عن الوحشة المتوحشة
رشديات يا أهل الوقت ◆ أبو رشد
عتبت على خنزير كلبٍ وإنني
بذاك على الكلب التميمي أعتبُ
على الكلب أهوال إذا ما رأيتهُ
وخنزير كلب بالمخازي مدربُ
برد بن بشار
و ما حاد أبو رشد نهارا، و لا جانبا من حلكة الليل، عن مناورات سبر أغوار الكراكيز العربية المتسلطنة، سلطعونات الرجعية إلى الخلف، ببيع أصولهم و فصولهم لأحسن زبون، فأرهق أبو رشد مخه من ضراوة المخمخة، دون جدوى، حتى لم يعد يقدر على التفكير ولا تحريك ساكن، ولو قيد أنملة، لا فوقا ولا تحتا، لا يمينا ولا يسارا، فبالأحرى من المحيط إلى الخليج، وهو شديد الضيق، فهيهات من مضيق طارق حتى مضيق هرمز. وأمام الإنهاك التام عقد لنفسه مع نفسه مساكنة للخاطر، هدنة للسلام، حتى يلتقط أنفاسه في اليوم الموالي. وليست هي هدنة على شاكلة أي نظام، فلا هو ينبطح لأحد، راخياً الحزام، ولا هو يستلقي على وجهه، فاكاً لسرواله اللجام..
وفي خلاء غربته بالقفار خلد للنوم، في مكان جلوسه، دون أن يشعر، فرأى في عمق سباته، في أضغاث أحلامه جماعة سمحة، تلتف به بحنان، و قد كانوا منه قاب قوسين أو أدنى، فرأى في ذلك امرأ مريبا، و شك فيهم شكا رهيبا، فتوهم اليقظة حلا عجيبا، للتخلص منهم، فما استطاع إليها سبيلا.
آه، كيف يخلد للنوم بعد الآن، وهو محاصر من كل مكان، فتمتم لنفسه: تبا لي، وقفقف: يا ويحي، واللعنة على تسلط السلطة، وعلى ارتزاق دواوين الانشاء، كيف خطر لي أن أنام، وسط هذا الزحام، كم غريب هذا التجمهر الهام.
ولاحظ في إبصار سباته أنهم يحملون له الحناء والتمر، علامة على صفاء النية، كما لو أنهم في لسان حالهم يقولون: حبذا لو تحيد عنك ضيقة الصدر، فوثق فيهم رويدا رويدا، وترجل عن صهوة الشك هوينا هوينا، وكيف لا يؤمن، وهو لم يلق من الكثيرين قبلهم إلا مرارة المر، بدل الحناء والتمر. هدءوا من روعه سائلين: سمعناك تردد في المنامة مرتعشا: “آه من منفاي”، بالزمن المتصهين عليك في تكالبه، يا أبا رشد، كن سخيا من حيث لا تملك، تصدق علينا، و قل لنا، دام عمرك رغم قساوة العيش، انبس لنا ولو ببنت شفة: ما منفاك ؟، ففرجت كربته هذه الزعامة الظرفية أمامهم، فتنهد عميقا، كما لو أنه يشتم له رحيقا، تنهد عميقا، وكأنه ينزع عنه حسرة الرمان، والشوكة من القلب المهان، و قال: منفاي الوحشة المتوحشة، إنه إذا أُدمي القلب، في خلوة عزلته، واستبد به الحنين في أوج شدته، إنه عندما تقسو علي هذه الوحشة، و تتضارى، وحشة منفاي هي التيه الفتاك، هو شتاتي، فلا أنا هنا، ولا أنا هناك، منفاي ليست هي الوحدة، يا أصحاب الخير، بل عزلة الهندي الأحمر في الدم، إنه خفقان القلب الكومانشي، كصعلوك شريد، في هباء، فلا قافلات للأسياد تمر في عز الشتاء، و تنفذ في الحياة بتعميمها، بنزع الخوصصة عنها، من الجوع والممات. لا يجدي في الصقيع ولا في القفار إلا محاكاة سارق النار.
وهل منفاك قسر أم اختيار، يا أبا رشد؟ فقال: كما تعوج الأمور عندنا اليوم، لا فرق بين المنزلتين، رغم القيل والقال لا بعد بين الحالتين لأن: “الشيطان سكن في التفاصيل”. فكلنا في حفرة نزيل، ومنا سجين الديار، ومنا سجين القفار، للجميع تنتكس الأقاصي والأماني..
وهناك، سلمتم من العيب، صنفين آخرين من رهط بشرنا، علاوة على القاصي والداني، من جهة هناك المستلبون، أعوان الأسياد والاستبداد، إلى درجة التآمر، ومن جهة أخرى المغفلون، من الذين اختلط الأمر عليهم، إلى حد الالتباس المبهم، فتداخل في جماجمهم الحابل بالنابل، والصلب بالسائل، الوطنية الملاذ الاخير “للانذال”.
فأمست منفاي هي الوحشة المتوحشة، هي غمة الصدر، كما لو أنني دفنت حيا في القبر، هي اختناقي، هي الغصة تنهك صبري، وتنهش أوصالي، وتلخبط راحة بالي، عند الحل، وعند الترحال. خاطبوني جميعا بصوت عضال: قل لنا هل يتوارى منفاك، بحلول العدالة، وأفول التحقير، وذهاب المهانة إلى زوال، قل بالرشد عليك، هل يعقل أن تتحول كلاب الوقت من حسن إلى أحسن، رغم سوء نياتها، و فعلاتها، أما نحن فمن سيء إلى أسوء، و من رديء إلى أردأ، فأجاب: أقسم بأمي أنني لا أفهمكم، فماذا تنتظرون من الجرو ابن الكلب، فمن الغريزي أن يتكالب لتسبيق رهطه، ما الغريب في أن يفضل الزمن المتصهين في تكالبه كلاب الوقت، ويسفل كل واحد منكم، في الحياة والممات. في أوج منهجية الاستلاب تستلب بديهة البعض، إلى درجـة أنهم أصبحوا مسكونين بجن الحاكم بأمره، فأصبحوا، وأضحوا، و أمسوا يصفقون له إذا صفر، أو عطس، أو سعل، أو ضرط برنين متين.
فقال أحدهم من جماعة الحناء و التمر، و هو سجين المولد: “اللهم قبر غريب، ولا شكارة خاوية”، فأجاب المنبوذ: “اللهم قطران بلادي ولا عسل بلاد الناس”، فأجاب أبو رشد محتنقا كدوامة، من شدة غضبه: غريب هذا يا عشاق الويل، كفى بالرشد عليكم، لا أنا استحب قبرا غريبا، ولا قطران بلادي، فدعوني من بعض سذاجات الأقطاب، ليس في قلبي متسع لتشرذم الأحزاب، كم أحن إلى أن يحكم شعبي نفسه، بمعزل عن أي ضفدع أو غراب، هيا بنا ضد شر الشرور، وكفى نميمة، كفى من نباح الكلاب، دعوا أزيز الذباب، عندما يراوح كل شيء محله، محنة هذه، مهنة العذاب.
سأل آخر بعد ذلك: وما القناعة في ظنك، يا أبا رشد، فقال: منها الفائد، ومنها الفاسد، وكل ما زاد عن حده انقلب إلى ضده، والفرق عظيم بين الراضي و السادي، والراضي معروف، أما السادي فهو المستحوذ في شراهته على جمع ونتف رزق غيره، هو الجشع، حتى يفقد قلبه، فلا يخفق له إلا الجيب، إنه المتهالك على الرأسمال، “خنزير كلب بالمخازي مدرب”، وحتى لو نال ليس فقط كل مال المغرب الأقصى، والأدنى، والأوسط، بل كل رأسمال الجنوب والشمال، فلن يجد للهفته على الدرهم والدينار، والأورو الدولار قناعة ولا قاعا، فجوع العامة في البطن، وجوعه في القلب، عادته السرية والعلنية جنون شهوة الاحتكار، السندات والأسهم والأوراق المالية هي ورقاته الشافية، أما ما يسمى “أخلاقا” فلسان حاله يقول: هذه البقية الباقية سفاهة، فلا أنا منها ولا هي لي.