع المصاحب لهذا الفعل نفسه باعتباره ممارسة للحرية بمعناها الهيدجري.
أن تكون شاعرا.. أن تكون إنسانا
أن تكتُب عن شاعر اختار منطقة الظل، بكثير من نكران الذات وبتلذذ مازوشي مبدع ومدهش (لا ككائن عيادي-
باتولوجي)، لعمري في الأمر ألم ؛ الألم هنا بالقصد الهيجلي. أن تجرب السباحة مرة واحدة في نهر إبداعي متدفق، يلزمك فهم قانون التصيّر الهيراقليطي، أو أن تأخذ مجرى النهر عكسيا. أن تكتب عن المبدع المتعدد، والمتشعب، المبدع الجانوسي ( نسبة إلى جانوس إله الأبواب في الأسطورة الإغريقية) ذي الأبواب المواربة والأفقِ الجمالي المنشرح، أقول أن تكتب عن هذا المبدع، فإنك تختار المخاطرة والمغامرة بوقوفك على مسافة البين- بين، أعني بذلك أرخبيلات تخلُّق الكتابة وتصيُّرها.
سي محمد بلمو الإنسان. سي محمد الفاعل الجمعوي والمناضل الحقوقي. سي محمد الشاعر. كذلك سي محمد الصحافي والإعلامي… كلها عناوين لشخص واحد، جامع، مانع، متمنع.
السي محمد بلمو الإنسان هو فراشة شديدةُ الرهافة، كلما اشتعلتْ رغبةُ المهمشين، قالت لها هيت لك. هو نحلةٌ تغذّت من بستان المعرفة، ورمت بدلوها في بئر لا علاقة له باليقينيات أو المسبقات، ورقصت، بعد ذلك، رقصة البياض القروي جنوب/ شمالَ بني عمار، كما جاء في ديوانه « رماد اليقين»، حتى طار عسلها بسخاء نادر. فارتباطه بجبل زرهون لافت ولا يمكن أن تُخطئَه عينُ الرائي البصير، إلا إذا كان جاحدا.
2
ليست مسألة سالكة، أو يسيرة الشأن أن تكون شاعرا في وقت تتصاعدُ فيه جلبة المتشاعرين، وتتكاثر إلى الحد الذي تفتقر فيه إلى المكابدة والصبر في الكتابة.
ليست مسألة سالكة، أو يسيرة الشأن أن تكون شاعرا لا بوجودك الخاص، أو بصوتك المتمايز، ولكن ببحثك الدؤوب عن موضع قدم لك على أرض الشعر المليئة بالفخاخ والألغام. قليلة هي الأسماء التي اتخذت من الكتابة الشعرية متكأ ومشروعا لها في الوجود، به وله، تحيا بغض النظر عن الإقصاء أو التهميش والتجاهل الذي يطالها. ومن بين هؤلاء نُلفي اسم هذا الرجل بالمعنى النيتشوي.
هو إذن شاعر مشاء، لا بالمعنى الفلسفي، وإنما بالمعنى الزمني. بدأ وعيه بالكتابة الشعرية ينضج منذ أواسط ثمانينيات القرن الفائت كما أسلفنا أعلاه، إذ نُشرت أولى نصوصه بجريدة المسار المغربية. يقول في إحدى تدويناته ناعيا الراحل أحمد بنجلون « نشر لي في ثمانينات القرن الماضي قصيدة شعرية على صفحة كاملة من جريدة المسار الثقافي بعنوان : بيانات للحزن والفرح – من تسريبات المدن المحاصرة». بمنطق التحقيب هو شاعر ثمانيني. إلا أن الوعي النقدي المؤسساتي الجائر في الكثير من جوانبه والذي هو في حاجة إلى مراجعة،غيبه ضمن تصنيفاته المعيارية التقليدية، مثله مثل مجموعة من الشعراء. لغته الشعرية ّ لاهبة ولافحة، وصوته غاضب وهدّار ، منذ ديوانه الأول «صوت التراب – 1999» الصادر ضمن منشورات اتحاد كتاب المغرب، حتى ديوانه المتميز أخيرا « رماد اليقين» الصادر ضمن منشورات وزارة الثقافة المغربية 2013 في طبعتين، مرورا بديوانه المشترك مع الشاعر عبد العاطي جميل «حماقات السلمون». إن سي محمد بلمو يذهب إلى لغته عُنوةً وقصدا، ولا يترك اللغة تأتي إليه. ذهب إليها من أجل تَنْخيلها من مُلاءات وإملاءات الواقع واليومي، ليجعلها قادرة على قوله، بصيغ أخرى؛ ديدنها، في ذلك، الخلق والتفجير بما هو تغيير لمجرى النهر الهيراقليطي. تخلُّق يجعل الواقع ينقال عند الشاعر كما جاء في البدايات والأصل، لا كما يبدو لنا أو كما نتصوره على الأقل. إن اللغة عنده عاريةٌ إلا من عريها تماما كلغة الأطفال. تأسرك وهي «تنطق السين شينا»، كما قال القاص أحمد بوزفور. وحين يُعوزها التعبير، تُخرج لسانها بسخرية سوداء كطفلة مشاكسة. إنها بعبارة الجرجاني، تجمع « بين أعناق المتنافرات والمتباينات في رَبْقًةٍ…. وتعقِدُ بين الأجنبيات معاقدَ نسبٍ وشبْكةٍ.»
سي محمد الإعلامي، هو خريج مدرسة جريدة الطريق اليسارية، الشيء الذي جعل مساره الصحافي يتميز بمواجهات عديدة مع رؤساء التحرير منتصرا للحق والقلم الحر. هذا الميول جلب له الكثير من المواجهات انتهت بتركه، نهائيا، لمهنة الصحافة ابتداء من سنة 2006.جُمَاعُ القول، إن السي محمد بلمو، رجلٌ اجتمع فيه ما تفرق في غيره. رجلٌ كلما خطى خطوة إلا وترك وراءه أثرا. والرجل كما قال الحسن بن الهيثم « هو الذي يترك أثرا». فما أكثر خطوات سي محمد بلمو، وما أكثر آثاره. دمت صديقي مخلصا لخطواتك ولآثارك.