عــائــشــة ســتــعــود
◆ أحمد عارف
لم يطلع الفجر هذه المرة حتى انتشر الأطفال في أزقة الدوار يتقاذفون في برك الماء والأوحال وحناجرهم تتسابق لتردد : تاغنجا، تاغنجا ... أما عباس فقد تمدد على ظهره يرتل غضبه في خشوع كما لو أن هذه الأمطار لا تكفي لتعيد لنفسه الاطمئنان، واصل الأطفال كرنفالهم بكل ما تعلموه من طقوس الرقص والمزاح، التحق بهم آخرون وعلت أصواتهم كل فضاءات الحي، وفجأة ها عباس ذو اللحية الكثيفة السوداء يقف أمام براكته مغرقا نظراته في كل الاتجاهات كمن يبحث عن ضالته، ولما أضناه الوقوف اقتحم براكته من جديد وارتمى في مكان ما ثم سلم نفسه للشخير بينما تاهت ₺حادة ₺ في الدروب وفي ذهنها أطفال أنجبتهم مع عباس في ظروف غامضة، أما كبيرتهم عائشة فلا تعود الى البيت إلا في مناسبات نادرة، حتى أن من يراها عند عودتها يخيل اليه أنها تتكلم الفرنسية… وقد عقد عليها عباس كل آماله البئيسة. بالأمس تحدث عنها كثيرا: «عندما سيرحل أولائك الشبعانين لا بد أنهم سيتركون لها أشياء ثمينة وعندها نشتري ديكا ودجاجة ومن بيضهما نشتري ماشية وبعد عامين سيكون لنا بيت مسقف بالإسمنت …» غير أن «حادة» ظلت صامتة كعادتها وكأنها لا تفهم من كلامه شيئا كثيرا…!
هذا المساء تقدم عباس بخطوات خجولة الى الأمام، التفت وألقى نظرات دامعة على براكته كمن ينوي الرحيل الى الأبد ثم انطلق متسللا بين أزقة لا عهد لها بالهندسة، توقف قليلا كأنه يحاول جاهدا مد أذنيه لتستقصي ما تبقى من هتاف الأطفال. حملق في مصباح كهربائي يراه لأول مرة في الحي ثم هز كتفيه وتابع سيره البطيء وفي ذهنه ذلك الذي يوزع على رؤوسهم المدارس والحدائق والدقيق والشغل والديمقراطية. أخيرا وصل عباس الى المقهى بعد امتحان عسير نجا فيه من تخطي جداول المياه العكرة التي يرتفع هيجانها كل مساء…
فضاء المقهى مملوء، ويمتلئ أكثر في منتصف الليل. دخان السجائر والضجيج، لكن العم سليمان صاحب المقهى العجوز يتفهم زبناءه كثيرا ويحبهم أكثر بالرغم من أحاديثهم المملة عن فلسطين.. عن البطالة، عن « تواخير» الزمان، عن جمال عبد الناصر … جلس عباس القرفصاء في الزاوية اليسرى للمقهى ثم أسند ظهره الى الحائط وسلم نفسه للشخير ثانية … وهناك أصبح رجلا شامخا، جمع حوله الأطفال ووزع عليهم حكايات الأسد الأبكم والقنفذ الأعمى والثعلب الأعرج وارتمى الأطفال في أحضانه فأحس أنه ليس وحيدا، سألهم صغيرهم: عمي عباس هل تلعب معنا لعبة «المزاليط» ؟.. ابتسم ووعدهم بألعاب أخرى وبأناشيد للذكرى، أوشك نور الصباح على البزوغ. ارتفع صوت المذياع وفرك عباس عينيه وفتحهما ليجد العم سليمان ينظر اليه والدمع ينسكب من عينيه وآخرون يراقبونه باندهاش. تحسس عباس جوانبه وقام مسرعا كمن يريد أن يبصق في الخارج، لكن أطفال تاغنجا اعترضوا طريقه، قال أوسطهم بأسى: عمي عباس لقد التهمت النار حصيرتك وكل متاعك… وقال كبيرهم: عمي عباس من الذي حرق مرقدك؟ وقال صغيرهم : أبي، هل ستعود أمي الى البيت هذا المساء …؟!، حاصره وابل من الأسئلة، تفحص وجوههم بنظراته المعهودة ثم عاد أدراجه الى الركن الأيسر من المقهى فأسند ظهره الى الحائط ، وقبل أن يسلم نفسه للشخير، تذكر أن له عائشة ستعود …!