القطاع الصحي في العصر الوسيط بالمغرب
بقلم : يوسف رزين
انفجر النقاش حول وضعية القطاع الصحي بالمغرب بفعل انتشار وباء كورونا مؤخرا ومعاناة العالم بأسره بسببه. والواقع أن الحديث عن هذا القطاع لم يكن وليد اليوم بل كان محط انتقاد دائم من طرف فصائل المعارضة اليسارية تحديدا، ما دام أن الدولة لا تعتبره ضمن أولوياتها، لولا أنه حل الوباء ببلدنا فتبين للعيان كم هو مهم أن يكون لنا قطاع صحي كفء نلجأ له في الأزمات الصحية الكبرى كهاته. وهنا يُطرح السؤال التالي: هل سلوك الدولة الحالي تجاه القطاع الصحي يستمد أصوله من الماضي أم لا؟ بعبارة أخرى، هل حقا كانت الدولة المغربية قديما مهملة للقطاع الصحي أم أن العكس هو الصحيح؟. وكيف نظرت الدولة في الماضي إلى احتياجات المغاربة الصحية، و كيف تصرفت إزاءها، خصوصا في العصر الوسيط؟ هذا ما سنتناوله بالبحث.
يحضرنا في هذا السياق نموذجان للدولة الوسيطية وهما الدولة الموحدية ونظيرتها المرينية، صحيح أنهما توفرتا على وسائل تقليدية وبراديغم طبي وسيطي، إلا أنهما أبلتا البلاء الحسن في مواجهة التحديات الصحية التي واجهت المجتمع المغربي إذاك. والتي إجمالا يمكن تلخيصها في الأمراض العادية كأمراض المعدة والرئة والكبد والعيون ثم التسممات الناجمة عن عض الكلاب أو الأفاعي أو العقارب ثم الأمراض العصبية والنفسية من صرع ثم الأوبئة كالطاعون و الجذام و الجُدري..
لذلك كان على الدولة أن تعالج المرضى وتساعدهم على تخطي مشاكلهم الصحية. وفي هذا الصدد تذكر المصادر أن الخليفة الموحدي يعقوب المنصور أنشأ بيمارستان مراكش وأولاه عنايته، كي يكون مقرا مريحا للمرضى، بحيث وصفه عبد الواحد المراكشي بأنه مستشفى حرص الخليفة على أن يكون متقن البناء بديع الزخارف، كما غرس فيه أنواعا عديدة من الأشجار والزهور ومده بالماء العذب وزينه بأربع برك مائية وأثثه بالفرش النفيسة من صوف و كتان و حرير.
وقد أجرى له ثلاثين دينارا كل يوم كنفقة طعام، ومنح المرضى ثيابا تخص النهار والليل والشتاء والصيف. وحينما كان المريض يشفى فإنه إن كان فقيرا أمر له عند خروجه بمال يعيش به ريثما يستقل بنفسه، و إن كان غنيا أعاد إليه ماله. تجدر الاشارة إلى أن هذا البيمارستان كان مفتوحا في وجه الجميع دون استثناء. فكل مريض كان يلجه إلى أن يشفي أو يتوفى. وينهي المراكشي شهادته بالقول بأن الخليفة كان يزور المرضى بعد كل صلاة جمعة، و يعودهم و يطمأن على أحوالهم و ظل كذلك إلى أن توفاه الله (1).
و على نفس المنوال سار السلاطين المرينيون، فأنشأ أبو يعقوب يوسف المريني سنة 685ه بيمارستانا بفاس و أوقف عليه كثيرا من العقارات للإنفاق عليه. و حينما تولى السلطان أبو عنان الملك سنة 766ه أضاف إليه زيادات كبيرة. و مما يروى عن هذا المارستان أنه تولى إدارته سنة 900ه طبيب أندلسي يدعى فرج الخزرجي فسمي بذلك بيمارستان فرج. وقد أجاد هذا الطبيب إدارته وأدخل عليه عدة تحسينات، من بينها جعل الموسيقى أحد سبل العلاج للمرضى النفسيين (2).
كما أنشأ أبو عنان المريني مارستانا آخر بسلا، ضم غرفا كثيرة لعلاج مختلف الأمراض والمرضى النفسانيين و رتب له الأطباء و الخدم، و جعل له الأوقاف التي تنفق عليه (3). ومما يحكى عن هذا المارستان أن الطبيب أبا العباس ابن عاشر الأنصاري الأندلسي (ت 764ه) تفانى في إسعاف ذوي العاهات من فقراء سلا، فسموا مارستان مدينتهم سيدي بن عاشر(4) .
و لم يقتصر الأمر على تشييد المارستانات لعلاج المرضى. ذلك ان المشاكل الصحية للمغاربة لم تقتصر على الأمراض العادية، بل تعدتها إلى الأوبئة ومنها الجدري و الجذام والجرب. ولذلك عمل الموحدون على تشييد حارات الأمراض المعدية خارج المدن، متبنين في ذلك سياسة الحجر الصحي. حيث شيد الخليفة يعقوب المنصور الموحدي حارتين للجذمى بسلا و القصر الكبير(5). كما اعتنى السلطان يعقوب بن عبد الحق المريني بالجذمى فعين لهم الأطباء لرعايتهم و خصص لهم مالا يحصلون عليه كل شهر من جزية اليهود(6).
قامت سياسة الدولة إذن بخصوص الجذمى على عزلهم عن السكان، فشيدت لهم حارات خارج المدن، كحارة الجذمى العتيقة بمراكش وحارة الجذمى خارج باب الخوخة بفاس. وفي أيام المجاعة العظيمة (619-637ه) نقل الجذمى إلى الكهوف خارج باب الشريعة. ونظرا لمرضهم المعدي فإن الفقهاء منعوا الجذمى من مشاركة الأصحاء في استعمال المياه العامة، فكانوا لا يستعملون المياه إلا بعد خروجها من المدن ليكونوا آخر مستعمل لها. و قد شرح ابن أبي زرع ذلك قائلا “تكون سكناهم تحت مجرى الريح الغربية، فتحمل الرياح أبخرتهم و لا يصل إلى أهل المدينة منها شيء وليكون تصرفهم من الماء وغسلهم بعد خروجه من البلد” (7). و رغم هذا الحجر و الإقصاء الذي تعرض له الجذمى إلا أنهم في المقابل تمتعوا برعاية جيدة فيما يتعلق بالتغذية والعلاج والتنظيف. بينما نجد الفرنسيين في نفس الحقبة الوسيطية تحللوا من واجبهم تجاه الجذمى وحرقوهم بشكل جماعي سنة 1321م (8).
و إضافة إلى المارستانات و حارات الجذمى لجأ المرضى إلى الحامات للاستشفاء بمياهها المعدنية الحارة، حيث أدرك المغاربة منذ القدم قدراتها العلاجية. فاهتمت الدولة بتهيئتها وجعلها تحت تصرف الناس. فاشتهرت عندهم حامات فاس كحمة خولان وحمة وشتاتة وحمة أبي يعقوب (9).
و لم يقتصر الأمر لدى الدولة على تهيئة أماكن العلاج من بيمارستانات وحارات الجذمى وحامات، بل وفرت كذلك الأطباء الأكفاء للإشراف على علاج المرضى. ولذلك فقد نبغ عدة أعلام في هذا الميدان، كالفيلسوف الشهير أبي الوليد بن رشد و أبي الحجاج يوسف وعائلة ابن زهر التي اشتهرت بممارسة الطب. فبرز منها الطبيب أبو مروان عبد الملك بن زهر والطبيبة أم عمرو بنت أبي مروان بن زهر، التي تحكي المصادر أنها كانت تلج قصور الموحدين وتعالج نسائهم و أطفالهم و إمائهم (10). و قد برع هؤلاء الاطباء في عدة تخصصات طبية كأمراض الرئة والمعدة والكبد وطب النساء و الاطفال و الجراحة و العيون و الطب النفسي.
و بالطبع ما كان لتطور الطب في العصر الوسيط إلا أن يبرز بجانبه علم الصيدلة التي انفصلت عنه منذ القرن الخامس الهجري و اصبحت علما مستقلا بذاته. فظهر صيادلة لهم دراية بعلم النبات و الأعشاب دون يكونوا أطباء بالضرورة (11).و قد اشتهر منهم كثير كالشريف الإدريسي و ابن البيطار و أبو العباس بن الرومية. و لأن الصيدلة يلزمها مختبرات و معامل، فقد تكفلت الدولة الموحدية بذلك، حيث ضم مارستان مراكش مختبرا لصناعة الأدوية و المعاجين و الأشربة التي يحتاجها المرضى(12).
و يذكر في هذا الصدد أن المغاربة عانوا كثيرا من التسمم الناجم عن السموم النباتية و الحيوانية و عض الكلاب المسعورة و لدغ العقارب و الأفاعي. لذلك اهتم أطباء و صيادلة ذلك العصر بإيجاد ترياق ناجع لهذه التسممات فأنجزوا عدد من الترياقات كترياق الأنتلة و معجون فربيون و ترياق الفاروق و دهن البلسان .
هذا و قد كلفت الدولة الباحثين بتجربة الأدوية في الحيوانات و الطيور قبل وصفها كعلاج للمرضى. و في هذا الصدد يذكر العباس أحمد التيفاشي أن الخليفة يعقوب المنصور أمر بتجربة الترياقات على مجموعة من الديكة الملسوعة من طرف العقارب و الأفاعي قبل اعطائها للمرضى. فقد كان لهذا الخليفة اهتمام خاص بالأدوية و العقاقير، لدرجة أنه أنشأ صيدلية خاصة به عرفت ب”خزانة الأشربة”. و كلف بإدارتها الطبيب أبا يحيى بن قاسم الاشبيلي.
و لم يقتصر امتلاك الصيدليات على الخلفاء، بل تعداه إلى الاطباء و الصيادلة. حيث كانت لهم دكاكين تباع فيها العقاقير و الأعشاب الطبية. و من بينهم نذكر ابن الجزار الذي كان له دكان لبيع الادوية للمرضى سماه بيت الصرف (13). و خشية أن يتسرب إلى هذا القطاع الحساس الدجالون و المشعوذون، فإن الدولة الموحدية فرضت رقابتها على بائعي العقاقير و جعلتهم تحت سلطة المحتسب، و عاقبت منتحلي الطب أو الصيدلة بالضرب و السجن و الدية (14).
لكن رغم مجهودات الدولة الوسيطية في تأطير القطاع الصحي، و جعله تحت رقابتها، ظل هناك قطاع صحي آخر غير مهيكل يمارس من خلال الأولياء والصوفية، الذين ادعوا قدرتهم على العلاج من خلال بركة كراماتهم (15). فكل ما استعصى على الأطباء كان الاولياء يدعون القدرة على علاجه باستثناء الطاعون. وبهذا نشأ صراع بين الأطباء والمتصوفة حول من يحق له علاج المرضى. لكن من جهة اخرى نجد أن القطاع الصحي المنظم من طرف الدولة كان مقصورا على المدن، بينما كان سكان البوادي يجدون صعوبة في التنقل إلى الحواضر الكبرى حيث توجد المارستانات. لذلك لجأوا إلى المتصوفة المنتشرين في البوادي(16). وقد اقتصرت أساليبهم العلاجية على النفث أو التفل على مواضع العلة. وهي كرامة اشتهر بها كثيرا الشيخ أبو يعزى الذي يحكى أنه كان يبرئ المجانين و المرضى وذوي العاهات الذين عجز الأطباء عن علاجهم (17).
بقي أن نشير إلى أن رعاية الدولة الوسيطية للقطاع الصحي لم تقتصر على علاج المرضى، بل امتدت إلى رعاية الضعفاء والمهمشين، شعورا منها أن الضعف و الهشاشة هما استمرار للمرض بشكل أو بآخر. وفي هذا الصدد تذكر المصادر أن السلطان أبا الحسن المريني اهتم ببناء دور للعجزة و المسنين الذين لا عائل لهم. وهو ما يوضحه ابن مرزوق قائلا ” كان أبو الحسن أشفق خلق الله على من علت سنه ووهنت قوته و قد أجرى على من اتصف بالشياخة من الضعفاء ولازم الخير رواتب تكفيهم ورسمهم في جرائد عماله شيوخ الجامع وبنى لهم دورا شبه الربط…و أجرى لهم كساء في كل عام تكفيهم”.
اما ابنه ابي عنان فقد أضاف لعمل والده بأن سدد ديون الذين قضوا في الفواجع و الكوارث و الفتن (18). هذا و لم تقتصر الرعاية الاجتماعية على الجانب الرسمي بل ساهم فيها أيضا المحسنون و الزوايا التي بدورها فتحت أبوابها للجوعى والمرضى والمشردين(19) .
إلى هنا، تبدو الصورة جميلة بخصوص الرعاية الصحية والاجتماعية بالدولة الوسيطية المغربية. لكن هذا الواقع الحسن كان لازما فقط للدولة إبان ازدهارها، أما حينما تنهار فإنه ينهار معها. لقد كان القطاع الصحي بالعصر الوسيط أوضح مؤشر عن حال الدولة ازدهارا و تدهورا. فكل ما ذكرناه سابقا كان يتعلق بفترات استقرار الدولة وعهد ملوكها الأقوياء، أما في فترات الأفول، فإنه تعين على المرضى أن يواجهوا مصيرهم لوحدهم دون دولة مركزية ترعى شؤونهم.
يذكر الحسن الوزان في هذا الصدد حينما زار إقليم حاحا في نهاية العصر الوطاسي أنه لم يجد أي طبيب أو صيدلي، و أن العلاج بها يكاد يقتصر على الكي، شأنهم في ذلك شأن الحيوانات (20). أما مارمول كربخال الأسير الإسباني الذي زار المغرب في نفس الفترة، فقد أشار إلى أن مستشفى سيدي فرج المعد للغرباء لم يعد يزود المرضى بالأدوية واقتصرت الخدمة فيه على تزويدهم بالطعام (21).
ختاما، نخلص في سياق كل ما سبق أن الدولة المغربية الوسيطية لم تكن تنظر الى القطاع الصحي كعبء ثقيل، بل كانت تعتبره إحدى مسؤولياتها الواجبة عليها. لذلك لم تدخر جهدا للقيام بما يمليه عليها واجبها. فكان هذا القطاع يزدهر بازدهارها و يتدهور بتدهورها. لذلك فما دمنا نحيى الآن في ظل دولة مركزية فمن الواجب عليها أن تعير القطاع الصحي والرعاية الاجتماعية ما يستحقان من اهتمام إسوة بتاريخنا المجيد في هذا الميدان.
_________________________
- أحمد عيسى، تاريخ البيمارستانات في الاسلام،ص: 281.
- أحمد عيسى، تاريخ البيمارستانات في الاسلام،ص: 287.
- عبد الهادي البياض، الكوارث الطبيعية و أثرها في سلوك و ذهنيات الانسان في المغرب و الاندلس (ق 6-8 ه/ 12-14 م)، ص: 293.
- عبد الهادي البياض، الكوارث الطبيعية و أثرها في سلوك و ذهنيات الانسان في المغرب و الاندلس (ق 6-8 ه/ 12-14 م)، ص: 294.
- عبد الهادي البياض، الكوارث الطبيعية و أثرها في سلوك و ذهنيات الانسان في المغرب و الاندلس (ق 6-8 ه/ 12-14 م)، ص: 297.
- عبد الهادي البياض، الكوارث الطبيعية و أثرها في سلوك و ذهنيات الانسان في المغرب و الاندلس (ق 6-8 ه/ 12-14 م)، ص: 298.
- عبد الهادي البياض، الكوارث الطبيعية و أثرها في سلوك و ذهنيات الانسان في المغرب و الاندلس (ق 6-8 ه/ 12-14 م)، ص: 297.
- عبد الهادي البياض، الكوارث الطبيعية و أثرها في سلوك و ذهنيات الانسان في المغرب و الاندلس (ق 6-8 ه/ 12-14 م)، ص: 299.
- عبد الهادي البياض، الكوارث الطبيعية و أثرها في سلوك و ذهنيات الانسان في المغرب و الاندلس (ق 6-8 ه/ 12-14 م)، ص: 296.
- الحسين بولقطيب، جوائح و اوبئة مغرب عهد الموحدين، ص:78.
- حنان بن ناصر، الطب و الصيدلة في بلاد المغرب خلال العصر الوسيط، ص: 48.
- الحسين بولقطيب، جوائح و اوبئة مغرب عهد الموحدين، ص:71.
- حنان بن ناصر، الطب و الصيدلة في بلاد المغرب خلال العصر الوسيط، ص: 72.
- الحسين بولقطيب، جوائح و اوبئة مغرب عهد الموحدين، ص:77.
- الحسين بولقطيب، جوائح و اوبئة مغرب عهد الموحدين، ص:76.
- عبد الهادي البياض، الكوارث الطبيعية و أثرها في سلوك و ذهنيات الانسان في المغرب و الاندلس (ق 6-8 ه/ 12-14 م)، ص:301.
- عبد الهادي البياض، الكوارث الطبيعية و أثرها في سلوك و ذهنيات الانسان في المغرب و الاندلس (ق 6-8 ه/ 12-14 م)، ص: 302.
- عبد الهادي البياض، الكوارث الطبيعية و أثرها في سلوك و ذهنيات الانسان في المغرب و الاندلس (ق 6-8 ه/ 12-14 م)، ص: 299.
- عبد الهادي البياض، الكوارث الطبيعية و أثرها في سلوك و ذهنيات الانسان في المغرب و الاندلس (ق 6-8 ه/ 12-14 م)، ص: 306.
- الحسين بولقطيب، جوائح و اوبئة مغرب عهد الموحدين، ص:79.
- عبد الهادي البياض، الكوارث الطبيعية و أثرها في سلوك و ذهنيات الانسان في المغرب و الاندلس (ق 6-8 ه/ 12-14 م)، ص: 293.