أحمد بنجلون.. الرحيل القاسي
◆ رشيد الإدريسي
الفارس المهووس بالعطاء
والآن يحق لك أن ترتاح، وأنت الذي خضت معارك الحياة من أجل فكرة، من أجل حلم بسيط، هو أن نستفيق في إحدى الصباحات، لنلتحف بنسائم الحرية..
يحق لك أن ترتاح فالشهداء، يعودون متى شاءوا لأنهم أحياء..
يعودون أنى شاءوا لأنهم أحرار..
يحق لك أن ترتاح، لأنك كما قلت لنا يوما “إن مستقبلي ورائي”..
فالجسد متعب، لكن القلب ظل يخفق بالمحبة والفرح، نعم الفرح..
لأنك كنت قادرا حتى في أقسى اللحظات، وأصعبها أن تتلمس الآتي وتبشر به..
كنت بطلا ملحميا، ليس فقط لأنك هزمت الجلاد والأقبية والقسوة..
وسجنت الجلاد في قلعة صمودك الأسطوري..
وتجرعت جحيما الألم وظل قلبك طريا..
وذرفت بين رفاقك الدموع، حين اكتشفت يوما، أنك أصبحت أكبر من أخيك الأكبر عمر..
بل لأنك اختزلت كل المعاني والدلالات، إن القهر والاستبداد مهما اشتدا وتغولا لا يمكن أن يقهرا شعبا عصيا على التحطيم..
كنت وأنت تصارع الجلادين، الذين كانوا غير قادرين على الاقتراب منك، إلا والقيود في يديك خوفا منك، لأنك افترست الخوف وقتلته في مهده، كنت تدافع عن إنسانيتك وكبريائك وأصالتك وكرامتك..
لم يكن الجلاد في جبروته وقسوته سوى التعبير عن الحكم المطلق الذي له وجه آخر هو التعذيب المطلق للإنسان المعزول والمحاصر..
والعبت بالجسد وتمزقيه واقتلاع إنسانيته والسعي إلى هزمه..
لكنك يا أحمد قاومت الحكم المطلق داخل الأسوار وخارجها، ليس دفاعا عن إنسانيتك، مع أنك تدرك ما معنى أن يفقد المناضل كينونته وإنسانيته..
بل دفاعا عن شعب يأبى الاستسلام..
دفاعا عن شعب قد يتعب أو يضجر لكنه لن يركع..
إذا مددنا أيدنا فلن نقدر أن نمد أعناقنا
وكان لسان حالك يقول للذين يريدون اختزال المصالحة، لن أسمح لأي كان أن يقيس عذاباتي ويزنها ويعطيها مقابلا ماديا، كنا نعرف المعنى السياسي لذلك “إن مددنا أيدينا فلن نقدر أن نمد أعناقنا.”..
ولطالما كنت تقول بافتخار وكبرياء، إننا مناضلون ولسنا ضحايا، وإن ما قمنا به من نضال وكفاح، وما تحملناه من تضحيات هو من صميم مبادئنا وقناعتنا..
وكنا نعرف أنهم مثل التاجر المخادع يأخذ، و يقايض دون أن يقدم لك أي شيء..
وكنت تواجههم بسخريتك القاسية وتقدم لهم تحديا، هو أن يصححوا واحدة فقط من آثار التعذيب على جسدك، أي أن يجعلوك قادرا على أن تلبس نفس المقاس في زوج حذائك، الذي جعل أحد قدميك أصغر من الأخرى بسبب التعذيب..
وحين تسلل البعض لقبرك، كنا نقول على لسان رفيق دربك عبد الرحمان بنعمرو بجرأته المعهودة وكبريائه، وهو يرثيك ويودعك، إن المصالحة الحقيقية هي حرية وكرامة الشعب..
يحقك لك يا أبا محمود، أن ترتاح فالربيع المغربي قادم كما قلت وليس الربيع المخزني، قادم من تخوم آهات البسطاء وأوجاع الكادحين، يحق لك أن تفرح وتغني كما كنت مبتسما ومعانقا للحياة ، وأنت الذي دقت طعم انتصار الشعوب ضد الطغاة وتعلمت منها، وصغت إلى جانب رفاقك تجربتكم الخاصة، التي كنت دائما تعتز بها وبأخطائها، وأدركت مند زمن بعيد أن النضال داخل الوطن هو جزء من نضال الأحرار في العالم، ولذلك جسدت بعمق أمميتك في فلسطين وسوريا والجزائر وفرنسا..
الأصيل
وأنت، يا ابن الأصل والفصل والحسب والنسب “الاتحاد”، الذي خضت باسمه ومن أجله، وفي خضمه نضالا طويلا متعدد الواجهات، ودافعت عن هويته وتاريخه وشهداءه، وتعذبت وتمزق جسدك من أجله ومن أجل اسمه، ولذلك حين ناقش الإخوان قضية تغيير الاسم، كنت تبدع في الصيغ لتحافظ ، على اسم الاتحاد وأذكر أنني في ذلك الاجتماع التاريخي، وكنت أصغر عضو فيه، لم أرغب أن أصوت ضد معظم القيادات التاريخية، التي كانت لها نفس القناعة تعاطفا وتأثرا بحساسية الموقف، وفضلت أن أمتنع لكنك كنت مصرا على أن يعبر الكل عن اختياره، وتقبلت بحزن وتأثر نتيجة التصويت..
حين تكتب وتفكر حرا
وحين تكتب، كنت تنظر إلى أعماقك أولا وتنصت إلى إيقاعها وتكتب، يسكنك الإنسان وتسكنك قيم الحرية، فالكتابة لديك ليست جولة خاطفة أو طائرا يحلق بلا هدف، الكتابة اقتحام واشتباك وغوص في تفاصيل الوطن الجريح، والكتابة بين أصابعك بوح وسفر عميق، تسوق فيه المعاني إلى لحظة المكاشفة، وتسمي الأشياء كما هي بدون رتوش، كنت تقول ما تفكر فيه وتكتب ما تفكر به، كنت تكتب وتطوع اللغة وتبدع فيها، وتنهل من ثقافتك الواسعة وانفتاحك، وروح الشعر التي تسكن أضلاعك، وتجعل السخرية وخزا قاسيا، كنت تبدع كمثقف صادق وصحافي متمرس ومحامي نزيه، كنت تعيش حريتك وكرامتك في الكتابة وفي كل شيء، في حياتك، تلك الحياة التي كنت فيها قنوعا وبسيطا، وغنيا بروحك وكبريائك، حيث لم يكن المال وجهتك ولا صديقك..
كنت حرا في صياغة الموقف السياسي والفكري، كنت تدرك أن القائد السياسي، يفقد عذريته !ذا فقد استقلاليته وحريته، ولذلك كنت متمردا على الطقوس والأعراف، تفهم الإشارات والرموز ولذلك كنت تصرخ في وجه من يستهين بها..
الحضور الدائم
وفي كل المحطات، كنت حاضرا متحفزا، يقظا ومبدعا، مع العمال والشباب والنساء اللواتي رافقتهن في معركة الكرامة وأطلقت بفرح اسم حركتهن في ذلك المساء بالبيضاء، بلغتك الفرنسية الراقية، وكنت تدرك بخبرتك أن الولادة ليست هي الوحيدة التي تكون عسيرة.
انهض يا أحمد ففي هذا الصباح الحزين بالرباط، وحده رذاذ المطر كان يبلل الوجوه البهية، التي يعتصرها الحزن، الكل جاء ليودعك، كل الأحبة جاؤوا ليوقعوا ميثاق الوفاء، وتلك الوجوه البهية والوفية التي لازمتك في رحلة الحلم، من المدن والقرى جاؤوا، من تخوم الجرح جاؤوا يلفهم الحزن وتخنقهم حرقة الفراق..
لم يفقدوا القائد والزعيم والمؤسس فقط، بل فقدوا الأب والأخ الذي أحبوه وعشقوه وأعجبوا به، وغضبوا عليه وتحملوا غضبه، وتعلموا منه الشجاعة والوضوح والمروءة والكبرياء، وتعلموا منه أن السياسة التزام وأخلاق وثبات، تعلموا منه أن الإنسان لا قيمة له إذا فقد هويته وتعرض للمسخ..
استفتاء الموت
والآن يحق لك أيها الفارس العنيد أن تنهض..
بعد أن قام الموت باستفتاء نزيه لمشاعرنا..
وتوجك حارسا لحلمنا من الطغاة والبراري والذئاب الوديعة..
التي لا تفلت من قبضتك حتى وأنت مقعد على الكرسي..
حتى وأنت تغازل الحياة بين أصابعك لتمنحك حقك كاملا..
وهي التي لم تكن لا سخية ولا عادلة..
يحق لك أن تنهض وتحتسي قوة الصباح في شوارع الرباط..
وأن تنسج خيوط الضوء ضد العتمة..
وتمشي بين الأزقة والمدن والقرى تتأمل الوجوه..
وترسل كعادتك الرسائل المشفرة “سنواصل نضالنا من أجل ربيع مغربي وليس ربيع مخزني.”..
انهض لتواصل فرحك الذي انفجر، حين خرج الشباب في فبراير لاستعادة مجد الحرية، هذا الشباب الذي كنت في مسارك مواكبا وفاعلا، وموجها لحركته، سيحتاجك ويشتاق لقوة ولمعان كلماتك، وحواراتك الساخنة معه، وحتى الاشتباك معك، الذي كنا من خلاله نتعرف عليك وتتعرف علينا، وتحتفي باندفاعنا وعنفواننا..
ونستحضر ذلك الصباح المشمش من سنة 1996 بالرباط في المجلس وطني للشبيبة حين، وقفت بعد ليل طويل وعاصف، رغم تباين التقديرات، لتحيي شبابا لم تفتر عزيمته وقوته، وتسر له باعتزازك، لأنك كنت تكره دائما الضعف وأن يستسلم الإنسان لضعفه وتردده، كنت تبحث عن نفسك في كل واحد فينا، تبحث عن الإصرار والعناد الجميل، أنت الحريص على الهوية والمسار..
سنحتاجك حين نريد أن نعزف نشيد الحرية..
سنحتاج يقظتك ووضوحك..
حين نريد صياغة أبجدية فعلنا السياسي، الذي جعلته رديفا للنزاهة والصدق..
والتي لم تستطع أكثر اللحظات قسوة وقهرا وحصارا أن تبعدك عن روح البدايات ووصايا الشهداء..
ونحتاج صوتك المجلجل حتى لا تخنقنا الأصوات المبحوحة..
ونعشق فصاحتك، لنعيد للكلمة الحرة بهاءها ونقاءها..
يحق لك أن تستريح، وأن تحتفي بموج البحر، وهو يفتح ذراعيه للأفق..
وبأصوات النوارس المتعبة، وبغيمة تائهة في المحيط..
ففي المساء سنعود إليك لنلمس وجهك وننصت لآهاتك..
سنعود إليك من حقول جريحة ومن شارع منهك..
وذات مساء سنعود إليك وفي اليد باقة أمل، وفي العيون إشراقه وطن.