لويس سبولبيدا النورس الذي أسقطه الوباء

◆ محمد نايت دراع

بين‭ ‬ميلاده‭ ‬بأوفال،‭ ‬شمال‭ ‬تشيلي‭ ‬أكتوبر‭ ‬عام‭ ‬1949م‭ ‬وغروب‭ ‬حياته‭ ‬بأحد‭ ‬مستشفيات‭ ‬أوفييدو‭ ‬شمال‭ ‬غرب‭ ‬اسبانيا‭ ‬في‭ ‬السادس‭ ‬عشر‭ ‬من‭ ‬أبريل‭ ‬عام‭ ‬2020‭ ‬متأثرا‭ ‬بإصابته‭ ‬بفيروس‭ ‬كوفيد‭ ‬19،‭ ‬عاش‭ ‬الكاتب‭ ‬والمناضل‭ ‬التشيلي‭ ‬لويس‭ ‬سبولبيدا‭ ‬حياة‭ ‬السجن‭ ‬والنفي‭ ‬والترحال،‭ ‬وكان‭ ‬يعتبر‭ ‬أجمل‭ ‬سنوات‭ ‬حياته‭  ‬تلك‭ ‬التي‭ ‬انخرط‭ ‬فيها‭ ‬ضمن‭ ‬تجّمع‭ ‬أحزاب‭ ‬اليسار،‭ ‬الذي‭ ‬أوصل‭ ‬سلفادور‭ ‬اللّيندي‭ ‬إلى‭ ‬الحكم‭ ‬عام‭ ‬1970،‭ ‬تزوّج‭ ‬عام‭ ‬1971‭ ‬من‭ ‬الشاعرة‭ ‬التشيلية‭ ‬كارمن‭ ‬يانييز‭ ‬هيدالغو،‭ ‬ولكن‭ ‬سرعان‭ ‬ما‭ ‬انهار‭ ‬هذا‭ ‬الزواج،‭ ‬وبعد‭ ‬عشرين‭ ‬عاماً‭ ‬من‭ ‬الانفصال،‭ ‬سيلتئم‭ ‬الشّمل‭ ‬ويتزوّجان‭ ‬مرّة‭ ‬أخرى‭ ‬في‭ ‬ألمانيا‭. ‬تقول‭ ‬الشاعرة‭ ‬كارمن‭ ‬يانييس‭: ‬‮«‬تزوّجنا‭ ‬للمرة‭ ‬الأولى‭ ‬في‭ ‬أيام‭ ‬سلفادورالليندي‭ ‬الجميلة‭ ‬يومها‭ ‬كان‭ ‬الغرام‭ ‬مثل‭ ‬معانقة‭ ‬السماء‭ ‬في‭ ‬ليلة‭ ‬صيفية‭ ‬مقمرة،‭ ‬ثم‭ ‬جاءت‭ ‬الديكتاتورية‭ ‬وضيّعنا‭ ‬بعضنا‭ ‬إلى‭ ‬أن‭ ‬عدنا‭ ‬والتقينا‭ ‬من‭ ‬أجل‭ ‬تشيلي‭ ‬بعد‭ ‬عشرين‭ ‬عاماً‮»‬‭.‬

ويعد‭ ‬لويس‭ ‬سبولبيدا‭ ‬من‭ ‬بين‭ ‬الناشطين‭ ‬والمفكرين‭ ‬اليساريين‭ ‬البارزين‭ ‬الذين‭ ‬داقوا‭ ‬مرارة‭ ‬السجن‭ ‬وتعرضوا‭ ‬للتعذيب،‭ ‬وقد‭ ‬تناول‭ ‬هذه‭ ‬الحقبة‭ ‬المرعبة‭ ‬من‭ ‬تاريخ‭ ‬تشيلي‭ ‬في‭ ‬كتاب‭ “‬جنون‭ ‬بينوشيه‭” ‬والذي‭ ‬صدر‭ ‬في‭ ‬العام‭ ‬2003،‭ ‬وروى‭ ‬سبولبيدا‭ ‬وقائع‭ ‬حياته‭ ‬المليئة‭ ‬بالأحداث‭ ‬لى‭ ‬لسان‭ ‬شخصية‭ ‬خوان‭ ‬بيلمونتي،‭ ‬المحارب‭ ‬السابق‭ ‬ومرافق‭ ‬سلفادور‭ ‬الليندي،‭ ‬وهي‭ ‬إحدى‭ ‬شخصيات‭ ‬روايته‭ “‬اسم‭ ‬مصارع‭ ‬الثيران‭”.‬

وكان‭ ‬يهدف‭ ‬من‭ ‬وراء‭ ‬خلقه‭ ‬هذه‭ ‬الشخصية‭ ‬إلى‭ “‬الحفاظ‭ ‬على‭ ‬الذّاكرة‭” ‬ومحاربة‭ “‬أولئك‭ ‬الذين‭ ‬يدافعون‭ ‬عن‭ ‬فقدانها‭ ‬لتبرير‭ ‬ممارسات‭ ‬الدولة،‭ ‬مثلما‭ ‬وقع‭ ‬في‭ ‬تشيلي‭ ‬إبان‭ ‬حكم‭ ‬بينوشيه‭ “‬

داع‭ ‬صيت‭ ‬لويس‭ ‬بعد‭ ‬صدور‭ ‬الترجمة‭ ‬الفرنسية‭ ‬لروايته‭ “‬العجوز‭ ‬الذي‭ ‬كان‭ ‬يقرأ‭ ‬الروايات‭ ‬الغرامية‭” ‬سنة‭ ‬1999‭ ‬ثم‭ ‬ازدادت‭ ‬شهرته‭ ‬بعد‭ ‬صدور‭ ‬روايته‭ ‬‮«‬حكاية‭ ‬طائر‭ ‬النورس‭ ‬والقطّ‭ ‬الذي‭ ‬علّمه‭ ‬الطيران‮»‬‭ ‬و‭ ‬التي‭ ‬لاقت‭ ‬انتشارا‭ ‬واسعاً‭ ‬ونُقلت‭ ‬إلى‭ ‬السينما‭ ‬في‭ ‬إيطاليا‭ ‬حيث‭ ‬تحولت‭ ‬إلى‭ ‬فيلم‭ ‬ناجح‭ ‬‭ ‬بعنوان‭ ‬Lucky and Zorba‭” . ‬قصة‭ ‬طائرالنورس‭ ‬والقط‭ ‬الذي‭ ‬علمه‭ ‬الطيران‭” ‬حكاية‭ ‬ساحرة‭ ‬وعميقة‭ ‬وبالرغم‭ ‬من‭ ‬أنها‭ ‬تبدو‭ ‬موجهة‭ ‬لليافعين‭ ‬والشباب‭ ‬فهي‭ ‬في‭ ‬العمق‭ ‬موجهة‭ ‬للقراء‭ ‬من‭ ‬جميع‭ ‬الأعمار‭ ‬كما‭ ‬جاء‭ ‬على‭ ‬غلاف‭ ‬الرواية‭ ‬ـ‭ ‬من‭ ‬سن‭ ‬الثامنة‭ ‬وحتى‭ ‬سن‭ ‬الثامنة‭ ‬والثمانين‭ ‬ـ‭.  ‬وقيل‭ ‬إن‭ ‬‮«‬سبولبيدا‮»‬‭ ‬كتب‭ ‬هذه‭ ‬القصة‭ ‬بناء‭ ‬على‭ ‬وعد‭ ‬قطعه‭ ‬لأطفاله‭ ‬سيباستيان،‭ ‬ماكس،‭ ‬وليون،‭ ‬ذات‭ ‬يوم‭ ‬بأن‭ ‬يكتب‭ ‬لهم‭ ‬قصة‭ ‬عن‭ ‬المعاملة‭ ‬السيئة‭ ‬التي‭ ‬يتعامل‭ ‬بها‭ ‬البشر‭ ‬مع‭ ‬محيطه،‭ ‬فعندما‭ ‬نخرب‭ ‬الطبيعة‭ ‬فإننا‭ ‬نخرب‭ ‬أنفسنا‭ ‬ونعتدي‭ ‬على‭ ‬إنسانيتنا،‭ ‬حيث‭ ‬الإنسان‭ ‬لا‭ ‬يدمر‭ ‬الطبيعة‭ ‬ويلوثها‭ ‬ليقتل‭ ‬الطيور‭ ‬والنوارس‭ ‬البيضاء‭ ‬فقط،‭ ‬وإنما‭ ‬ليقتل‭ ‬أخاه‭ ‬الإنسان‭ ‬بأكثر‭ ‬من‭ ‬طريقة‭! ‬

فقصة‭ “‬طائرالنورس‭ ‬والقط‭ ‬الذي‭ ‬علمه‭ ‬الطيران‭” ‬درس‭ ‬قاس،‭ ‬وتحريض‭ ‬شرس‭ ‬ضد‭ ‬الشراسة‭ ‬وجرائم‭ ‬التلوث‭ ‬التي‭ ‬يرتكبها‭ ‬البشر‭ ‬بسبب‭ ‬جشعه،‭ ‬وصرخة‭ ‬ضد‭ ‬كل‭ ‬محاولات‭ ‬وأشكال‭ ‬القتل‭ ‬والدمار‭ ‬التي‭ ‬يرتكبها‭ ‬الإنسان،‭ ‬يقول‭ ‬المترجم‭ ‬رفعت‭ ‬عطفة‭ ‬في‭ ‬تقديمه‭ ‬للرواية‭:‬

‭”‬ويبدو‭ ‬اننا‭ ‬مازلنا‭ ‬نعيش‭ ‬على‭ ‬ايقاع‭ ‬الحياة‭ ‬التي‭ ‬صاحبت‭ ‬ابن‭ ‬المقفع‭ ‬وكليلة‭ ‬ودمنة‭ ‬ولابد‭ ‬لنا‭ ‬من‭ ‬حكمة‭ ‬الحيوان‭ ‬للانتصار‭ ‬أولا‭ ‬على‭ ‬ذاتنا،‭ ‬وثانيا‭ ‬للطبيعة‭ ‬التي‭ ‬تمنحنا‭ ‬الحب‭ ‬والحياة‭ ‬والجمال‭”‬

واستهل‭ ‬الكاتب‭ ‬عمله‭ ‬الروائي‭ ‬بمحنة‭ ‬الأم‭”‬كنغة‭ ” ‬النورس‭ ‬ذات‭ ‬اللون‭ ‬الفضي،‭ ‬التي‭ ‬وصلت‭ ‬إلى‭ ‬مرفأ‭ ‬هامبورغ‭ ‬متسخة،‭ ‬وفي‭ ‬حالة‭ ‬اختناق‭ ‬بسبب‭ ‬بقعة‭ ‬من‭ ‬النفط،‭ ‬تخلصت‭ ‬منها‭ ‬إحدى‭ ‬البواخر‭ ‬في‭ ‬البحر،‭ ‬حيث‭ ‬تستغل‭ ‬هذه‭ ‬الأخيرة‭ ‬أيام‭ ‬الضباب‭ ‬على‭ ‬الشواطئ‭ ‬كي‭ ‬تتوغل‭ ‬في‭ ‬عمق‭ ‬البحر‭ ‬لتغسل‭ ‬خزاناتها،‭”‬غطست‭ ‬كنغا‭ ‬النورس‭ ‬رأسها‭ ‬عدة‭ ‬مرات،‭ ‬الى‭ ‬أن‭ ‬أدركت‭ ‬ومضات‭ ‬نور‭ ‬بؤبؤيها‭ ‬المغطيين‭ ‬بالنفط،‭ ‬البقعة‭ ‬اللزجة،‭ ‬الوباء‭ ‬الأسود‭ ‬ألصق‭ ‬جناحيها‭ ‬بجسدها،‭ ‬وهكذا‭ ‬راحت‭ ‬تحرك‭ ‬ساقيها‭ ‬بأمل‭ ‬أن‭ ‬تسبح‭ ‬بسرعة‭ ‬وتخرج‭ ‬من‭ ‬وسط‭ ‬الطاعون‭ ‬الأسود‭”.‬

البقعة‭ ‬السوداء،‭ ‬الوباء‭ ‬القاتل،‭ ‬لعنة‭ ‬الأم‭”‬كينغة‭”‬وهي‭ ‬تنتظر‭ ‬نهايتها‭ ‬المشؤومة،‭ ‬الوباء‭ ‬الأسود،‭ ‬لعنة‭ ‬لويسس‭ ‬بولبيدا‭ ‬وهو‭ ‬ينتظر‭ ‬نهايته‭ ‬المشؤومة‭ ‬على‭ ‬سرير‭ ‬تحت‭ ‬العناية‭ ‬المركزة‭ ‬بإحدى‭ ‬المستشفيات‭ ‬الاسبانية‭” ‬بسبب‭ ‬كوفيد‭ ‬19،‭ ‬مثلما‭ ‬مرت‭ ‬النورس‭ “‬كينغا‭”‬بأطول‭ ‬ساعات‭ ‬عمرها‭ ‬جاثمة‭ ‬فوق‭ ‬الماء‭ ‬متسائلة‭ ‬برعب‭ ‬عما‭ ‬اذا‭ ‬كان‭ ‬ينتظرها‭ ‬أفظع‭ ‬أنواع‭ ‬الموت‭.‬

وتذكر‭ ‬الشاعرة‭ ‬كارمن‭ ‬يانييس‭ ‬رفيقة‭ ‬دربه‭ ‬ما‭ ‬أجابها‭ ‬به‭ ‬في‭ ‬لحظات‭ ‬وعيه‭ ‬الأخيرة‭ ‬عندما‭ ‬قالت‭ ‬له‭ ‬إنك‭ ‬شجاع‭ ‬وتجاوزت‭ ‬محناً‭ ‬أصعب‭ ‬من‭ ‬هذه‭: ‬فكان‭ ‬جوابه‭ “‬الشجعان‭ ‬ليسوا‭ ‬إلّا‭ ‬أشخاصاً‭ ‬قرّروا‭ ‬معانقة‭ ‬الخوف‭ ‬في‭ ‬حياتهم‭ ” ‬هكذا‭ ‬قرر‭ ‬أن‭ ‬يعانق‭ ‬قدره‭ ‬دون‭ ‬خوف‭ ‬ويطير‭ ‬محلقا‭ ‬إلى‭ ‬الأبد،‭ ‬كواحد‭ ‬من‭ ‬الذين‭ ‬أثروا‭ ‬الأدب‭ ‬اللاتيني‭ ‬بإبداعاتهم،‭ ‬يغادر‭ ‬في‭ ‬صمت‭ ‬إلا‭ ‬من‭ ‬كلمات‭ ‬رثاء‭ ‬من‭ ‬أصدقائه،‭ ‬حيث‭ ‬إن‭ ‬حالات‭ ‬الطوارئ‭ ‬المفروضة‭ ‬في‭ ‬اسبانيا،‭ ‬التي‭ ‬حصد‭ ‬بها‭ ‬الوباء‭ ‬الالاف‭ ‬من‭ ‬الضحايا،‭ ‬لم‭ ‬تسمح‭ ‬لعائلته‭ ‬ولرفاقه‭ ‬وأصدقائهمن‭ ‬مؤازرته‭ ‬في‭ ‬محنته،‭ ‬أو‭ ‬تشييع‭ ‬جنازته‭ ‬بعد‭ ‬رحيله،‭ ‬يقول‭ ‬لويس‭ ‬في‭ ‬روايته‭ “‬طائرالنورس‭ ‬والقط‭ ‬الذي‭ ‬علمه‭ ‬الطيران‭”‬وهو‭ ‬يصف‭ ‬احتضار‭ ‬النورس‭ “‬كينغ‭ “‬وحيدة‭:‬

‭”‬انه‭ ‬القانون،‭ ‬كذلك‭ ‬رأت‭ ‬بعض‭ ‬النوارس‭ ‬التي‭ ‬فاجأها‭ ‬المد‭ ‬القاتل‭ ‬الأسود،‭ ‬ورغم‭ ‬رغبتها‭ ‬بالهبوط‭ ‬لتقديم‭ ‬مساعدة‭ ‬غير‭ ‬مجدية،‭ ‬فقد‭ ‬ابتعدت‭ ‬محترمة‭ ‬القانون‭ ‬الذي‭ ‬يمنعها‭ ‬من‭ ‬حضور‭ ‬موت‭ ‬زميلتها‭”‬

فهل‭ ‬الحظ‭ ‬العاثر‭ ‬الذي‭ ‬كان‭ ‬ينتظر‭ ‬لويس‭ ‬سبولبيدا‭ ‬ليصير‭ ‬جسده‭ ‬طعما‭ ‬سهلا‭ ‬للموت‭ ‬البطيء‭ ‬اختناقا‭ ‬بفيروس‭ ‬كوفيد19‭ ‬هو‭ ‬نفسه‭ ‬حظ‭ ‬النورس‭ ‬الأم‭ “‬كينغ‭” ‬التي‭ ‬بدخول‭ ‬النفط‭ ‬في‭ ‬بين‭ ‬ريشها‭ ‬أغلق‭ ‬جميع‭ ‬مساماتها‭ ‬وأنهى‭ ‬حياتها‭…‬فكم‭ ‬كان‭ ‬مصير‭ ‬النورس‭ “‬كينغ‭” ‬والأديب‭ ‬لويس‭ ‬متشابها،‭ ‬وبالتالي‭ ‬ألم‭ ‬يكتب‭ ‬لويس‭ ‬خاتمة‭ ‬حياته‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬مأساة‭ ‬النورس‭ ‬كينغ‭ ‬في‭ ‬الفصل‭ ‬الأول‭ ‬من‭ ‬روايتة‭”‬النورس‭ ‬والقط‭ ‬الذي‭ ‬علمه‭ ‬الطيران‭”.‬

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى