الأدب المغسول

عبد الاله رابحي

…لاأدري لماذا أصبح أدبنا مغسولا،مصقولا،ملقّحا،أنيقا، نظيفا الى أبعد حدّ؟ ألأن عصرنا هوعصرالمبيدات بامتياز! … لم تعد تعلق بأدبنا أدران الواقع، وشوائب الجذور، وهواجس وأوهام الهوية… لم تعد بصمة الواقع الخاص تطبع أدبنا… أين أعطابنا،أوساخنا،كوارثنا،نكباتنا، انتكاساتنا، خيباتنا في أدبنا، بكلمة واحدة: أين بيئتنا في واقعنا الأدبي؟؟ …حين كنا نقرأ “سلطانة” لغالب هلسا كنا نرى من وراء سعف النخيل البيئة الأردنية ، حين كنا نقرأ ل”الطيب صالح” كنا نرى البيئة السودانية من وراء الزجاج الغربي المضبب ، حين كنا نقرأ ل”عبد الرحمان منيف ” كنا نعيش اغتيال الأشجار، ونتذوق الملح في مرارته، حين كنا نقرأ ل” نجيب محفوظ ” كان الدم المصري يجري ملوثا في سطور”الحرافيش”، ودروب “أبناء حارتنا” ، حين كنا نقرأ ل”أحمد المجاطي” كنا نسمع الركض المغربي في فروسيته، مع ” احمد بوزفور” نرى الواقع في غابره وظاهره، مع” أحمد التوفيق” نسمع ضجيج الصمت في جاراته، مع “محمد زفزاف” نسمع أنفاس السلاحيف، ومع “عبد اللطيف اللعبي” كنا نلمس النتوءات في “تجاعيد الأسد” المغربي… كنا نسمع، نتذوق، نرى ، نلمس ، ونعيش بكل حواسنا حرارة الواقع في حرارة الادب . أكانت الحرارة في الناظر ام في المنظور؟ بكل تأكيد كانت فيهما معا. بقدرة قادر أصبح لأدبائنا مصفاة كبيرة يصبّون فيها أدبهم ، يعصرونه عصرا، يفقرونه… يصنعونه صنعا فاذا هو بلا طبع… يجرّدونه من تختّره ، يحرمونه من ” تخته” ، ويعطّلون وظيفتي أصغري المرء: لسانه وقلبه… فيمرّ سريعا يخاطب الصمم في أحسن أحواله … أليس كنه الأدب أن يظلّ مهدّدا بالفيروسات ، بالميكروبات ، وأن تستمرّ خشيته من الموت تلازمه لأنه في اصراره على حب البقاء يضمن بقاءه ، في مقاومته ونضاله ، في معركته وغبار وغاه يؤكد حضوره ، في خوفه المستمر من الموت يكتب له البقاء لأنه آمن أن الشهداء لا يموتون…أما وقد أخرجناه معقّما، معلّبا، باردا، مثلّجا ، حكمنا عليه بالموت عند لقائه بأول فيروس طارئ كالعطب الملازم لذاك الطفل المعتنى به أكثر من اللازم …أصبح أدبنا مدلّلا، مدلّعا . أصبح أدبنا ” ولد الفشوش”. يرتدي بيجامته ويشرب كأس حليبه ، يصعد الى غرفته كي ينام مبكّرا قبل ان تخرج الأشباح لأنه لم ير في أدب سلفه الا حكايات الجدّة التي على أنغامها يستحق النوم . ينام تحت حراسة مشدّدة… اصبح كتابنا عسس الادب النائم … ثم يشرع ادبنا المدلّل في احلامه اللذيذة : أرجوحة في حديقة سندباد…شخوص أنيقة…أبطال بمعاطف شتوية وقبعات سوداء، تحت مظلات حادّة ،يذرعون الشارع اللامع ليجلسوا على كراسي المقاهي الوتيرة يدخنون الغليون…ويحدّقون بعيون ناعسة في الاقزام الفاتنة والمفتونة بين السيارات المارقة… سطور انشائية متكلّفة برويّ واحد يدوزن توالي السطور على ايقاع هادئ يليق بمقام النوم… يحلم أدبنا النائم بالهدايا يغدقها عليه بابا نويل وجوائز يرشقه بها ساحرات سبأ اللواتي يتقنّ التحوّل السريع في مسخ عجيب الى ملائكة بيض بأجنحة خفيفة ترفرف على سرير النائم فتداعب خصلات شعره (بكسر الشين) الناعم . يحلم ادبنا المدلّل بحفلة نهاية السنة ، ومهرجان الخروج الثقافي : منبر من ريش النعام…خلفه طفلة بتنورة قصيرة تردد لازمة النشيد :” تك …تك … مثل الساعة…انهض باكر..واحفظ درسك…دوما…أبدا…” ، ترطن بقصيدة ملفوفة في قطن ناعم بألياف حريرية..تتنبأ لها لجنة التحكيم المشنوقة بربطات عنق فاقعة اللون بمستقبل شعري زاهر… ثم يتوالى على المنبر ذي الدرج المصنوع على مقاس الزملاء ، تحت فلاشات الفوتوغرافي المبتسم باستمرار،أطفال شقر بملامح أقحوانية، تحت يافطات زاهية ، وكرات هوائية تتراقص بغنج مفرط ..وأدبنا الحالم في أبهى حلله يرسم آفاق انتظار فيسبوكية…وشهرة كونية بعدد هائل من التعاليق اللينة تحت وابل من تصفيقات حارة… لا أدب بدون صور! وكعكعة مستطيلة بأطباق متراصّة لعيد ميلاد سعيد يأتيه الشعراء من كل حدب وصوب محمّلين بقصائد معلّبة مختلفة الأحجام ، كلّ واحد منهم يخشى على قصيدته ان يفوتها تاريخ الاستهلاك لأن حبل ادبنا أصبح قصيرا…يصدّق الشعراء بعضهم بعضا، يسجّلون الحضور، يقرأون على بعضهم، ولا يعنيهم أمرالغوغاء والدهماء، يكفيهم أن الاقارب حاضرون…حتى اذا انفضّ الجمع … وماتت العنقاء… وتفرّق الصحابة… تنابزوا بالألقاب، وتبجّحوا بالأوسمة والجوائز والدواوين الصقيلة المغسولة والأسماء، لا الآداب، التي جابت الآفاق، يعيدون خفية لهفة استصدار شهادة حسن السلوك من مشارق الأرض، تلك التي عمل سلفهم بمكابدة على مساءلة مقدّساتها، وفكّ الارتباط الوثيق بها .

تأدّب ادبنا فوق اللازم… وأجرى عملية تجميل شاملة. لم يعد أشعتا، قلقا، مشاغبا، مرّا، لم يعد مهووسا بطرح الأسئلة ، لم تعد ملامحه تحمل ندوب الألم وعلامات الأرق، ورائحة العرق،وأثر الجروح الغائرة، وهمّ القسوة ونكران الجميل . لم يعد فاعلا، ولا حتى منفعلا، لم يعد حيّا … اصبح مطواعا، بارّا… ينتظر بشغف أن تمرّر اليد العليا حنانا على شعره الأملس،وان تربت على كتفيه انتشاء بمعدّله الجيّد… لم يكن أدبنا ينتظر أن يرضي النقد، ولم يكن نقدنا ينتظر أن يرضى عليه الأدباء… كان باب ” الخصومات” و”المعارك” مفتوحا على مصراعيه حتى أذكى الحرارة في القارئ والمقروء وما يجري بينهما، وأشاع ثقافة النقد والحوار الجادّ ، مبدؤه ومنتهاه، لا فقط تفسير الواقع ، بل تغييره…لم يعد أدبنا معنيا بقصّة الواقع، ولا بحكايات الدروب في المدن السفلى…صبيان تشايخوا… وسكنوا ابراجهم الحالمة قبل الأوان، معنيون فقط بتطهير أرواحهم من وسواس الواقع… يغسلون تركيباتهم بعناية مفرطة حتى لا تخدش حياء الحياة… فليهنأ صاحب ” المعسول” فحفيده لا يكتب الا “الأدب المغسول”…

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى