سأقتلهم جميعًا!
محمد خير الدين
لم يُكتَب عنه كتاب واحد حتى. بل لا يكاد يكون معروفا على نطاق واسع لدى قراء العربية، رغم أنه ترك الكثير من الأعمال الإبداعية الهامة بشهادة كتاب كبار من عيار مالرو وسارتر وآخرين من الأموات والأحياء على حد سواء. نتحدث عن محمد خير الدين أحد أبرز الكتاب في الأدب المغاربي المكتوب بالفرنسية، والذي لقي استحسانًا واعترافا في أوساط الانتلجيتسيا الأوربية بالحجم الذي لقي تهميشًا وتجاهلا في بلده المغرب. وبذلك يكون خير الدين مر من هنا دونما أن يُستوعب حتى لا نقول دون أن يحتفى به كقامة إبداعية وارفة في الشعر والرواية ما عدا بعض المقالات هنا وهناك، مع استثناء خاص يتمثل في مجهودات الشّاعر والمترجم المغربي عبد الرحيم حزل صاحب دار النشر”جذور” الذي أخذ على عاتقه تقديم أعمال محمد خير الدين لقراء العربية حيث جمع كل حواراته في كتاب موسوم بـ “زمن الرفض”…وترجم له رواية ” أغونشيش” ليكون بذلك أوّل من يترجم له عملا روائيا كاملا. مثلما كان سباقا لترجمة “يوميات سرير الموت” التي كتبها خير الدين على فراش المرض العضال الذي غيّبه في نونبر 1995.
أسبابٌ كثيرة تجمعت لدى هذا الكاتب الذي اختار باريس كمنفى في أواسط العشرينات من عمره لمدة تربو عن ثلاثة عشر عاما قبل أن يعود إلى المغرب، ويعيش مرحلته الأخيرة متنقلا بين مدن كثيرة يقرأ الشعر في البيوت ويقيم في الفنادق وغرف الأصدقاء كأي منبوذ محترم.
حتى نفهم محمد خير الدين علينا أن نبدأ معه الحكاية من أسفل خريطة الوطن حيث ولد بقرية تفراوت السياحية من أسرة تجار أمازيغية محافظة ستهاجر فيما بعد إلى الدار البيضاء القطب الاقتصادي بالمغرب. وهي الفترة التي ستشهد دخول محمد إلى المدرسة. سنة بعد ذلك سيحدث طلاق بين والديه، وهنا سيبدأ الولد المشاكس كتابة الشعر لتظهر قصائده الأولى في الجرائد. وسريعًا نشر ديوانه الأول “غثيان أسود ” بلندن عام 1964، وساهم في تحرير أعداد مجلة “أنفاس” رفقة عبد اللطيف اللعبي والطاهر بن جلون ومصطفى النيسابوري وعبد الكبير الخطيبي وآخرين. وهي المجلة التي انتصرت للثقافة المضادة وشكلت ثورة أدبية حقيقية في مغرب ستينيات القرن الماضي بشهادة أندري بروتون صاحب “بيانات سوريالية “.
يقول خير الدين في أحد حواراته الصحافية المبكرة: “واجهتني صعوبات أسرية كانت تبعثني على التمزق وجعلتني أخرج من ذاتي ما يشبه سلاحا جاهزا تماما يمكن إن صح التعبير أن يعينني في الدفاع عن نفسي تجاه أسرتي وتجاه المجتمع الذي لم أكن أستطيع فهمه جيدًا”. ربما سوء الفهم هذا هو الذي سيدفع به إلى الانقطاع عن الدراسة باكرًا. ثم عن الوظيفة بعدما كان موظفا بصندوق الضمان الاجتماعي عن منطقة الجنوب. ثم فيما بعد عن الوطن حين لملم أغراضه وقصد باريس من أجل هواء زائد، حيث آمن بإبداعيته رائد الوجودية سارتر واحتضنه في صفحات مجلة “الأزمنة الحديثة ” مثلما مهّد له الطريق للتعامل مع دار النشر سوي التي نشرت له أغلب أعماله بدءًا من روايته الاولى “أغادير” عام 1970، والتي لقيت ترحيبًا نقديّا وافرًا وبَصمت صفحاتها بميلاد كتابة جديدة هي مزيج من الشّعر الصافي والسرد بحكاياته الصادمة وفوضوية شخوصه. ثم روايته الشّعرية “جسد سالب” والتي أردفها بديوان شعري آخر ” شمس عنكبوتية ” لتطول لائحة إصداراته بالمقارنة مع عمره القصير. ومزاوجًا، في نفس الآن، بين الشعر والسرد طوال مسيرته الإبداعية ولم يتخل قط عن واحد منهما. وحالته هاته ستتكرر مع فاضل العزاوي، العراقي الذي يعيش في برلين متفرغًا للشعر وللرواية.
لم يتخل خير الدين عن المنحى التمردي الذي اختاره لكتاباته العالية حيث رصاص كثير ولغة لاذعة وحارقة على الدوام. بل أحيانا ثورية وجارفة تروم اقتلاع الجذور اليابسة وتحريك البرك العامرة بالدم والقيح في وقت لم ينزل من برجه العالي حيث ظل يرصد الأمراض والفضاعات من الأعلى ويذهب في اللغة الى الاقصى. ولايهم بعد ذلك أن يأتي القراء. فلا بد أن يتعلموا مم يقرؤون. إنه عنف الكتابة والحفر عميقا في أجزاء اللغة إلى درجة التعقيد والقسوة التي أضرت بخير الدين وأبعدت عنه القارئ بدرجاته، في الوقت الذي امتدت يد الرقيب الباردة الى جل أعماله، وكان مصيرها المنع في المغرب إلى حين.
لم يبعد عنه القراء فحسب، بل أبعد عنه النقاد والصحافيين والأصدقاء حتّى بسبب شخصيته العنيفة ومزاجه العكر. حيث وضع الجميع في جهة واحدة وركن هو في الجهة المقابلة يُشهر الشتائم ويزعق في الجميع مازجًا في كأس واحدة السخرية البيضاء بالهجاء الأسود تماما كأبطال رواياته التي أوكل لها مهمة إطلاق رصاصٍ حيّ دونما الالتفات إلى الوراء بل أكثر من هذا حين يثمل ويصرخ بفرنسية فصيحة ” سأقتلهم جميعًا.. سأقتلهم ” ينقل لنا الراحل العربي باطما، أحد أفراد مجموعة “ناس الغيوان” الغنائية، في فقرة من سيرته الذاتية “الألم” وذلك في معرض حديثه عن هذا الهدهد الذي لازمه لبعض الوقت بعد عودته إلى المغرب. والذي لا أحد يعرف متى ينام ومتى يقرأ ومتى يكتب، يقول عنه أيضًا الراحل محمد شكري صاحب “الخبز الحافي” الذي عاش معه هو الآخر تحت سقف واحد في طنجة والدار البيضاء.
.
وقالوا عنه في الجلسات الخاصة ما قاله مالك في الخمر.. مرّة فهو كاتبٌ ثوري على طريقة الكبار والنسر الذي قلم أظافره الحادة واختار المهادنة مع النظام في أواخر حياته بسبب حاجته للمال. ومرّة فهو الأمازيغي النبيل الذي رضع من أثداء الهامش وكتب بصدقٍ عن أبناء جلدته وقبيلته الكبيرة، وحتى الذين لم يسعفهم الصمت مثلما لم يسعفهم الكسل الثخين لتعلم الفرنسية وقراءة كتبه تكلموا وقالوا إنه مجرّد سكير غامض وغير مفهوم إطلاقًا. فيما أجمع أصدقاؤه المقرّبون على أنه شاعر كبير وواضح يتحرك بسكين كبيرة على طريقة رامبو، ويستحسن أن تقرأ كتبه وتبتعد عنه.
أما هاته المرّة وقد انطفأ الضوء الآخير واختار صاحبنا أن يبتعد عنا هو بنفسه وعن طيب خاطر، فلا نملك سوى أن نضع باقة اعتراف وامتنان على ذكرى كاتب استثنائي مرّ سريعًا من هنا، ونزيح ستائر التجاهل عن شاعر كبير عاش داخل القصيدة وخارج المؤسسات والقوالب الجاهزة.