الحاجة إلى التربية الدينية

بعد‭ ‬الشروع‭ ‬في‭ ‬مراجعة‭ ‬مقررات‭ ‬التربية‭ ‬الإسلامية‭ ‬قبل‭ ‬ثلاث‭ ‬سنوات،‭ ‬أثير‭ ‬سجال‭ ‬حاد‭ ‬حول‭ ‬العنوان‭ ‬الذي‭ ‬يمكن‭ ‬أن‭ ‬يعوض‭ ‬‮«‬التربية‭ ‬الاسلامية‮»‬،‭ ‬ومع‭ ‬أن‭ ‬التربية‭ ‬الدينية‭ ‬–‭ ‬التي‭ ‬اقترحت‭ ‬عنوانا‭ ‬بديلا‭ ‬للتربية‭ ‬الاسلامية‭ – ‬ليس‭ ‬مجرد‭ ‬تسمية‭ ‬أو‭ ‬لفظ‭ ‬بل‭ ‬إن‭ ‬له‭ ‬من‭ ‬المعاني‭ ‬الكثير،‭ ‬بحيث‭ ‬يختزل‭ ‬في‭ ‬نظري‭ ‬قيم‭ ‬التسامح‭ ‬والانفتاح‭ ‬والاعتراف‭ ‬بالغير‭ ‬وبحق‭ ‬الآخر‭ ‬المختلف‭ ‬في‭ ‬اثبات‭ ‬وجوده‭.‬

التربية‭ ‬الدينية‭ ‬تسمية‭ ‬تجسد‭ ‬روح‭ ‬التسامح‭ ‬والانفتاح‭ ‬وتضع‭ ‬حق‭ ‬الغير‭ ‬في‭ ‬التربية‭ ‬الدينية‭ ‬الخاصة‭ ‬به،‭ ‬أما‭ ‬التربية‭ ‬الاسلامية‭ ‬فهي‭ ‬تربية‭ ‬تلزم‭ ‬الجميع‭ ‬من‭ ‬منطلق‭ ‬أن‭ ‬جميع‭ ‬المغاربة‭ ‬مسلمون‭ ‬بالقوة،‭ ‬في‭ ‬الوقت‭ ‬الذي‭ ‬وقعت‭ ‬فيه‭ ‬الدولة‭ ‬اتفاقات‭ ‬وعهودا‭ ‬دولية‭ ‬تنص‭ ‬على‭ ‬حرية‭ ‬المعتقد‭ ‬والضمير‭.‬

يفترض‭ ‬في‭ ‬التربية‭ ‬الدينية‭ ‬الإعلان‭ ‬عن‭ ‬حق‭ ‬المسلم‭ ‬وغير‭ ‬المسلم‭ ‬في‭ ‬تربية‭ ‬دينية‭ ‬يختارها‭ ‬بمحض‭ ‬ارادته‭ ‬أو‭ ‬تختارها‭ ‬أسرته،‭ ‬وكيفما‭ ‬كانت‭ ‬الأرقام‭ ‬التي‭ ‬تعلن‭ ‬عنها‭ ‬الصحافة‭ ‬حول‭ ‬الأقليات‭ ‬الدينية‭ ‬في‭ ‬المغرب‭: ‬المسيحية،‭ ‬اليهودية‭… ‬فإن‭ ‬هذه‭ ‬التسمية‭ ‬تعطي‭ ‬الحق‭ ‬لكل‭ ‬الأقليات‭ ‬في‭ ‬اعتماد‭ ‬مقرراتها‭ ‬الخاصة‭ ‬أو‭ ‬اتباع‭ ‬طرقها‭ ‬الخاصة‭ ‬في‭ ‬التربية‭ ‬على‭ ‬الدين‭: ‬لكن‭ ‬هل‭ ‬يمكن‭ ‬فعلا‭ ‬أن‭ ‬نضع‭ ‬برامج‭ ‬تعليمية‭ ‬خاصة‭ ‬بالتربيَّة‭ ‬الدينيَّة؟

يحيلنا‭ ‬السؤال‭ ‬أعلاه‭ – ‬الذي‭ ‬يبدو‭ ‬ظاهرياً‭ ‬على‭ ‬أنه‭ ‬سياسي‭ ‬وايديولوجي‭ ‬بالدرجة‭ ‬الاولى‭ – ‬على‭ ‬سؤال‭ ‬أعم‭ ‬وراهني‭: ‬ما‭ ‬موقع‭ ‬السلطات‭ ‬الحكوميَّة‭ ‬والنظام‭ ‬السياسي‭ ‬من‭ ‬تدريس‭ ‬مادة‭ ‬الدِّين؟‭ ‬أو‭ ‬على‭ ‬الأقل‭ ‬درس‭ ‬الدين؟

الحكم‭ ‬المنطقي‭ ‬والمعقول‭ ‬يقول‭: ‬يجب‭ ‬أن‭ ‬يبقى‭ ‬التعليم،‭ ‬عموميّاً،‭ ‬ومستقلا،‭ ‬ومحايداً‭ ‬عن‭ ‬أيَّة‭ ‬وصاية‭ ‬كيفما‭ ‬كانت‭: ‬من‭ ‬النظام‭ ‬السياسي‭ ‬أومن‭ ‬الحكومة‭ ‬أو‭ ‬المجتمع‭ ‬المدني؟‭ ‬كيف‭ ‬ذلك؟

يجب‭ ‬خوصصة‭ ‬التعليم‭ ‬الديني‭ ‬وجعله‭ ‬شأنا‭ ‬خاصا‭ ‬بدل‭ ‬أن‭ ‬يكون‭ ‬عموميا،‭ ‬ونقصد‭ ‬بالتمييز‭ ‬هنا‭ ‬بين‭ ‬الخاص‭ ‬والعام،‭ ‬اعطاء‭ ‬الحق‭ ‬للجميع‭ ‬في‭ ‬اختيار‭ ‬تربية‭ ‬أبنائه‭ ‬الدينية،‭ ‬كما‭ ‬هو‭ ‬معمول‭ ‬به‭ ‬في‭ ‬بعض‭ ‬البلدان‭ ‬الديمقراطية،‭ ‬إذا‭ ‬كانت‭ ‬إرادة‭ ‬المغاربة‭ ‬هي‭ ‬التطلع‭ ‬الى‭ ‬نظام‭ ‬ديمقراطي‭ ‬لا‭ ‬يقوم‭ ‬على‭ ‬الجمع‭ ‬بين‭ ‬السلطة‭ ‬الدينية‭ ‬والسلطة‭ ‬السياسية‭. ‬وبكل‭ ‬تأكيد‭ ‬سيكون‭ ‬هذا‭ ‬الاقرار‭ ‬ثورة‭ ‬حداثية‭ ‬غير‭ ‬مسبوقة‭ ‬في‭ ‬مجتمعنا‭.‬

يجب‭ ‬أن‭ ‬يكون‭ ‬التعليم‭ ‬الديني‭ ‬مستقلاً‭ ‬بما‭ ‬تحمله‭ ‬الكلمة‭ ‬من‭ ‬معنى‭ ‬وهنا‭ ‬نطرح‭ ‬مشكلتين‭ ‬رئيستين‭: ‬

‭-‬ مشكلة‭ ‬المشروعية‭ ‬الدينية‭ ‬لنظام‭ ‬الحكم‭ ‬والتي‭ ‬بدونها‭ ‬لن‭ ‬يستطيع‭ ‬ضمان‭ ‬عملية‭ ‬اعادة‭ ‬انتاج‭ ‬الوضع‭ ‬الديني‭ ‬والنخب‭ ‬الدينية‭ ‬التي‭ ‬تلعب‭ ‬دورا‭ ‬هاما‭ ‬في‭ ‬منح‭ ‬الشرعية‭ ‬لإمارة‭ ‬المؤمنين؛

‭-‬ مشكلة‭ ‬شرعيَّة‭ ‬الأحزاب‭ ‬الدِّينيَّة‭ ‬التي‭ ‬تتاجر‭ ‬بالدين‭ ‬لأهداف‭ ‬سيَّاسيَّة‭ ‬محضة،‭ ‬في‭ ‬أفق‭ ‬فرض‭ ‬منظور‭ ‬معين‭ ‬للمجتمع‭ ‬أو‭ ‬رؤية‭ ‬محددة‭ ‬للعالم‭.‬

إذا‭ ‬كان‭ ‬الغرض‭ ‬السامي‭ ‬للدِّين‭ ‬هو‭ ‬ضمان‭ ‬تنشئة‭ ‬اجتماعيَّة‭ ‬وتربيَّة‭ ‬أخلاقيَّة‭ ‬لكل‭ ‬المواطنين‭ ‬من‭ ‬أجل‭ ‬الصلاح‭ ‬والطمأنينة‭ ‬والشعور‭ ‬بالسعادة،‭ ‬فإن‭ ‬ذلك‭ ‬لن‭ ‬يتم‭ ‬دوماً‭ ‬بكيفية‭ ‬واحدة‭: ‬اقرارها‭ ‬في‭ ‬برامج‭ ‬التعليم،‭ ‬فكيف‭ ‬يمكن‭ ‬إذن‭ ‬لتربية‭ ‬دينيَّة‭ ‬موجهة‭ ‬للمواطن‭ ‬في‭ ‬تكوينه‭ ‬وأخلاقه‭ ‬وسعادته‭ ‬أن‭ ‬تكون‭ ‬مادة‭ ‬للتقويم‭ ‬والتنقيط‭ ‬؟‭ ‬أداة‭ ‬للنجاح‭ ‬أو‭ ‬السقوط؟

مبدأ‭ ‬الاستقلاليَّة‭ ‬أو‭ ‬الحياديَّة‭ ‬الذي‭ ‬شرعنا‭ ‬في‭ ‬بعض‭ ‬تفاصيله‭ ‬أعلاه‭ ‬يتطلب‭ ‬حزماً‭ ‬عقلانياً‭ ‬وحداثياً‭. ‬لهذا‭ ‬لا‭ ‬نرى‭ ‬من‭ ‬سبيل‭ ‬غير‭ ‬الحوار‭ ‬لحسم‭ ‬الخيارات‭ ‬المجتمعيَّة‭ ‬الكبرى،‭ ‬أما‭ ‬أن‭ ‬تفرض‭ ‬الحكومة‭ ‬أو‭ ‬النظام‭ ‬تصورهما‭ ‬الخاص‭ ‬على‭ ‬الجميع‭ ‬فذلك‭ ‬غير‭ ‬معقول‭ ‬بتاتا،‭ ‬كما‭ ‬لا‭ ‬يسمح‭ ‬للأحزاب‭ ‬وجمعيات‭ ‬المجتمع‭ ‬المدني‭ ‬بالضغط‭ ‬وفرض‭ ‬رؤاها‭ ‬على‭ ‬الجميع‭: ‬النقاش‭ ‬العمومي‭ ‬المنفتح‭ ‬والمنظم‭ ‬مؤسساتيا‭ ‬وحده‭ ‬كفيل‭ ‬بالجواب‭ ‬على‭ ‬المشكلات‭ ‬الحقيقيَّة‭ ‬التي‭ ‬تعترض‭ ‬سيرورة‭ ‬التقدم‭ ‬المجتمعي‭.‬

يحتكر‭ ‬هذا‭ ‬النقاش‭ ‬غير‭ ‬العمومي‭ ‬تصوران‭: ‬تصور‭ ‬محافظ‭ ‬وآخر‭ ‬علماني،‭ ‬وما‭ ‬يقترحه‭ ‬كلاهما‭ ‬لن‭ ‬يوصلنا‭ ‬إلى‭ ‬أي‭ ‬حل‭: ‬حيث‭ ‬كل‭ ‬طرف‭ ‬يسعى‭ ‬إلى‭ ‬إقصاء‭ ‬الآخر،‭ ‬مما‭ ‬يدفع‭ ‬النِّظام‭ ‬والحكومة‭ ‬إلى‭ ‬فرض‭ ‬آرائها‭ ‬وتوجهاتها‭ ‬وسياستها‭.‬

المدرسة‭ ‬العموميَّة‭ ‬هي‭ ‬مدرسة‭ ‬للجميع،‭ ‬لا‭ ‬ينبغي‭ ‬أن‭ ‬تضع‭ ‬التربيَّة‭ ‬الدِّينيَّة‭ ‬ضمن‭ ‬برامجها‭ ‬ومناهجها،‭ ‬لأنها‭ ‬مدرسة‭ ‬بشريَّة‭ ‬لتكوين‭ ‬المواطن‭ ‬والناشئة‭ ‬على‭ ‬قدر‭ ‬ما‭ ‬تزخر‭ ‬به‭ ‬الحضارات‭ ‬البشريَّة‭ ‬والمعرفة‭ ‬البشريَّة‭ ‬من‭ ‬خبرات‭ ‬وعلوم‭. ‬لذا‭ ‬فإن‭ ‬البرامج‭ ‬الدينيَّة‭ ‬مكانها‭ ‬غير‭ ‬المدرسة‭ ‬العموميَّة‭ ‬وإنما‭ ‬مدارس‭ ‬خاصة‭ ‬يمكن‭ ‬للمواطن‭ ‬أن‭ ‬يسجل‭ ‬أبناءه‭ ‬وفق‭ ‬ارادته‭ ‬الخاصة‭ ‬في‭ ‬تلك‭ ‬المدارس‭. ‬وفي‭ ‬سبيل‭ ‬ذلك‭ ‬صار‭ ‬وجود‭ ‬نظام‭ ‬حديث‭ ‬وعلماني‭ ‬مطلباً‭ ‬عقلانياً‭ ‬ومعاصراً‭ ‬لكل‭ ‬المغاربة‭. ‬وما‭ ‬يعنيه‭ ‬ذلك‭ ‬من‭ ‬اقرار‭ ‬لفصل‭ ‬الدين‭ ‬عن‭ ‬الدولة،‭ ‬فليس‭ ‬من‭ ‬المقبول‭ ‬أن‭ ‬تسهر‭ ‬الدولة‭ ‬على‭ ‬تمويل‭ ‬وإدارة‭ ‬التعليم‭ ‬الديني‭ ‬الذي‭ ‬هو‭ ‬من‭ ‬اختصاص‭ ‬المؤسسات‭ ‬والهيئات‭ ‬الدينيَّة‭ ‬الفاعلة‭ ‬في‭ ‬المجتمع،‭ ‬ومع‭ ‬توالي‭ ‬وازدياد‭ ‬أعداد‭ ‬هجرة‭ ‬واستقرار‭ ‬غير‭ ‬المسلمين‭ ‬في‭ ‬المغرب‭ ‬يتوجب‭ ‬التفكير‭ ‬بعقلانيَّة‭ ‬في‭ ‬مسألة‭ ‬إدماجهم‭ ‬كحق‭ ‬من‭ ‬حقوقهم‭ ‬في‭ ‬مجتمعنا‭.‬

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى