بين اللائكية والمقدس
◆ فيروز فوزي
من المؤكد أنه قد لا نتفق دائما مع الآخرين، بل وقد يشكلون أضدادا لمعتقداتنا، إلا أننا ملزمون ومن معطى إنساني استيعاب مكنونات الآخرين والتعامل مع التجارب الإنسانية بروح من الوعي بالذات أولا وفهم ذوات الآخرين ثانيا.
لا يخلو يوم من موقف معبر يعكس كم هي وسائل المواصلات مختبر حقيقي لقيم التعددية والاختلاف والتعايش بمختلف مستوياته في المجتمع الكيبيكي. فلم أتصور قط أن موقفا كهذا الذي وقع أمامي اليوم داخل المترو، سيجعلني في اختبار داخلي فعلي لقدرتي على تقبل الاختلاف والتسامح مع تجلياته الأكثر جذرية: ثلاثة شباب في العقد الرابع من العمر أمامي في لحظة حميمية مباغتة، الأول في وسط المجموعة يقبل الثاني في فمه وفي نفس الوقت يضع يده على مؤخرة الثالث، مشهدية سريالية تدفع بكل مفاهيمك للتسامح والتعايش إلى حدودها القصوى… هل بإمكاني أن أتقبل بسهولة هذا المشهد في فضاء عمومي مفتوح؟.. مذهولة بين الركاب من مختلف الأصول والانتماءات العرقية والدينية والثقافية. تجمعنا قاطرة المترو نشترك الفضاء والزمن، ومن غير أن يقصد أحد فثمة مجتمع كيبيكي مصغر داخل المترو بجميع سماته وملامحه وتحديداته يجد لنفسه مناخا للتسامح مع هويات كل من يكونه واختياراته ما لم يتدخل في حرية وخصوصية الجميع، بما هم في نهاية المطاف أفراد مستقلون ويتقاسمون المجال العام ولهم داخله نفس الحقوق وعلى القدر نفسه من الالتزامات والواجبات .
مثل هذه المواقف وغيرها في المواصلات العامة وغيرها من الأماكن تجعل أي وافد جديد يتعلم كيف يصبح مواطنا في المجتمع الكيبيكي ويكتسب أسلوب العيش المشترك مما يعنيه من الممارسات والمظاهر التي يحترمها من وازع اقتناع ذاتي واستعداد قبلي للوقوع في اختبارات وبل صدمات أولى كتلك التي وقعت فيها أمام منظر العلاقة الثلاثية المثلية.
حينما نتأمل في ما يحدث في الآونة الأخيرة في المغرب، نلاحظ سلوكيات متناقضة مع مبادئ المواطنة الحرة، سلوكيات مشوهة تتدحرج بين اللائكية والمقدس. ولعل الجميع يقر بأن علاقة العلمانية بالإسلام من المواضيع الشائكة. وقبل النظر الموضوعي للمسألة لابد من استحضار أنه لا يوجد للعلمانية معادل دقيق في المصطلح الإسلامي. وموقفي الاجتهادي ألا نستخدمها في الخطاب الإسلامي، وإن كان من الضروري تحليلها وتفكيكها في خطابنا العلمي والأكاديمي والثقافي. وبداية أود الإشارة إلى أن العلمانية أصلها “العالمانية” نسبة إلى مفردة “العالم”، وليس “العلم”. والإيحاء بأنها مرتبطة بالعلم، حتى لغوياً، إيحاء مغرض ولا يجوز، وهو في أحسن أحواله يعاني من “انحياز” إيديولوجي. وإن تكن المطالبة بالعلمانية تزامنت تاريخياً مع انتشار نزعة العلم في أوروبا.
منذ ما يزيد عن قرن من الحياة المدنية ما يزال المغاربة يعيشون الهويات المغلقة، برغم دستور 2011،.. برغم سروال الجينز.. برغم المدنية والمؤسسات.
يلاحق الناس من يفطر جهرا في رمضان، يعاقبون بشكل غابوي من يتعاشقون ويحاكمون من يتبادلون القبل في الحدائق وممرات المدينة، يضاعفون من ميزانية بناء المساجد ويكثر التدين على حافة الشوارع وكل ممرات الخيال الغيبي كل ذلك يتم بضمير ” نحن” كتعبير عن هوية جماعية.. لكنها هوية متشظية.
تتبنى المدينة الحدائق والضوء والتلفزة والإنترنيت عالي الصبيب، وفي المقابل يكفر الناس بالفردانية، تنتعش مفكرة الأرصدة بالقروض من جميع الشرائح والألوان ويدخل الكل في دورة السوق والليبرالية بصفة التوحش وتمتطي الأجساد المترو لكن القطار الفائق السرعة ينضبط لسرعة خيول التكفير الخاملة..هي حرب طويلة الأمد نحو مجتمع الحداثة …
الحل هو التصدي للعوائق الذهنية والبنيوية.. المسؤولية أولا ملقاة على الدولة أولا ثم المتعلمين – حتى لا أقول المثقفين- ثم على الطبقة السياسية، ثم قنوات التواصل السياسي العامة والمجتمع المدني، قبل ذلك يجب سنّ عقد اجتماعي جديد للمواطنة، عقد تتلاقي فيه وحوله الإرادة السياسية بكامل ثقلها والفرد كمحور هذه العلاقة التي لا تحتمل الانفصام.