من تاريخ الحركة العمالية المغربية من أجل التحرر
◆ عبد الغاني حيدان
في زمن كورونا، تخلد الطبقة العاملة في مختلف بقاع العالم عموما والطبقة العاملة المغربية على وجه الخصوص، عيدها الأممي يوم فاتح ماي 2020، في صيغته السياسية والفكرية بسياقات متعددة ومتشابكة على كافة المستويات، وفي معترك الصراع الطبقي بحجم فعله السياسي العالمي والإقليمي والوطني، ليؤكد فاتح ماي مرة أخرى، وأكثر من أي وقت مضى حجم الاستغلال الفاحش للطبقة العاملة، وتفشي مظاهره في الحياة الاجتماعية والثقافية، وانتفاع طبقات وفئات اجتماعية من الريع والأزمات والجوائح، على حساب الطبقة العاملة والشغيلة المغربية، هذه الطبقات والفئات الاستغلالية، هي وليدة الحضن الاستعماري، حيث كانت ولازالت حريصة أشد الحرص على احتكارهذا الانتفاع المريب، على حساب الجماهير الشعبية وقواها الحية، إنها طبيعة النظام الرأسمالي العالمي الذي تحول من سمته الوطنية إلى وحش كاسر عابر للقارات وإلى إمبراطورية امبريالية، إمبراطورية الشر الاستعمارية التي استهدفت مقدرات وخيرات الشعوب والبلدان ذات السيادة والبلدان الفقيرة في مختلف بقاع العالم. والطبقة العاملة المغربية باعتبارها جزء لا يتجزأ من الطبقة العاملة العالمية كفاحيا وسياسيا وطبقيا، هي متساوية في الاستغلال وفي إنتاج فائض القيمة، بحكم موقعها من عملية الصراع مع النظام الرأسمالي، والأكيد أن تطور المراحل السياسية والنضالية للطبقة العاملة المغربية والشغيلة، ارتبط أشد الارتباط بتطور نمط الإنتاج الرأسمالي، الذي تحكم في مفاصل أنمطة الإنتاج ما قبل الرأسمالية ببلدنا، وتحول إلى نمط إنتاج كولونيالي، ثم نيوكولونيالي، والثابت أن هذه الإعاقة البنيوية لم تكن معزولة عن شروطها التاريخية الاقتصادية والأيديولوجية والسياسية، لتشكل وتكون نمط الإنتاج الكولونيالي.
إن تحديد الرؤية الموضوعية والدقيقة لتطور البنى الاجتماعية والاقتصادية ودور حركاتها السياسية والثقافية والنقابية فيها، تتأسس على منظور سياسي طبقي يتطلب فرزا موضوعيا للعوامل الرئيسية الفاعلة في المجتمع، حيث هناك دعاوى تنظيرية تفند دور الطبقة العاملة السياسي، في كونها طبقة رئيسية في عملية الصراع السياسي العام، بدعوى عدم جاهزيتها طبقيا في مواجهة الاستغلال، مادام عدد من أفرادها مرتبطين بالملكية الخاصة، أي لم تصل بعد إلى طبقة بروليتارية، والتي لا تملك إلا أغلالها. والواقع أن هذا المحتوى التنظيري تبسيطي وسطحي، ولا يستند إلى رؤية علمية دقيقة منهجيا ونظريا، بل إن الطبقة العاملة المغربية ارتبطت بتطور بنية النظام الرأسمالي اقتصاديا وسياسيا وبالعلاقات الرأسمالية، في شكل الملكية الخاصة والتشابكات الإقطاعية وشبه الإقطاعية، كما اصطلح عليها الشهيد عمر بنجلون بالهياكل الإقطاعية، وبتطور علاقات الإنتاج الرأسمالية، أي التحول من مستوى الرأسمال الثابت إلى مستوى الرأسمال المتحول، ببناء المصانع والأوراش والمناجم، والزراعات العصرية، وتأسيس الشركة العامة للمغرب 1902 المكلفة ببناء الموانئ وتصدير الحبوب والمواشي، واستيراد السكر والشاي والأقمشة والشمع، شركة الفوسفاط الممتاز1920، قطاع البناء 1920، الشركة المغربية لتوزيع الماء والغاز 1914، الشركة المغربية للشحن والإفراغ 1916، السكك الحديدية والطاقة الكهربائية 1923، شركة المنشآت الميكانيكية 1923، واستغلال أراضي شاسعة لفائدة المعمرين تحت حماية المستعمر، هذه الشبكة من العلاقات الرأسمالية انعكست سياساتها الاقتصادية والمالية على الأوضاع الداخلية، وشكلت قاعدة استقطابات إيديولوجية لعدد من الفئات والشرائح الاجتماعية، لتصطف ضمن تشكيلات الكمبرادور والأوليغارشية المالية، ودورها كان بتسهيل مهمة تدوير الرأسمال الكولونيالي في محاولة لقطع صرة بناء الرأسمال الوطني بأفق اقتصادي وطني، وهذه أولوية من أوليات السياسة الاستعمارية في بلدنا وبلدان العالم الثالث،عبر عنها الشهيد المهدي بنبركة بظاهرة الاستعمار الجديد، الذي خرج من الباب ودخل من النافذة.
الطبقة العاملة المغربية والشغيلة وتطور التناقضات الوطنية
لم يفض تحقق الاستقلال الوطني وتدعيم ركائز السيادة الوطنية إلى القطع مع التدخلات الاستعمارية وتأثيرها على محور الصراع الداخلي بين قوى حركة التحرر الوطني المغربية والطبقة الحاكمة والأحزاب المساندة لها، بل تأكد أن هذا الصراع حول المشروع الوطني في حقل الصراع السياسي والاقتصادي والاجتماعي، لم يكن وليد حاجات موضوعية أملتها الضرورة الوطنية فقط، بل بالأساس بفعل تناقضات النظام الرأسمالي وسياساته وأدواره المهيمنة على مفاصل السياسة الوطنية والدولية والمستند على قانون التطور المتفاوت، فسياسات الطبقة الحاكمة انبنت على ازدواجية المعايير في الرؤية الوطنية لاستراتيجية المشروع الوطني في بناء اقتصاد وطني متكامل مستقل، والقادر على مواجهة التحديات الاستعمارية، بنهج سياسية وطنية مستقلة عن اختيارات إملاءات مراكز القرار السياسي للنظام الرأسمالي. فأضحت تدور بين قطبي الوطنية والتبعية في ظل تطور التناقضات الطبقية الداخلية، وقانون الاستقطاب الرأسمالي المعولم وتوسعه الذي أحدث تغيرات اقتصادية واجتماعية وسوسيوثقافية، مما جعل من الطبقة العاملة والشغيلة عموما قاعدة أساسية داخل البنية الاجتماعية المغربية، وطرفا رئيسيا في عملية الصراع الاقتصادي والسياسي، بل وأضحت الطبقة العاملة المغربية محورا أساسيا في سلسلة الاستغلال الرأسمالي في العهد الاستعماري ومابعده، لقد كتبت جريدة “المغرب الاشتراكي” بتاريخ 18 يونيو 1937 بقلم أكوسنيس براديي: “أصبح البروليتاريون المغاربة واعون بكرامتهم ولم يعودوا يقبلون أن يعاملوا مثل الأقنان أو الدواب”. وعلى إثر الإضراب البطولي الذي خاضه العمال بمسؤولية وثبات يوم 18 يونيو 1937، كتبت الفيدرالية الاشتراكية للمغرب بتاريخ 29 يونيو 1937 مقالا بعنوان: “دروس النضال الإضراب” ما يلي: “بينت الجماهير المغربية باندفاعها القوي في النضال، أن البروليتاريا والصراع الطبقي موجودان في المغرب كما في باقي الدول.”
وعن إضرابات خريبكة وفاس في نفس السنة، نشرت جريدة “كلارتي” مقالا تشيد فيه بالدور البطولي والحازم للعمال المغاربة هذا نصه : “بإبطالها للكليشيهات القديمة لرجال الإدارة المنهكين، بينت البروليتاريا المغربية، بأنها كسبت أخيرا الوعي الطبقي الذي يجعلها بلا هوادة في صفوف البروليتاريين الأوروبيين للدفاع عن حقها في الشغل وفي القوت اليومي”. وساهم توسع بنيات الاقتصاد الرأسمالي بالمغرب، من مد لشبكات الطرقات والسدود والسكك والموانئ، كميناء الدار البيضاء وخط السكك المنجمي وجدة بوعرفة لنقل الفحم والمنغنيز، وبناء المدن وإحداث مصانع أخرى كمعامل المصبرات والزيوت والصابون والجير، في انخراط الطبقة العاملة والشغيلة وانتظامها في إطارات نقابية وجمعوية وحزبية كشكل من أشكال صراعها الاقتصادي والسياسي ضد المستعمر، وكواجهة للنضال الوطني من أجل التحرر والاستقلال، في ارتباط وثيق مع كتلة العمل الوطني، ولقد كان لثورة أكتوبر الاشتراكية سنة 1917 دور أساسي في إلهاب حماس الحركة العمالية المغربية، بمظاهرات صاخبة مؤيدة لانتصار الحركة العمالية بروسيا، وفي سنة 1919 اتحدت وداديات شغيلة الكتاب بالبيضاء، وفي نفس السنة تأسس “تجمع عمال ومستخدمي الشحن والإفراغ المغربي”، وفي 25 ماي 1920 انضمت نقابات المعلمين والفيدرالية الوطنية للموظفين إلى الكونفدرالية العامة للشغل،كما تأسست جمعية المهندسين والمساعدين في الأشغال العمومية سنة 1921، وفي سنة 1924 تأسست اتحادات الشغيلة بالدار البيضاء والرباط والقنيطرة ومكناس، وتأسيس :اتحاد نقابات المغرب” للكنفدرالية العامة للشغل سنة 1930.. وعلى مستوى النضال السياسي للأحزاب التقدمية التي انخرط فيها عدد من العمال والمثقفين المغاربة، كان الحزب الاشتراكي، الفرع الفرنسي للأممية العمالية والتي تأسست فروعه في البيضاء وأسفي ومراكش ووجدة وفاس سنة 1925، تهيأ الندوات والمحاضرات بمناسبة كل فاتح ماي، وتنظيميا كانت الأطر الحزبية تشتغل على تأطير الشباب العامل والطلبة بالفكر والقيم الاشتراكية، كما تأسست بالموازاة فروع رابطة حقوق الإنسان. ولقد لعبت دينامية النشاط التجاري والصناعي دورا أساسيا في خلخلة البنى التقليدية للمجتمع المغربي، ومحاولة إفراغ المستعمر للأرياف والقرى من نشاطها الزراعي المعيشي، إضافة لضعف المحاصيل وعوامل الفقر والخصاص المهول في الإنتاج الزراعي والفلاحي، وتفويت الضيعات الكبيرة للمعمرين، مما جعل سكانها من شباب وأسر وعائلات تضطر إلى النزوح للمدينة طلبا للعيش وإيجاد فرص العمل، وشكل جل هؤلاء النازحين القاعدة العمالية النشيطة في القطاع الصناعي وقطاع الفوسفاط والسكك الحديدية والبناء والإسمنت والمصبرات والميناء وقطاع الصيد البحري والضيعات الكبيرة وغيرها، هذا التطور الكمي، كان له الأثر السياسي والاجتماعي في تطوير بنية الطبقة العاملة المغربية وتحللها تدريجيا من ارتباطها بالملكية الخاصة، وفي تسريع وتيرة الانصهار الطبقي كقوة وحركة قبيل الاستقلال وفي الفترات اللاحقة، فاكتسب نضال العمالة المغربية خاصيات النضال السياسي في ارتباطه بالنضال الاقتصادي المطلبي والديمقراطي، وهذه كانت من مميزات الحركة الوطنية في علاقتها بالطبقة العاملة والشغيلة عموما.
الحركة النقابية للطبقة العاملة المغربية والشغيلة.. الجدلية التحررية للنضال الوطني و السياسي والمطلبي
لقد انخرطت الطبقة العاملة المغربية وحركاتها النقابية في نضالها السياسي والمطلبي بروح كفاحية وبحزم ومسؤولية، وسلسلة إضراباتها الناجحة أكسبتها الثقة الجماهيرية، مع الأخذ بعين الاعتبار تعقيدات المرحلة الحاصلة بين مضمون وشكل الصيرورة النضالية، وما تخللتها من أزمات اقتصادية وسياسية ومن قمع ووحشية ومن تمييز وعنصرية للاستعمار الفرنسي، حيث شكلت الطبقة العاملة المغربية الأساس المادي والبشري لتطور العمل النقابي بتوازي مع العمل السياسي للحركة الوطنية، تجسد هذا الربط الجدلي في جملة مطالب الإصلاحات السياسية والاجتماعية والإدارية والنقابية والثقافية، حيث تقدمت بها كتلة العمل الوطني سنة 1934 إلى سلطات الاحتلال من ضمنها: قانون تحديد ثماني ساعات للعمل وتطبيق الحد الأدنى للأجور، والمساواة في الأجور بين كافة العاملين ألمغاربة مع نظرائهم الأجانب، التعويض عن حوادث الشغل، والعمل على محاربة البطالة ،وتوسيع نطاق سلطات محكمة الشغل، واحترام القوانين الجاري بها العمل فيما يخص عمل النساء والأطفال، والترخيص بإنشاء نقابات خاصة بالعمال والشغيلة المغربية للدفاع عن مصالحهم، وغيرها من المطالب السياسية والنقابية والإدارية، وكانت أغلب بلاغات كتلة العمل الوطني تنشر في جريدة “المغرب الاشتراكي”، وكان لتصاعد حركة الإضرابات حول عدد من المطالب النقابية الاقتصادية والاجتماعية والسياسية أثرها البالغ على مستوى الصراع بين الحركة العمالية وسلطات الاحتلال، كإضرابات عمال الفوسفاط والسكر والصباغة والبناء والنقل وعمال النظافة بالبيضاء ومستخدمي الحافلات والمياومين المكلفين بإفراغ عربات القطار بفاس وغيرها من المدن، من أجل تحقيق الحد الأدنى للأجور والاعتراف بالحق النقابي.
الحركة العمالية المغربية وضرورة إنجاز مهام التحرر الوطني والتحرر الأممي
لقد استطاعت الحركة العمالية والحركات الاشتراكية أن تنجز أحد أهم المهام التاريخية وذلك بتأسيسها الأممية الأولى في سنة 1864، حيث استطاعت بوعيها الإنساني الخلاق أن تبلور الوعي الأممي المتقدم لمصلحة الإنسانية جمعاء، لكن ظروف الهيمنة الرأسمالية وتحولها من نظام رأسمالي إلى نظام امبريالي، مكنها من تحقيق شروط السيطرة الاستعمارية عسكريا واقتصاديا ومن إضعاف البلدان والشعوب، وذلك بإشعال فتيل النزاعات المذهبية والعرقية والطائفية، وهو ما أثر على المضمون الكفاحي والسياسي للحركة العمالية في عدد من البلدان. وفي سياق إنضاج شروط الوعي الطبقي والسياسي للحركة العمالية، أسس لينين لنظريته عن مفهوم الإرادة النضالية في تعميم سلاح الوعي الوطني الطبقي والسياسي في الساحة الوطنية ،وتعميم سلاح الوعي الأممي عالميا لمجابهة الرأسمالية المتوحشة.