كورونا كاشف وباء الرأسمال
◆ محمد شخمان
شرح لنا اللغويون أن كورونا تعني التاج و أظهر المخبريون أن الفيروس في شكله يشبه التاج، و لذلك سمي بكرونا، هذه التسمية في زمن العولمة تعني الشيء الكثير، فهذا الملك الجديد، الحاكم بأمره و العابر للقارات أقسم أن يضع سادة العالم عاريين أمام المرآة، و أقسم أن يكشف سوءاتهم و يقدم لهم الدروس، و يكشف لهم تقريرا مفصلا عن العالم، اقتصاده و اجتماعه وأنظمته وصحته النفسية والبيئية أدوار الأفراد و الجماعات في بنائه أو هدمه من الممرض حتى مدير بورصة نيويورك.
لقد طال انتظار عودة المسيح والمهدي المنتظر، فغضبت الطبيعة وجاءتنا بكورونا لتلقننا الدروس لعلنا نتعظ..
الإمبريالية الأمريكية أنفقت 500 مليار دولار على الحروب في العشرين سنة الأخيرة، و أنفقت من جيوب خدامها أكثر من ذلك، و لها أكثر من 180 قاعدة عسكرية بالعالم، وتستطيع أن تتدخل في كل نقطة بهذا العالم، فهي تتقي فقط مخاطر المجال الترابي والجوي للدول النووية، وبقدر القوة العسكرية لأمريكا، بقدر نشاط اقتصادها العسكري الذي يزدهر بإشعال الحروب، وبرغم حبها لقيادة العالم، فإنها لم تكن على أهبة الاستعداد لقيادة حرب عالمية على وباء كورونا، بل و لم تستطع حتى محاصرته داخل ترابها، و بقدر ما كانت تتدخل عسكريا في كل بؤر التوتر بالعالم، لم نشاهد لها ولو تدخلا أو مساعدة طبية واحدة بأحد البلدان من أصدقائها، والتي تعاني من الوباء، وأظهر نظامها الصحي عجزا خطيرا أمام الوباء، فبالرغم من إمكانياتها المادية الهائلة كشف المرض سياساتها الاقتصادية والاجتماعية المتوحشة، والتي لا تستهدف خدمة الإنسان بالدرجة الأولى، وإنما خدمة فئة من رجال الأعمال، فما يملكه “بيل كيتس” يوازي ما يملكه مئة و ستة ملايين أمريكي من الفقراء، تلك هي الإمبريالية التي خبرناها، وكشف التاج/كورونا عن وجهها البشع الذي يستطيع أن يتخلى عن كل المسنين بأمريكا والعالم كي يربح حفنة من عبدة المال العالميين.
كورونا سرع بقرارات كانت تطبخ على نار هادئة، وسيكون لها تأثيرها على التوازنات الدولية، فالصين خرجت من وصاية الدولار وستفقد بذلك أمريكا هيمنتها الاقتصادية، وستخسر خدمة الاقتصاد الروسي والهندي للاقتصادي الأمريكي.. كرونا وقع على صك نهاية الأحادية القطبية ليصبح العالم بأقطاب متعددة.. كرونا قدم خدمة لصالح التوازن البيئي وأوقف الملاحة الجوية، ودفع الكثير من مستعملي السيارات وملوثي البيئة للزوم بيوتهم، وأصبحت العواصم العالمية التي كانت أجواؤها ملبدة بالدخان تعرف صفاء وتوازنا بيئيا، لقد كشف الفيروس كم كان هذا الإنسان ظالما للطبيعة و كم كان معتديا و متوحشا وساعيا لإعدام الحياة على وجه الأرض.
كانت الرجعية العربية تستقوي على شعوبها وجيرانها و تعبث في الأرض فسادا، اعتمادا على البترودولار، لكنها اليوم تستدين لتملأ بطونها المنتفخة ببعض الغداء، فيروس كورونا كشف لهم أن الاقتصاديات الريعية بنيت قصورها على رمال متحركة، ومع أية هبت ريح عاتية، فلن تبقى و لن تذر من الإمارات الورقية إلا الذكرى.
أما هذا النظام المخزني الذي خبرناه والذي عرفناه محبا للتسلط والظلم والتمييز، وسبق له أن ملأ وجهه بماكياج من الديمقراطية المفتري عليها، حتى يوهمنا بمظهر أليف أمام ضغط الشارع المغربي والعالمي في زمن انتفاضات الشارع، غير أن هاته الدولة الأوتوقراطية أصبحت متضايقة من مساحيق ماكياجها، حيث بدأت تخلص منه مستغلة ظروف الحجر والوباء، وأظهرت وجهها القمعي، وزادت في جرعة الانتقام من الشرفاء والنشطاء الحقوقيين والسياسيين، بل ومن خبلها وصفاقتها تجرأت على التلويح بمشروع قانون 22.20 الذي أسميناه قانون تكميم الأفواه، والذي فاق في تسلطه قانون كل ما من شأنه الاستعماري السيئ الذكر.
شكرا كورونا لأنك كشفت أن أحزاب العار التابعة، لم يعد لها من مطلب سوى بأن يزوج سيدها فيلة لفيلته وبئس المصير.. كرونا أكد أيضا أن بمجتمعات العالم طبقات طليعية هي من تخدم البشر في زمن السلم، كما في زمن الحرب، في زمن التخمة كما في زمن الجوع، إنه ذاك الفلاح الذي يحرث الأرض ليزودنا بالغذاء ونحن في بيوتنا، ذاك العامل الذي يزودنا بضروريات الحياة، ذاك الذي يصنع الكمامة والدواء، ذاك الممرض الساهر على سلامة كل ذي علة، ذاك الطبيب الرافض لأن يموت الشيخ كما الشاب.
لقد أظهر كورونا أن كثيرا من رجال الدين أتفه من التفاهة باختلاف عقائدهم، وكل منهم يدعي أن ملته هي الناجية من قيامة كورونا، وهم في ادعاءاتهم تلك دجالون إلى يوم الدين.. فكورونا كغيره من الأوبئة إلى زوال، لكن الإنسان والكون باق إلى زمن آخر فأي الدروس يمكن استخلاصها بعد زمن الوباء؟
ـ أول الدروس أن الحفاظ على الطبيعة وعلى التوازن البيئي ممكن فقط ببعض الجهد البشري، وبوضع بدائل صديقة للبيئة كي تبادلنا الطبيعة عطاء بعطاء.
ـ ثاني درس أن الأولوية للأمن الغذائي، وأن الضرورة تستدعي الحد من توحش السوق العالمي، والنظر إلى الحاجات الأساسية التي تخدم سعادة الإنسان.
ـ ثالث درس أن الاستثمار في الدواء أفضل من الاستثمار في المرض، وأن أي تفكير في حرب بيولوجية، هو ليس إضرارا بالآخر فقط، بل إضرار أيضا بالذات، و من المخزي أن يكشف كورونا هشاشة الأنظمة الصحية لدول قوية، فرصد القليل من الإمكانيات المادية للسلم، أفضل من رصد الكثير منه للحرب.
فلنبني إذن نظاما عالميا جديدا يعتمد طبعا على العلم، لكن مبني بالأساس على القيم الإنسانية والأخلاق التي توجه العلم لخدمة السلم وللحفاظ على الصحة والأرواح، فلنبني اقتصادا في خدمة سعادة الإنسان.