صناعة الإرهاب: الإمبراطور والقرصان
◆ ذ. خالد البكاري
أعادت العملية الإرهابية الأخيرة التي كانت نيوزيلاندا مسرحا لها النقاش حول جذور الإرهاب المعولم، هذا الإرهاب الذي يتخذ لبوسا يمينيا متطرفا، سواء كان بخلفية دينية مسيحية أو يهودية أو إسلامية.
تحاول ماكينات الميديا القوية أن تثبت في الأذهان أن العالم مقبل على حرب دينية يقودها المتطرفون من داخل الأديان المختلفة، هؤلاء المتطرفون الذين نبتوا فجأة في غفلة من أي مقدمات، هؤلاء المتطرفون الذين يتكئون على محمولات من النصوص « المقدسة « المفصولة عن تاريخيتها وسياقها.
هذه الميديا، وبمكر، تسعى لأن تجعل الخطر الأكبر الذي يجب أن تتجند له البشرية هو خطر الإرهاب، الإرهاب بالمعنى الذي تسوق له، إرهاب الأفراد البائسين، وإرهاب التنظيمات التي تم صنعها في مختبرات تعولم كل شيء: الأذواق والأفكار والإرهاب والحروب والتلوث..
وبعد كل حادث إرهابي مدان، تشحذ هذه الميديا أسلحتها التي تسلب من المتلقي وعيه، عبر عنف الصورة ومأساويتها، فيدخل العالم في هيستيريا جماعية من البكائيات والتراجيديا، تترجم تعاطفا إنسانيا مع الضحايا، ولعنة وكراهية للقتلة والإرهابيين، ويتم اختصار الشر المعولم في هؤلاء المتطرفين – ولا جدال في إجرامهم – ، لكن يتم حجب غابة كبرى من الإرهاب الحقيقي الذي ضحاياه أكبر من ضحايا إرهاب الأفراد والتنظيمات، إرهاب مستدام، إرهاب عابر تنتقل خسائره غير القابلة للتعويض للأجيال القادمة أمراضا ومجاعات وتغيرات مناخية رهيبة..
طبعا لا يجوز المفاضلة بين ضحايا الإرهاب، لكن في الوقت نفسه لا يجب التنديد بإرهاب القرصان، والسكوت عن إرهاب الإمبراطور، الإمبراطور نفسه الذي حدد للقرصان المساحة التي سيتحرك فيها..
تحكي الأسطورة عن إمبراطور روماني التقى في إحدى غزواته البحرية قرصانا ينهب السفن التي يسطو عليها، ولما مثل أمامه ليعاقبه، قال القرصان: الفرق بيني وبينك، أنك تمتلك أسطولا من السفن، لذلك تسمى إمبراطورا، بينما لا أملك سوى سفينة واحدة، ولذلك أسمى قرصانا..
لم يتغير المشهد كثيرا، فالذي يمتلك حق النقض في مجلس الأمن الدولي، والذي يشن حروبا على دول ذات سيادة بمبرر نشر الديموقراطية أو مواجهة محور الشر أو الحرب الاستبقاية، وهي حروب تكون مسبوقة بحصار اقتصادي وغذائي خانق، أو بشيطنة في الميديا، يسمى قوة عظمى، بل قوة عظمى لها مسؤولية أخلاقية في نشر الأمن والحرية في العالم، والذي يمتلك فقط خلايا نائمة ( نائمة الضمير والعقل) وبضع سكاكين أو أسلحة خفيفة تم تزويده بها من سوق مراقبة من استخبارات القوى الكبرى نفسها، يسمى إرهابيا. ولمزيد من الخلط والتشويه يتم خلق مماثلة بين التنظيمات الإرهابية المصنوعة على أيدي وأعين المخابرات وبين حركات التحرر والمقاومة ضد الاحتلال.
ويظل المستجد في حكاية الإمبراطور والقرصان، أن الإمبراطور اليوم لم يعد يتضايق من القرصان الذي يزاحمه في البحر، بل أضحى الإمبراطور هو من يصنع القراصنة ويمولها ويرعاها، ثم يوظفها في خلق الفوضى بعد أن يشيطنها.. مئات الإرهابيين الصغار كان يغادرون المطارات الأوروبية والعربية في شبه رحلات جماعية نحو تركيا، وأغلبهم كانت أسماؤهم في بيانات أجهزة المخابرات المحلية المتعلقة بالمشتبه في علاقتهم بالفكر السلفي الجهادي المتطرف، ومن هناك كانوا ينتقلون بسلاسة نحو سوريا، ثم بعد أن يعيثوا قتلا وحشيا وتدميرا أعمى للعمران والعيش المشترك، يأتي «أسياد العالم» ليذرفوا دموع التماسيح على الأقليات الإيزيدية والمسيحية والكردية….
أثناء زمن القطبية الأمريكية السوفياتية، كانت المخابرات الغربية تصنع «الباك» الإرهابي، وتغلفه تحت مسمى: المقاتلون الأحرار، أو طلاب الحرية، ثم تصدرهم نحو باكستان التي كانت حديقة خلفية للناتو، ومن هناك لأفغانستان. لم يختلف المشهد كثيرا، سوى في أن هذا المنتوج أصبح يسمى من البداية: بضاعة إرهابية، مع إخفاء بلد المنشأ فقط، وجنسية الشركة..
وهكذا بعد تجنيد «العالم» ضد الفاشية التي كانت مشكلة أوروبية أساسا، استثمرت القوى الرأسمالية في الخوف، وصورت المعسكر الشرقي، في صورة شيطان، يسعى لتقييد الحريات وتعميم الفقر والقضاء على دولة الرفاه. ولأن العودة إلى الحروب الكبرى على أرض القارة العجوز كان غير مرغوب فيه من الطرفين، خيضت حروب بالوكالة في إفريقيا وآسيا وأمريكا اللاتينية، وظهرت تنظيمات راديكالية تقودها يوتوبيا التحرر من الهيمنة الرأسمالية .. تنظيمات تمت شيطنتها من طرف المعسكر الغربي، وتم نعتها بالإرهاب: منظمة بادر ماينهوف، الألوية الحمراء، منظمة التحرير الفلسطينية، حزب العمال الكردستاني… بينما تم خلق وتمويل تنظيمات متطرفة أخرى، تنطلق من مرجعية اليمين الديني المتشدد، ولا تؤمن بالمساواة بين النساء والرجال، وتميز بين الأفراد على أساس الدين والجنس، وتم نعتها بالحركات المطالبة بالحرية، وجعلها رأس حربة في الحرب ضد اليسار والاشتراكية، خدمة للرأسمالية.
بعد هذه المرحلة، تحدث كثيرون عن انقلاب السحر على الساحر، معتبرين أن التنظيمات الإرهابية ذات الخلفية الدينية قد انقلبت على أمها بالرضاعة (أمريكا)، والواقع أن أمريكا هي من انقلبت على القاعدة وأشباهها ونظائرها، ففي استئناف لحكامة «الخوف» تمت شيطنة هذه التنظيمات وتوريطها في ممارسات عنيفة ووحشية من أجل نزع أي شرعية أخلاقية أو تحررية او حتى دينية عنها، لتقديمها للعالم على أنها الخطر الأكبر الذي يتوجب تجنيد العالم الحر ضده، وبدأت عملية نقل هذا الوحش من مربع لآخر، من أفغانستان نحو الجمهوريات المتولدة عن انهيار الاتحاد السوفياتي، ومن هناك للعراق، فالصحراء الإفريقية الكبرى، ثم استنباتها في سوريا وليبيا وسيناء.
صناعة «الشيطنة» هذه، ستنتقل في مرحلة موالية، لشيطنة للإسلام، فبعد أن كان يتم في سنوات سابقة التفريق بين الإسلام وبين التنظيمات الجهادية المتشددة، تم الانتقال للحديث عن الخطر الإسلامي، خصوصا بعد تنامي موجات الهجرة نحو أوروبا وأمريكا وأستراليا من مواطنين ينحدرون من أصول إسلامية ( إفريقية وعربية وآسيوية).. هذه الهجرة التي هي بدورها نتاج الحروب الاستعمارية والتدخلات الأجنبية، ونتاج مخطط رهيب لإحياء النعرات الدينية والمذهبية والطائفية تم البدء فيه منذ التسعينيات عبر موجة المشايخ الجدد، الذين استبدلوا الصراع «العربي الصهيوني»، بالصراع «السني الشيعي»،، وقد تم التضخيم من أعداد المهاجرين من أصول إسلامية، مما أدى إلى تصاعد موجات الكراهية الدينية، وبروز ظاهرة الإسلاموفوبيا. وكما توجه اليمين الديني المتطرف في العالم الإسلامي نحو استبدال الخطر الصهيوني بخطر الأخر المسلم المختلف دينيا (تنامي موجات العداء ضد الأقليات المذهبية الإسلامية من شيعة وأحمدية..)، توجهت مشاعر كراهية اليمين الديني المسيحي من العداء التاريخي لليهود (اللاسامية) نحو العداء لكل ما هو إسلامي…
في المحصلة، نجحت الرأسمالية في صناعة الإرهاب الديني، سواء كان حركات سلفية جهادية أو يمينا دينيا مسيحيا، ونجحت في صناعة الخوف من الإرهاب، ونجحت في صرف أنظار العالم عن كوارث إنسانية ضحاياها أضعاف مضاعفة لضحايا قراصنة إرهاب الأفراد والتنظيمات اليمينية…