درس الفلسفة ومعركة التنوير
◆ ذ. رشيد العلوي
من خلال الوضع العام للمدرسة المغربية، والذي يمكن اعتباره وضعاً مأزوماً بشكل بنيوي، يمكن أن نطرح السؤال التالي: هل يمكن للدّرس الفلسفي بالمغرب أن يكون فضاءً لنمو فكر الحداثة؟ هل يمكن لهذا الدرس أن يؤدي وظيفته النقديَّة والتنويرية اتجاه المجتمع والدولة معاً؟
مَرّ على استقلال المغرب أزيد من ستة عقود ونيف، ومرّ على سيّاسة المًغرَبَة والتعرِيب والتوحِيد ما يزيد عن أربعة عقود، ولا يزال الدّرس الفلسفي يُراوِح المكان إن لم نقُل بوجيز العِبارة أن واقِعه اليوم يستدعِي أكثر من تأمُّل. ما الذي يمنع من أن يكون الدّرس الفلسفي درساً في الحداثة والديمقراطيّة، درساً في العَقلنة والنَّقد البَنَّاء اتجاه كل ما هو ثابِت ومُطلق، درساً يُسائِل الأخلاق والقيّم والدّين والتقاليد والأعراف البَائِدة، درساً ضِد المُحافظة والفِكر الخُرافِي المُتغَلغِل والمُتعَشِّش في العُقول، والتَصرُفات والسُّلوكَات المُنافيَّة لثقافة حقوق الانسان؟
كان مُبرِّر الهُجوم على الدّرس الفلسفي في المغرب هو انتِشار الماركسيّة وازدهار التيارات اليسارية الرَّادِيكاليّة في السبعِينيات من القرن الماضي، وتمَّ الإجهازُ على تدرِيس هذه المادة وإقحام الفِكر الإسلامي وقضاياه محلّ القضايا المعيشة والمرتبطة باليومي وبالحالة الرّاهنة للعالم. وبعد تطور الفكر السلفَي المتزمت وإحكام قبضته على عقول الشباب بعد أربعة عقود ضد الحداثة والعقلانية والفكر النَّقدي، صار اللُّجوء إلى الفلسفة أمراً لا مفر مِنه. أليس هناك خيارُ آخر بين المُحافظة والحداثة؟
إن لتحميل درس الفلسفة تبعات الصِراع السيَّاسي والايديولوجي القائِم في المجتمع مخاطِرُ عديدة على الفكر الفلسفي ذاتِه. ولهذا صار من الضروري فتح النّقاش العمومي حول وظيفة الفلسفة في المجتمع: كيف استطاع مدرس الفلسفة اليوم أن يكون هو أول حارسٍ للمعبد؟ بعد أن كان أول من ينتقد المعبد؟
لا يسيء للفلسفة غير بعض المهتمين بشأنها وبتدريسها وتعليمها وترجمتها، ويمكن تسميتهم بأعداء الفلسفة من الداخل، كما أن هناك عدواً خارجياً للفلسفة، يتمثل في السُّلطة التي تملك القرار في تعزيز الفلسفة داخل المنظومة التعليمية من عدمه، بحيث يمكن اتخاذ قرار في الحكومة أو الوزارة ضد الفلسفة، ففي كل المجتمعات توجد قِوى محافظة يمكنها الوقوف أمام الفكر الفلسفي بالنظر إلى ما قد يشكله من تهديد لبنيتها الايديولوجية التي تخدم مصالح كمشة معينة أو قوى معينة. لكنه لا يتوجب النظر إلى الفلسفة وكأنها طبيب المجتمع، أو “المُنقذ من الضلال”.
صحيح أن جزء كبيراً من المجتمع يساهم في انتعاش التمثُلات التي يحملها التِلميذ معه في أولِ لقاءٍ له بالفلسفة، وصحيح أيضاً أن القوى المحافِظة والرجعيّة تعمل ما بوسعها لمناهضة التفكير الفلسفي، إلا أن هذا الصراع سيظل حاضراً وباستمرار في الدينامية المجتمعية، كمعبر عن صراع تيارات المجتمع واختياراته، ولكن ما الذي يمنع درس الفلسفة اليوم من أداء وظيفته؟
تعيش الجامعة المغربية أزمة هويّة في مختلف الحقول المعرفيّة والعلميّة.. وترتبط هذه الأزمة بنيوياً بأزمة المجتمع ككل. وهي أزمة عامة تنعكس على درس الفلسفة. إلا أن تدريس الفلسفة على العموم في الجامعة لم يعد قادراً على أداءِ وظيفتِه النقديّة، كما لم يعد قادراً على تخطِّي مُعضِلاتِه، نتيجة التّغيرات والتّحولات التي وقعت في المغرب. وقد صار هذا الدّرس مجرد رؤوس أقلام تحفظ للامتحان، وليس محاضرات تساءل القيّم والثقافة والسُّلوكات والأحداث الرّاهنة التي تؤرق المجتمع. لا نجد اليوم أي مُبرِّرٍ كي لا يهتم هذا الدّرس بسؤال الحداثة، ولكن ليس بمنظور إعادة قراءة كانط Kant أو هيجلHegel أو نيتشه Nietzsche أو فرويد Freud، ولا بتلقين دروس في التّحلِيل النّفسي أو التعريف بالمشروع النقدي الكانطي، لأن ما يميز مجتمع المعرفة اليوم هو وفرة المعلومة ويُسر الوصول إليها، إننا بحاجة إلى تعليم طرق الوصول إلى ما يفيد البحث، والالتزام بتقديم البحوثِ بشكل أصيل غير منقول، والتساؤل حول مُمكِنات قيام الحداثة بالمجتمع المغربي، والدفع بالتشبع بالقيم الكونيّة وبالمنظومة العالمية لحقوق الإنسان، والانخراط في هموم الوطن، والبحث في الإشكالات التي تعترِض مجتمعنا نحو التّقدم والحريّة والتّحرر.
إن ربط درس الفلسفة بالامتحان الوطني يمثل أحد العوائق التي تقف أمام هذا الدرس في التعليم الثانوي التأهيلي، حيث صار رهين وحبيس النّقطة، فلم تعد الحاجة مرتبطة بتلقين قيّم معيّنة ولا بالتساؤل عن مشكلات معينة وإنما بالعمل من أجل الظفر برتبةٍ مشرِّفة. إلا أن هذا المشكل ليس وحده العائق، فما الذي يمنع نجاح الدرس الفلسفي في السنتين الأوليتين من سنوات هذا السلك؟ ما الذي يمنع من أن يقوم المُدرِّس بدوره كمربي على التفكير النّقدي، وكمتسائِل أول عن القيم السائدة؟ وما الذي يمنع مدرس الفلسفة من أن يكون الفاعِل الأول في الحياة المدرسيّة حيث التلاميذ بحاجة إلى تعلُّم أدوات التعبير عن الذات وعن الرأي، وبحاجة إلى التساؤل عن هويتهم وإدراكِها كما هي لرفضها أو قبولها ؟ ما الذي يمنع هذا المدرس من أن يكون نموذجاً يقتدى به في حيّه ومجتمعِه الصغير؟
صار من اللاّزم إعادة النِقاش حول واقِع الفلسفة بالمغرب اليوم، والبحث بجديّة عن المخارِج الممكِنة للأزمة التي نتخبط فيها بحدة. كما صار من اللازم إعادة التّأكيد على دور هذا الدّرس في الدفع بعجلة التقدم إلى الأمام. وهو ما ليس ممكنا إلا بإعادة النظر في الموضوعات المدرسة وفي الطرق التقليدية للتدريس، وفي الطابع التجاري (التسليع) الذي ينخُر جِسم الفلسفة. ولا سبيل غير الجرأة والشجاعة في طرح موضوعات: الدعاية، الجسد، الموت، الدين، الفن، الاختلاف، التعدد والتنوع، الخاص والعام، التواصل، النوع، الحق، العدالة، الدولة، الديمقراطية، الحرية، السعادة، العنف، الإقصاء، الغيرية، الاستبداد بالرأي.. وهو ما يستدعي تضافر جهود الجميع.