إصلاح التعليم العالي بين الضرورة والارتجال
◆ محمد حمزة
كان اللجوء للتعليم عن بعد كممارسة استثنائية وبدون تصور ولا برنامج يجيب عن الفوارق المجالية والاجتماعية، وفي غياب شرط توفر كل طالب أو طالبة على الحاسوب والانترنيت بصبيب كاف. فمن الأعطاب الأولية للتعليم عن بعد غياب الدعم الاجتماعي للطلبة لمواكبة هذا النوع من التعليم من جهة، وكذا عدم تعميم الكهرباء والأنترنيت في القرى والبوادي المغربية، مما عرى عن حجم الهوة بين المنحدرات الطبقية للطلبة.
إن رفع تحديات كورونا وتحديات الثورة المعرفية والتكنولوجية وتحديات العولمة، يحتاج إلى جامعة وطنية حيوية ومنتجة، وإلى وسط جامعي يلعب كل أدواره الأكاديمية بدقة وصرامة، ليقود من جهة إلى انخراط البلاد في الثورة المعرفية الكونية، وليمارس من جهة ثانية وظيفته النبيلة كضمير نقدي للأمة، ولا ريب في أننا أمام مشهد للتعليم العالي يعكس أزمة بنيوية عميقة على المستويات الهيكلية والمؤسساتية والعلمية والبيداغوجية، تتطلب تحديد المشروع المجتمعي البنيوي والديمقراطي.
لقد مرت 61 سنة على إنشاء أول جامعة وطنية، ولازلنا نعيش تعليما جامعيا سلطويا ومبلقنا (موزعا على 18 وزارة) واستقلاليته شكلية، وبدون فعالية وفي غياب حكامة ديمقراطية وتدبير استراتيجي، وتغييب تفعيل مبدأ المسؤولية والمحاسبة. كما أن وصاية وزارة المالية تساهم في ترسيخ تدبير مالي بيروقراطي يعيق الاجتهاد والابتكار وذلك بسن المراقبة القبلية الغير منتجة.
فالهدر الجامعي في ارتفاع، إذ أن أكثر من ربع الطلبة يغادرون في السنة الأولى، وأقل من ثلث الطلبة يحصلون على الإجازة. كما أن ضعف البنية التحتية (مدرجات، قاعات، الأشغال التطبيقية، المكتبات،…) أنتج اكتظاظا غير مسبوق أصبح عائقا أمام جودة التعليم العالي، مما أدى إلى قرارات ارتجالية بتقليص ساعات الدروس والأشغال التطبيقية والتوجيهية، وزيادة على مشاكل الاكتظاظ، هناك أيضا عجز في التمكن اللغوي وفي التكنولوجيا الحديثة للتدريس وضعف وسائل الاتصال والإعلام والرقمنة.
فإذا كان الاكتظاظ نتيجة لضعف بنية الاستقبال في الجامعة الوطنية، فإن عدد الطلبة في التعليم العالي، والذي لا يتجاوز 900 ألف طالب وطالبة، يبقى جد ضعيف مقارنة مع عدد الطلبة في الجزائر مليون و 700 ألف طالب. و نسجل أن نسبة الطلبة في سلك الماستر لا تتعدى 5 في المائة، وعدد أقل يلج سلك الدكتوراه وأغلبهم يغادر بدون الحصول على الدكتوراه، نظرا لأوضاعهم الاجتماعية المزرية.
وللتذكير فجغرافيتنا الجامعية تندرج في إطار تصور فرنسي لحقول معرفية لما قبل سنة 1968. وقد تغير التصور الفرنسي للمعرفة وحقولها عدة مرات ولم يتغير التصور المغربي للحقول. لذلك طبقنا (إجازة – ماستر – دكتوراه) بصيغ متعددة، تختلف من مؤسسة جامعية لأخرى داخل نفس الجامعة، أما بين الكليات فحدث ولا حرج.
إن تاريخ إصلاحات التعليم العالي هو تاريخ الإخفاقات أو تاريخ الفرص الضائعة، حسب تعبير المناضل الأستاذ سي محمد بنسعيد. فرغم تعاقب الإصلاحات فلازال الفضاء الجامعي خاضعا لترتيبات عميقة تهدف إلى تصفية الجامعة العمومية. فالتعليم العالي العمومي لا زال ينظر إليه من وجهة نظر مالية صرفة، والبحث العلمي لا زال مجرد نشاط هامشي ومعزول عن استراتيجيات التنمية، والكليات ذات الولوج المفتوح أصبحت فضاءات لحشر أبناء وبنات الأسر ذات الدخل المحدود، في حين أضحى الأساتذة الباحثون بالجامعة المغربية، بحكم النظرة الرسمية، مجرد مستخدمين يثقلون كاهل ميزانية الدولة.
غياب المشروع المجتمعي والنظرة الشمولية أنتج إصلاحات تقنية وتقنوية للتعليم العالي، تحمل في أحشائها شروط الفشل. فالتقنوقراطية المغربية التي تتعامل بالنظرة القصيرة المدى وبتوصيات من المؤسسات المالية، همشت قوى المجتمع. فالطالب(ة) والأستاذ(ة) والنقابة الوطنية للتعليم العالي، كانوا الأكثر تهميشا في جميع المحطات التاريخية للإصلاح.
فإذا كان ظهير 25 فبراير 1975 المتعلق بالجامعة، أول إطار قانوني للتعليم العالي حدد اختيار المغرب الأخذ بالنموذج الفرنسي الذي جعل من الجامعة وحدة أساسية، وباستقلالية شكلية للجامعات على المستوى الإداري أو المالي أو العلمي أو البيداغوجي، فانه لم يولي اهتماما كبيرا لمصادر التمويل، ومع تزايد عدد الطلبة زادت نفقات التعليم العالي والتي ستعمل الدولة على تقليصها انسجاما مع إجراءات سياسة التقويم الهيكلي.
وبعد القولة الشهيرة للملك الحسن الثاني : “السكتة القلبية”، والاستجابة التبعية لتقرير البنك الدولي لسنة 1995، الذي كان هدفه الحد من ولوج بنات وأبناء المغاربة للتعليم العالي، تقليصا للنفقات وخدمة للمديونية الخارجية، أتت حكومة ما سمي بالتناوب التوافقي، وما تلاها من سياسات الخوصصة، وسيتم لأول مرة تسطير “مساهمة الأسر” وإلغاء المجانية في أوراق الميثاق الوطني للتربية والتكوين. وجاء القانون 01-00 المنظم للتعليم العالي الذي ناهضته هيئة التدريس والبحث و النقابة الوطنية للتعليم العالي. وطبق الإصلاح البيداغوجي نظام (LMD) إجازة – ماستر – دكتوراه، بدون نقاش، وسنة قبل تطبيقه في فرنسا، وبدون إمكانيات مادية وتربوية )المناصب المالية، التجهيزات، ميزانيات التسيير، البحث العلمي….(؛ النتيجة كما كان متوقعا بعد سنوات من التجريب، أن ما تغير هو فقط نظام الامتحانات وتمديد شكلي للسنة الجامعية. وبما أن مضامين البرامج لم تساءَل، وبما أن شروط التكوين لم تتحسن بل بالعكس تدهورت، وبما أن بنيات البحث العلمي لم تتعزز، وبما أن الهياكل المؤسساتية لم تتدمقرط بالرغم من شكلية اللجان الانتقائية لرؤساء الجامعات، فان الواقع الجامعي أضحى غرسا يغالب الموت.
بعد فشل “الإصلاح”، وبدل طرح المنظومة للنقاش العمومي تم ترجيح السياسة التقنوقراطية التي أنتجت برنامجا استعجاليا غاب عنه الانسجام والرؤية الإستراتيجية، وفرض إجراءات لا علاقة لها بالواقع. النتيجة كانت هدر المال العام وتهيئ الرأي العام لقبول جامعات وطنية وأجنبية مؤدى عنها. بعد ذلك، جاء البرنامج الحكومي 2013-2016 المفتتن بالنموذج النيوليبرالي، وأصبحت الخوصصة اختيارا استراتيجيا في قطاع التعليم وتغيير الفضاء الجامعي إلى جامعات خمسة نجوم لأبناء الطبقات الغنية، وجامعات ذات الولوج المفتوح آيلة للسقوط لبنات وأبناء أصحاب الدخل المحدود. إن سياسة استنبات الجامعات الخاصة الأجنبية و التكوينات المؤدى عنها تحت غطاء ما يسمى بـ “الشراكة غير المربحة” كبديل للجامعة العمومية هو مس بالتماسك المجتمعي وتهديد للشعور بالانتماء الوطني وضرب للسيادة الوطنية وخطر يهدد الجامعة الوطنية العمومية و تمييز طبقي و جامعي فاضح.
بالنسبة للإصلاح الجديد الذي تبناه اللقاء الوطني للإصلاح المنعقد بمراكش 2 و 3 أكتوبر 2018، فهو إصلاح أحادي وتجزيئي لا يختلف عن الإصلاحات التقنية السابقة. يطبعه التسرع والارتجالية والإشراك يبقى مجازيا؛ وبدون تقييم شامل وشمولي، ويقف عند إصلاح الإجازة. الإصلاح استبطن الخطاب الاقتصادوي للتعليم، ورفع شعار ملائمة التعليم مع سوق الشغل، وكأن الجامعة مهمتها الأساسية هي الإعداد لسوق الشغل فقط، في غياب لإستراتيجية تشغيل كاملة ومتكاملة، وسرعة تغير احتياجات سوق العمل، ونقص في البيانات المتوافرة من قبل السوق، وانعكاس ذلك على استجابة مؤسسات التعليم لاحتياجاته، و ترميم الأعطاب اللغوية في غياب توفير كتلة مهمة من الإمكانات المادية والبشرية من طرف الحكومة، وفي غياب تقييم شامل للتغيير الذي وقع في ميدان التعليم في الثمانينات والذي سمي تعريبا.
هناك إذن حاجة لنقاش عمومي ولتعاقد وطني حول المدرسة والجامعة العموميتين، ولإصلاح للتعليم العالي يعتمد الشمولية، أي ربط الشكل بالمضمون على الصعيد التربوي، والهدف بالوسائل على صعيد التكوين، والدمقرطة والفعالية على صعيد البنيات، وربط التكوين بالبحث العلمي والرفع من ميزانيته، وإلغاء الضريبة على البحث العلمي، واعتماد العدالة المجالية في توزيع الجامعات على التراب الوطني، بحيث تتوفر جميع الجامعات على جميع التخصصات.
وفي الأخير، فهناك أيضا حاجة ملحة لقانون أساسي يكرم هيئة البحث والتدريس ويحقق الجودة ويحسن الوضعية الاجتماعية للطلبة ويضمن المجانية، بحيث يكون التعليم العالي محفزا بمكافأة الامتياز والإنتاج العلميين وجذابا للطاقات الهائلة للحد من هجرة الأدمغة، ويعيد الاعتبار لدور الجامعة كمحرك للتنمية وفضاء للتكوين والتأطير والتشبع بقيم المواطنة والديمقراطية، ومشتلا حيويا لإنتاج فائض القيمة العلمية والمعرفية و الصناعية، والتأكيد على الخدمة العمومية للتعليم العالي من أجل التنمية و التأهيل الشامل.
لهذا فبداية البدايات هي ثورة معرفية تمكن الجامعة الوطنية من أن تندرج إيجابا في المستويات الحالية للمعرفة الإنسانية. إذن الأسبقية هي لإصلاح المضامين قبل إصلاح الآليات التقنية للتأطير والتكوين. فنجاح الإصلاح في حاجة إلى ثورة معرفية، ولا ثورة معرفية بدون ثورة في المضامين وبدون مساءلة الحقول المعرفية التي تجسد المضمون أي مضمون المعرفة، لذلك فشلت الإصلاحات السابقة لأنها تقنية محضة، وكل ما تفرع عنها في شكل توجهات “بيداغوجية” غريبة عن الحقول المعرفية التقليدية،
ولا بد من استحضار التوافق الوطني المنتج، والتصور الوطني الحديث المتمركز على الإنسان وعلى سيادة العلم والمعرفة.