الشأن المحلي من التدبير القبلي إلى التدبير الجماعي
◆ البدالي صافي الدين
عرف المجتمع المغربي منذ قبل الإسلام تدبير الشأن المحلي وفق متطلبات كل تجمع سكاني عشائري أو قبائلي أو حصري تتحكم فيه طقوس وعادات حسب المناطق والجهات، وكان يوكل تدبير الشأن المحلي اجتماعيا واقتصاديا وثقافيا لمجلس كان يعرف ب “اجماعة” وهو مجلس يتولى تقسيم العمل بين أفراد القبيلة أو الدوار أو القرية أو الحومة أو الحطة. يشرف هذا المجلس على تقديم الخدمات وتنظيم العمل التشاركي، بالمفهوم الحديث للأعمال، على شكل ما كان يعرف “بالتويزة ” وتدبير عملية الرعي والري والعمل التطوعي في بناء المرافق الاجتماعية والصحية في غياب ميزانية للبنية التحتية. وتقوم “اجماعة” بتنظيم العلاقات الاجتماعية فيما يخص عقود القران أو البيع أو الشراء أو الرهن، كما أنها كانت تشرف على الشؤون الدينية بتعيين الفقيه الذي سيتكلف بالإمامة وبتدريس الأطفال، ويعتبر “الجامع” أو “المسيد” مدرسة وملاذا لعابري السبيل وأحيانا لاجتماع “اجماعة”، وتستعين برجال يسمونهم ب “أصحاب الطرقة” لهم خبرة في القضايا المرتبطة بالتجارة أو ب “الكسيبة” يفصلون في قضايا الشراكة أو العمل أو بين الناس. ويوكل ل “اجماعة” تدبير العلاقات مع الجيران من قبائل وتجمعات سكانية مجاورة ومع المخزن. وكل القضايا كانت تحسم عبر مجلس “أجماعة” حتى القضايا الخلافية. يرأس “اجماعة” رجل يقع عليه الإجماع من طرف الجميع. إلى جانب ذلك، هناك تنظيم يجمع بين الدواوير المكونة للدائرة الترابية أو للقبيلة، ويتشكل من كل أرباب البيوت وشيوخ القبيلة الذين ينتمون إلى ترابها. كل دوار ينتخب أو ينتدب 4 إلى 5 أعضاء إلى هذا المجلس وذلك حسب عدد سكان كل دوار ويسمى هذا المجلس ب “مجلس الأربعين”. ولا يحق لشخص خارج حدود تلك القبيلة أن ينتمي إلى هذا المجلس. ويشكل وحدة مستقلة وينتخب بشكل ديمقراطي ويكون أغلب أعضائه من أعيان الدواوير الذين ينتسبون إلى نفس القبيلة. وقد استمر هذا التنظيم إلى غاية 1920 وخاصة في الأطلس المتوسط والكبير والريف واستمر في بعض المناطق إلى حدود الأربعينات من القرن الماضي. هذا التنظيم كان يتسم بالديمقراطية المبنية على التشاور وعلى المشاركة دون تمييز أو إقصاء وبالتضامن والتكافل الاجتماعي والتوازنات الاجتماعية. إلا أن هذا الشكل التنظيمي سيتم استهدافه من طرف الاستعمار الفرنسي والاسباني، وذلك بالاعتماد على التقسيم العرقي للسكان وعلى التقاليد والعادات من أجل النيل من وحدة “أجماعة” في المقام الأول، لأنها الوسيلة التنظيمية الصلبة للمغاربة القادرة على المحافظة على الهوية الوطنية والدفاع عنها. فالتقسيم الجديد الذي جاء به الاستعمار كان يهدف إلى التغيير الكلي للبنية الاجتماعية التي أساسها “أجماعة” واستبدالها بالجماعة الترابية على غرار فرنسا في أفق التحكم الكلي في شؤون الساكنة وجعلها تخضع لسياسة المركز وأيضا كان الغرض منها هو طمس معالم العلاقات الاجتماعية والثقافية والاقتصادية والتكافل الاجتماعي كمقدمة للسيطرة الكاملة على المواطن. وكان أول مدخل لهذه الإجراءات هو المدخل المالي من أجل ترسيخ وتوسيع قواعد إدارة الحماية 1912 ـ 1917، وذلك بفرض نظام جبائي على الساكنة لتغطية مصاريف الإدارة الفرنسية والإسبانية، ومن تم أصبحت الجماعة الترابية تؤدي وظيفة الإدارة المركزية من تحصيل الضرائب عن الأملاك واستغلال الملك العمومي والولوج للأسواق (الظهير الشريف المؤرخ ب 27 مارس 1916، الظهير الشريف المؤرخ بتاريخ 1917، والظهيران الشريفان بتاريخ 20 ابريل 1917.).
الشأن المحلي والتدبير الجماعي في عهد الاستقلال:
غداة الاستقلال اتجه المغرب إلى الاهتمام بالجماعة ليجعلها الخلية الأساسية للبناء الديمقراطي، لكنه ظل معتمدا على نفس التقسيم الجماعي الذي خلفه الاستعمار، وكذلك نفس العلاقة بين الجماعة والسلطة المركزية من حيث تدبير الشأن المحلي. وهو تقسيم غير منسجم اجتماعيا وثقافيا واقتصاديا، مما سيؤدي إلى نتائج لا تخدم القواعد الديمقراطية وبذلك لم يشكل ظهير 1960 المتعلق بالتنظيم الجماعي اية لبنة في اتجاه بناء نظام اللامركزية. فكانت سنة 1960 الانطلاقة القانونية الأولى للنظام الجماعي بالمغرب من خلال صدور أول قانون ينظم الجماعات الحضرية والقروية، إلا أن ما يميز هدا القانون هو عدم تمتيعه للجماعة بصلاحيات مهمة على مستوى تدبير الشأن المحلي، تقول الأستاذة مزروع فاطمة في كتابها الإدارة المحلية اللامركزية بالمغرب “…فالاختصاصات الممنوحة للمجالس المنتخبة هي اختصاصات جد محدودة، وفي المقابل تمت تقوية صلاحيات السلطات المركزية وممثليها على المستوى المحلي”. إن القصور الكبير لهذا الميثاق تمثل في أنه جعل من الجماعة مجرد وحدة إدارية. لأنه خول للسلطات المحلية كل الصلاحيات ويبقى دور المجلس الجماعي المصادقة فقط، الشيء الذي سيكرس التبعية المطلقة للمركز. ويحول دور “أجماعة” من الدور التشاركي في التنمية وفي البناء الديمقراطي إلى مجلس أعيان تنتخبه السلطة مكان المواطن، مما خلق مسافة بين المجلس والمواطن بات من الصعب تداركها بفعل سرعة التحول الذي يعرفه المجتمع المغربي في سياق التغيرات التي يعرفها النظام العالمي اقتصاديا وسياسيا واستراتيجيا.
ويأتي ظهير 30 شتنبر 1976 كميثاق جماعي بديل عن ظهير 1960 ليخول مجموعة من الصلاحيات للمجالس الجماعية، وقد جاء هذا التحول بعد الأزمة السياسية التي أفرزت حالة الاستثناء، والتي امتدت من 1965 إلى 1970 .إن هذا الميثاق الجماعي شكل منعطفا تاريخيا حيث أصبحت الجماعات شريكا وفاعلا مركزيا في التنمية .إلا أن شرط السلطة الوصية ظــــل قائما و بامتياز في تدبير الشأن المحلي، بالإضافة إلى ظهير فبراير 1977 الذي يعطـي للعمال صلاحيات واسعة تجعلهم يتحكمون في الموارد المالية وفي المشاريع، بل وفي ميزانية الجماعات القروية والحضرية والمجالس الإقليمية.
لقد خص ظهير 30 شتنبر 1976 المجلس الجماعي بمجموعة من الاختصاصات ذات الطابع التنموي وذلك من خلال الفصل 30 من هذا الظهير، إذ جاء فيه أن “المجلس الجماعي يعد مخطط التنمية الاقتصادية والاجتماعية للجماعة طبقا للاتجاهات والأهداف المقررة في المخطط الوطني.” ويحدد برنامج تجهيز الجماعة في حدود الوسائل الخاصة بالجماعة والوسائل والإمكانيات الموجودة رهن إشارتها. ويقترح على الإدارة الأعمال اللازمة للنهوض بتنمية الجماعة إذا كانت هذه الأعمال لا تتجاوز حدود الاختصاص الجماعي أو تتجاوز نطاق وسائل الجماعة والوسائل الموضوعة رهن إشارتها. ومن تم ظل الدور التنموي للمجلس الجماعي محددا بالحدود المكانية للجماعة وبالقضايا المحلية فقط، وبالنظر إلى نصيب المجلس الجماعي في التنمية، فالملاحظ أن دور المجلس مهم ومنصوص عليه بصريح النص، بل يقع على عاتق المجلس عبء التنمية المحلية. هذا الدور التنموي تقوى بإصلاحات أساسية تدعمه على عدة مستويات:
•تخصيص 30% من الضريبة على القيمة المضافة لميزانية الجماعات المحلية.
•إقرار نظام جديد للجبايات المحلية.
•إعادة هيكلة صندوق التجهيز الجامعي.
•تطوير الوظيفة العمومية المحلية.
•إقرار تقسيم جماعي جديد.
•دعم النظام الجماعي بالجهوية.
إلا أن هذه الإجراءات تظل ضعيفة في ظل حاجيات السكان من خدمات اجتماعية وثقافية واقتصادية ومن بنيات تحتية.
الجماعة المحلية والتنمية
إن التنمية الشاملة للدولة ترتبط بتنمية الجماعة من حيث مواردها المالية والبشرية، لأن موضوع التنمية المحلية جزء لا يتجزأ عن موضوع التنمية الشاملة، و إذا كانت الاختيارات المخزنية تتعارض ومفهوم التنمية الشاملة وتكرس سياسة الارتجـــال في التخطيط وسياسة التدبير المالي وعشوائية التسيير وتداخل السلط، فإن دور الجماعة المحليــة في التنمية لن يختلف عن المفهوم المخزني للتنمية والتسيير وتدبير الشأن المحلـى. إذ أنها لم تستطع التخلص من قيود الوصاية المخزنية ومن مخلفات التقسيم الإداري الذي جعل الجماعة تفتقر إلى موارد تساعدها على تحقيق فائض من أجل تنمية ميزانية الاستثمار.
الإشكاليات المطروحة بعد ظهير 76
كانت تجربة الجماعات المحلية، التي أطر عملها وكيفية انتخابها وانتخاب رؤسائها ونوابهم ومقرري الميزانية والكتاب ظهير 30 شتنبر 1976، والذي اقر بمجموعة من الاختصاصات منها الشرطة الإدارية واستقلالية ماليتها والتوظيفات وعقد الصفقات وتدبير النفقات، وتعتبر تجربة لا بأس بها على مستوى بعض المدن والقرى من حيث التسيير والتنمية. إلا أن ذلك الامتداد عرف إجهاضا في انتخابات 1983 والتي كانت مزورة بامتياز ليعود الأعيان والموالون للسلطة إلى رئاسة الجماعات المحلية والقبول بالتراجعات التي شابت ظهير 1976.
وإذا كانت التنمية تعتمد على المواطن كمحور رئيسي لها فإن دوره في المشاركة في القرارات والاختيارات من خلال انتخابات نزيهة وحرة في إطار ديمقراطية حقيقية لازال محدودا إن لم نقل منعدما، وبالمقابل فإن المواطن في الجماعة لازال يعتبر رقما إحصائيا فقط. ومكونا انتخابيا ليس إلا، مما سيؤدي إلى فشل التدبير المحلي لعدة أسباب منها:
ـ التقطيع الجماعي الذي يتم وضعه بمقتضى مرسوم من اختصاص السلطة التنظيمية. ويظل خاضعا لاعتبارات سياسية وانتخابية وأمنية وليس لاعتبارات موضوعية اقتصادية واجتماعية وتنموية وتشاركية.
ـ كل الانتخابات الجماعية التي تم إجرائها منذ الاستقلال لم تكن مبنية على أسس ديمقراطية حقيقية، بل كلها كانت مبينة على التزوير ضدا على إرادة الموطنين والمواطنات مما جعل الجماعة تنهج سياسة مخزنية من حيث التدبير والتسيير ومن حيث التنمية المحلية.
ـ الاختلالات الاقتصادية والمالية للجماعة وهدر المال العام في غياب المساءلة.
ـ انعدام التوازن وضعف الأداء مما سيفضي إلى ظاهرة التزوير الانتخابي وذبح الديمقراطية المحلية مما حول الجماعات المحلية إلى ضيعات خاصة للاغتناء غير المشروع وضياع مصالح المواطنين والمواطنات.