القراءة والكتابة في زمن كورونا
◆ ذ. أحمد بنميمون | شاعر وروائي
زمن الحجر الصحي الآن يكاد يخرج عن كل التوقعات، خاصة بالنسبة إلى من لا يعرفون شيئاً عن أي زمن صعب عاشته بلادنا من قبل، هذا رغم كل التخوفات التي بدت على الناس وهم يزدحمون على أبواب المتاجر كبراها وصغراها، لاقتناء ما يتصورون أنه يكفيهم هول الحجر وويلات ما يوصي به الناس وما يشير عليه به من تباعد اجتماعي، وإغلاق أبواب إن لم يلح حتى على إغلاق قلوب، فطوبى لمن يجدون سلوى فيما يكونون قد راكموه لأنفسهم من عادات محمودة، فكيف بالمبدع الذي ترسخت القراءة والكتابة لديه حتى ليمكن الـتأكيد على أنهما قد أصبحتا طبعين راسخين في برنامج حياته، بعد عقود من مراسهما ليل نهار، فلا تتغيران وتيرة مهما كانت الظروف.
وقد حل بنا الحجر الصحي وأنا بين كتابين قد يفاجئ القارئ بعد ما بينها، لكن طول جلوسي إليهما جعلني أكتشف علاقات تجمعهما، وذانك هما كتاب :(المفضليات) للمفضل بن محمد بن يعلى الضبيّ، ورواية: (طيور هوليداي إن) للروائي اللبناني ربيع جابر، فإذا كان الفارق الزمني بينهما شاسعاً عريضاً، فإن ما يجمعهما من وصف الحياة العربية، في وجهيها القديم والحديث، شديد القرب والشبه إلى حد بعيد: فقارئ الكتابين تستوقفه مشاهد قتل الأهل بعضهم بعضاً، بل وصور قتل فردية وجماعية، سواء أكان أرض المعركة في إحدى القبائل العربية القديمة ، أو أحد أحياء بيروت الغربية أو الشرقية، وقد كانت ساعات الصباح عندي لقراءة الشعر، في حين كنت أنصرف ليلاً إلى ما دونه ربيع جابر من تفاصيل دقيقة للحرب الأهلية اللبنانية في سنواتها الأولى،( إلى حدود سقوط مخيم “تل الزعتر” على يد القوات الانعزالية إذا أردنا الدقة). وفي الكتابين مشاهد مروعة عن سقوط قتلى ومراثي صرعى، وضياع أحباب وفقدان أقارب، مع اختلاف مراحل التاريخ.
ويؤكد ذلك، في الكتابين على اختلاف نوعهما، أن الكتابة هي بالفعل بلسم روحي يعين على تحمل ضغوطات الحياة تحت أي ظرف كان، وأن المبدع، مهما كانت أداته الإبداعية قادر على توثيق تفاصيل كل ذلك. إلى درجة برهن معها الروائي ربيع جابر، بشهادة الناقد الكبير فيصل دراج، في روايته الآنفة الذكر: أنه ( مؤرخ بين الروائيين وروائي بين المؤرخين)، أما صاحب المفضليات فقد وفق في مختاراته الشعرية إلى تقديم صورة الحياة العربية القبلية والسياسية القائمة منذ البدء على القتل، أو هو الواقع العربي القديم الذي لم يكن اللجوء فيه إليه، في الحق أم في الباطل، يترك للإنسان العربي أي هامش ليعيش أي لحظة من حياته إلى اليوم، يحفظ فيها للفرد أي قدر من كرامة، أكان داخل القطيع مستكيناً ضارعاً خاضعاً، أم مستقلاً في بعدٍ، عمّا ينتظر أن ينزله الزمان به فـ( الدهْرُ يَعقُبُ صالحاً بفساد) كما يقول أحد شعراء المفضليات.
جعل الله آخر هذا الحِجر خيراً، وحفظ شعبنا من كل شرٍّ مستطير.