إلى “مِّي العَالية”..

◆ مينة بوشكيوة

عندما‭ ‬التقيتها،‭ ‬لأول‭ ‬مرة‭ ‬ببيتي‭ ‬بالرباط،‭ ‬شهر‭ ‬أبريل‭ ‬2019،‭ ‬اكتشفت‭ ‬فيها‭ ‬الأم‭ ‬التي‭ ‬لم‭ ‬أكنها‭ ‬ولن‭ ‬أكونها‭ ‬يوما،‭ ‬لأني‭ ‬لم‭ ‬أنجب،‭ ‬مثلها،‭ ‬ابنا‭ ‬اسمه‭ ‬نبيل‭ ‬من‭ ‬زوج‭ ‬لقبه‭ ‬أحمجيق‭.. ‬

اليوم،‭ ‬كان‭ ‬سبتا،‭ ‬غائما‭ ‬وماطرا،‭ ‬سابقا‭ ‬لأحد‭ ‬المسيرة،‭ ‬عندما‭ ‬أخبرتني‭ ‬سارة،‭ ‬بأن‭ ‬العالية،‭ ‬أم‭ ‬نبيل،‭ ‬وأبناءها‭ ‬الثلاثة،‭ ‬سيأتون‭ ‬لقضاء‭ ‬الليلة‭ ‬عندنا،‭ ‬ليكونوا‭ ‬صباح‭ ‬الغد‭ ‬في‭ ‬مقدمة‭ ‬مسيرة‭ ‬التضامن‭ ‬مع‭ ‬المعتقلين‭.‬

‭ ‬سارة‭ ‬كانت‭ ‬شريكتي‭ ‬في‭ ‬السكن‭ ‬وشريكتي‭ ‬في‭ ‬النضال،‭ ‬لكن‭ ‬عمرها‭ ‬الغض،‭ ‬من‭ ‬عمر‭ ‬ابنتي،‭ ‬لازال‭ ‬به‭ ‬ورد‭ ‬كثير‭ ‬للقطف‭ ‬وعطور‭ ‬مبهجة‭ ‬تنتظر‭ ‬الاستنشاق‭.‬‭ ‬سارة‭ ‬أكثر‭ ‬مني‭ ‬تحديا‭ ‬وأملا‭ ‬وقدرة‭ ‬على‭ ‬استقبال‭ ‬الضربات‭ ‬كما‭ ‬استقبال‭ ‬القبل‭. ‬وعند‭  ‬استقبالنا‭ ‬لعائلة‭ “‬النبيل‭”‬،‭ ‬أحسست‭ ‬أنها‭ ‬فرصتي‭ ‬الأخيرة،‭ ‬لأسترجع‭ ‬بعضا‭ ‬من‭ ‬شجاعتي‭ ‬وإيماني‭ ‬بقدرتي‭ ‬على‭ ‬المطالبة‭ ‬بالتغيير‭ ‬والحلم‭ ‬بمغرب‭ ‬أرحم‭ ‬وأنبل‭ ‬وأعلى‭ ‬بين‭ ‬الأمم،‭ ‬تلك‭ ‬القدرة‭ ‬التي‭ ‬جفت‭ ‬بداخلي،‭ ‬كما‭ ‬يجف‭ ‬نهر‭ ‬الأمل‭ ‬بعد‭ ‬الاعتقال،‭  ‬شعرت‭ ‬أيضا‭ ‬بالخجل،‭ ‬وأنا‭ ‬أعرف،‭ ‬من‭ ‬حكي‭ ‬سارة‭ ‬ومن‭ ‬الأخبار‭ ‬ومن‭ ‬بعض‭ ‬الرفاق‭ ‬القلة‭ ‬جدا،‭ ‬أن‭ “‬العالية‭”‬‭ ‬تستحمل‭ ‬كل‭ ‬شيء،‭ ‬من‭ ‬أجل‭ ‬المطالبة‭ ‬بإطلاق‭ ‬سراح‭ ‬نبيل‭ ‬أحمجيق‭ ‬وكل‭ ‬رفاقه‭ ‬من‭ ‬شباب‭ ‬الريف‭ ‬المعتقلين‭ ‬في‭ ‬سجون‭ ‬النظام،‭ ‬بسبب‭ ‬كلمة‭ ‬حق‭ ‬ومطلب‭ ‬مشروع‭ ‬غير‭ ‬مبالغ‭ ‬فيه،‭ ‬كنت‭ ‬أرى،‭ ‬سابقا،‭ ‬وجه‭ ‬هذه‭ ‬المرأة‭ ‬كما‭ ‬أرى‭ ‬وجه‭ ‬أم‭ ‬ناصر‭ ‬وابنة‭ ‬جلول‭ ‬وزوجات‭ ‬وبنات‭ ‬وأخوات‭ ‬كل‭ ‬المعتقلين،‭ ‬على‭ ‬مواقع‭ ‬الأخبار‭ ‬وصفحات‭ ‬التضامن،‭ ‬أسمع‭ ‬أصواتهن‭ ‬المبحوحة،‭ ‬من‭ ‬شدة‭ ‬البكاء‭ ‬خفية‭ ‬والاحتجاج‭ ‬علنا،‭ ‬أمام‭ ‬المحاكم‭ ‬وبعد‭ ‬النطق‭ ‬بالأحكام‭ ‬وخلال‭ ‬المسيرات،‭ ‬نساء‭ ‬ريفيات،‭ ‬قدر‭ ‬لهن‭ ‬أن‭ ‬يقمن‭ ‬بكل‭ ‬شيء‭ ‬بالنيابة‭ ‬عن‭ ‬رجالهن‭ ‬المعتقلين،‭ ‬غير‭ ‬مباليات‭ ‬بمشقة‭ ‬الطريق،‭ ‬والمبيت‭ ‬خارج‭ ‬البيوت‭ ‬والبقاء‭ ‬بالجوع‭ ‬والبرد،‭ ‬رافضات‭ ‬للظلم‭ ‬ومواجهات‭ ‬لكذب‭ ‬وتسويف‭ ‬القضاء‭ ‬برؤوس‭ ‬مرفوعة،‭ ‬عارية‭ ‬من‭ ‬الخوف‭ ‬مهما‭ ‬غطتها‭ ‬المناديل‭. ‬

غمرني‭ ‬إحساس‭ ‬عارم‭ ‬بالفرح‭ ‬والمسؤولية‭ ‬اتجاه‭ ‬هذا‭ ‬الاستقبال،‭ ‬ألحت‭ ‬علي‭ ‬سارة،‭ ‬ألا‭ ‬أكلف‭ ‬نفسي،‭ ‬لكنني‭ ‬لم‭ ‬أسمع‭ ‬كلامها،‭ ‬وقمت‭ ‬بإعداد‭ ‬العشاء‭ ‬وكأني‭ ‬أستقبل‭ ‬أسرتي‭ ‬التي‭ ‬لم‭ ‬أرها‭ ‬ولم‭ ‬أحضنها‭ ‬منذ‭ ‬سنين،‭ ‬بل‭ ‬ولم‭ ‬أمتلك‭ ‬مثلها‭ ‬أبدا،‭ ‬كنت‭ ‬أدرك‭ ‬في‭ ‬أعماقي،‭ ‬أني‭ ‬أحاول‭ ‬أن‭ ‬أكفر‭ ‬عن‭ ‬تخاذلي‭ ‬وتراجعي‭ ‬ويأسي،‭ ‬لكن‭ ‬واجب‭ ‬الضيافة‭ ‬وإكرام‭ ‬عائلة‭ ‬لا‭ ‬تشبه‭ ‬عائلتي‭ ‬في‭ ‬شيء،‭ ‬زاد‭ ‬من‭ ‬روح‭ ‬الانتشاء‭ ‬وأنا‭ ‬أعد‭ ‬كل‭ ‬شيء‭ ‬وأفكر‭ ‬في‭ ‬ترتيبات‭ ‬المبيت‭. ‬

حضرت‭ “‬العالية‭” ‬امرأة‭ ‬ريفية‭ ‬خمسينية‭ ‬من‭ ‬جيلي،‭ ‬خطت‭ ‬الأحزان‭ ‬على‭ ‬وجهها‭ ‬البيضاوي،‭ ‬سطورا‭ ‬عميقة‭ ‬من‭ ‬تاريخ‭ ‬مقاومة‭ ‬طويل،‭ ‬يمتد‭ ‬من‭ ‬حرب‭ ‬الريف،‭ ‬مرورا‭ ‬بثورة‭ ‬1958،‭ ‬ووصولا‭ ‬إلى‭ ‬صرخة‭ “‬محسن‭ ‬فكري‭” ‬وهو‭ ‬يطحن‭ ‬في‭ ‬شاحنة‭ ‬الأزبال،‭ ‬وأما‭ ‬عيناها،‭ ‬فصفحة‭ ‬سماء‭ ‬لمدينة‭ ‬الحسيمة،‭ ‬تشع‭ ‬بنجوم‭ ‬تلمع‭ ‬رغم‭ ‬أنف‭ ‬الغيم‭ ‬الجاثم‭ ‬على‭ ‬صفاء‭ ‬النفوس،‭ ‬عينان‭ ‬صارمتان‭ ‬وذقن‭ ‬مدبب،‭ ‬يحملان‭ ‬كل‭ ‬معاني‭ ‬الشموخ‭ ‬والأنفة،‭ ‬شموخ‭ ‬يطل‭ ‬كشرارة‭ ‬حارقة‭ ‬من‭ ‬سيدة‭ ‬لا‭ ‬مكسورة‭ ‬ولا‭ ‬خانعة،‭ ‬واقفة‭ ‬بكل‭ ‬عنفوان‭ ‬المقاومين،‭ ‬كما‭ ‬وقف‭ ‬قبلها‭ ‬الأجداد‭ ‬الريفيون،‭ ‬في‭ ‬وجه‭ ‬الإسبان‭ ‬وبعدهم‭ ‬المستعمرون‭ ‬الجدد‭.. ‬

‭ ‬دخلت،‭ ‬أم‭ ‬نبيل،‭ ‬البيت،‭ ‬تعانقنا‭ ‬بحرارة،‭ ‬وكأننا‭ ‬جئنا‭ ‬من‭ ‬نفس‭ ‬الجذر‭ ‬العميق‭ ‬لهويتنا‭ ‬المغربية،‭ ‬الموسومة‭ ‬بالنضال‭ ‬والمقاومة‭ ‬اليومية،‭ ‬وفي‭ ‬أعماق‭ ‬أحضانها،‭ ‬استنشقت‭ ‬عطر‭ ‬جبال‭ ‬الريف‭ ‬الصامدة‭ ‬وروائح‭ ‬أشجار‭ ‬التنوب‭ ‬والأرز‭ ‬والصنوبر،‭ ‬عانقت‭ ‬قرابة‭ ‬ستة‭ ‬وخمسون‭ ‬ألفا‭ ‬من‭ ‬سكان‭ ‬الحسيمة‭ ‬الأحرار‭ ‬الثائرين،‭ ‬كان‭ ‬عناقا‭ ‬أزليا،‭ ‬لم‭ ‬يكن‭ ‬عاديا،‭ ‬تسلقتُ‭ ‬من‭ ‬خلاله‭ ‬امرأة‭ ‬في‭ ‬غاية‭ ‬القمة،‭ ‬تقاتلُ‭ ‬من‭ ‬أجل‭ ‬البقاء‭ ‬وحرية‭ ‬ابنها‭ ‬ورفاقه،‭ ‬وكأنني‭ ‬أتسلقُ‭ ‬قمة‭ ‬جبل‭ ‬تدغين‭ ‬الوعرة‭. ‬

كيف‭ ‬تستطيع‭ ‬امرأة،‭ ‬ترملت‭ ‬منذ‭ ‬سن‭ ‬صغيرة،‭ ‬رحل‭ ‬زوجها‭ ‬باكرا‭ ‬تاركا‭ ‬خمسة‭ ‬أطفال‭ ‬في‭ ‬عنقها‭ ‬والسادس‭ ‬في‭ ‬رحمها،‭ ‬أن‭ ‬تواجه‭ ‬كل‭ ‬مشاق‭ ‬تربيتهم‭ ‬وتدريسهم‭ ‬وتكوينهم‭ ‬أحسن‭ ‬تكوين،‭ ‬ثم‭ ‬تعليمهم‭ ‬أبجديات‭ ‬الحرية‭ ‬والكرامة،‭ ‬مع‭ ‬تعلم‭ ‬الكلام‭ ‬والمشي‭ ‬والحروف،‭ ‬كيف‭ ‬يمكن‭ ‬لأم‭ ‬ريفية‭ ‬وحيدة‭ ‬أن‭ ‬تنجب‭ ‬كل‭ ‬هذه‭ ‬الأقمار‭ ‬التي‭ ‬تملأ‭ ‬سماء‭ ‬حياتها،‭ ‬في‭ ‬منطقة‭ ‬الريف،‭ ‬حيث‭ ‬لاشيء‭ ‬يحدث‭ ‬هناك،‭ ‬سوى‭ ‬توالي‭ ‬الخسائر‭ ‬وأسباب‭ ‬العقاب‭ ‬ورواسب‭ ‬النقمة‭ ‬والحقد‭ ‬من‭ ‬نظام‭ ‬الحكم،‭ ‬همش‭ ‬شعبه‭ ‬وتناساه،‭ ‬ومع‭ ‬ذلك،‭ ‬نجحت‭ ‬العالية،‭ ‬في‭ ‬أن‭ ‬تعلو‭ ‬بأبنائها‭ ‬نحو‭ ‬أعلى‭ ‬درجات‭ ‬الوعي‭ ‬بمعنى‭ ‬الوجود،‭ ‬فنشأوا‭ ‬أحرارا‭ ‬مقاتلين،‭ ‬لا‭ ‬يختلفون‭ ‬في‭ ‬شيء،‭ ‬عن‭ ‬كل‭ ‬ساكنة‭ ‬الريف،‭ ‬أولئك‭ ‬الذين‭ ‬عرفوا‭ ‬قدرا‭ ‬ومصيرا‭ ‬واحدا‭ ‬ووحيدا‭ ‬هو‭ ‬المقاومة‭. ‬

طيلة‭ ‬الأمسية،‭ ‬تأملت‭ ‬كثيرا‭ ‬في‭ ‬شرط‭ ‬وجودي‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬وجود‭ ‬العالية،‭ ‬رأيتها‭ ‬بطلة،‭ ‬ملكة،‭ ‬نجمة،‭ ‬ساحرة‭ ‬وقاهرة،‭ ‬رأيت‭ ‬فيها‭ ‬كل‭ ‬ما‭ ‬ينقصني،‭ ‬كنت‭ ‬أستمع‭ ‬لها‭ ‬ونحن‭ ‬في‭ ‬خضم‭ ‬الكلام‭ ‬بأذن‭ ‬أخرى،‭ ‬أذن‭ ‬تسمع‭ ‬عزف‭ ‬الرياح‭ ‬الريفية‭ ‬العصية‭ ‬على‭ ‬الحواجز،‭ ‬تسمع‭ ‬كل‭ ‬الشعارات‭ ‬القوية‭ ‬والكلمات‭ ‬الصارخة‭ ‬بعبارات‭ ‬الحق‭ ‬والعدالة‭ ‬والإنصاف‭ ‬والكرامة،‭ ‬قلبي،‭ ‬كان‭ ‬يخفق‭ ‬كلما‭ ‬نطقت‭ ‬تلك‭ ‬التسمية‭ ‬العذبة‭ ‬في‭ ‬فمها‭ “‬نبيل‭ ‬ديالي‭” ‬وتمنيته‭ ‬ابنا‭ ‬لي‭ ‬أو‭ ‬شبيها‭ ‬له،‭ ‬كنت‭ ‬أسمع‭ ‬كل‭ ‬صراخ‭ ‬المحتجين‭ ‬وشعاراتهم‭ ‬المجلجلة‭ ‬في‭ ‬ليالي‭ ‬الحسيمة،‭ ‬القادمة‭ ‬من‭ ‬حناجر‭ ‬بنات‭ ‬الريف‭ ‬وأبناءه،‭ ‬وهم‭ ‬يواجهون‭ ‬صلافة‭ ‬وعنف‭ ‬قوات‭ ‬القمع‭ ‬وهراوات‭ ‬البوليس،‭ ‬سمعت‭ ‬كل‭ ‬شيء،‭ ‬وعزيت‭ ‬نفسي‭ ‬عن‭ ‬خيبتي‭ ‬بعدم‭ ‬انتمائي‭ ‬لهذا‭ ‬الريف‭ ‬الصامد،‭ ‬وإن‭ ‬كان‭ ‬معنى‭ ‬الانتماء‭ ‬نسبيا،‭  ‬فشعب‭ ‬المغرب،‭ ‬بأكمله،‭ ‬هو‭ ‬شعب‭ ‬على‭ ‬الحافة،‭ ‬أوليس‭ ‬معنى‭ ‬الريف‭ ‬في‭ ‬الأمازيغية‭ ‬هو‭ ‬الحافة؟

ظل‭ ‬حديثنا‭ ‬مسترسلا‭ ‬تلك‭ ‬الليلة،‭ ‬بين‭ ‬الشاي‭ ‬والعشاء‭ ‬وحديث‭ ‬العالية‭ ‬ومحمد‭ ‬وأخويه‭ ‬وسارة،‭ ‬وعلى‭ ‬المائدة،‭ ‬وضعت‭ ‬أم‭ ‬نبيل‭ ‬كل‭ ‬أدويتها‭ ‬ضد‭ ‬الضغط‭ ‬والسكري‭ ‬وأمراض‭ ‬أخرى،‭ ‬لا‭ ‬يسببها‭ ‬سوى‭ ‬وطن‭ ‬يسجن‭ ‬النبلاء‭ ‬من‭ ‬أبناءه‭ ‬لأنهم‭ ‬يحبونه‭ ‬ويحبون‭ ‬أن‭ ‬يروه‭ ‬عاليا‭.‬

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى