أحمد بنجلون.. الرحيل القاسي

◆ رشيد الإدريسي

الفارس‭ ‬المهووس‭ ‬بالعطاء

والآن‭ ‬يحق‭ ‬لك‭ ‬أن‭ ‬ترتاح،‭ ‬وأنت‭ ‬الذي‭ ‬خضت‭ ‬معارك‭ ‬الحياة‭ ‬من‭ ‬أجل‭ ‬فكرة،‭ ‬من‭ ‬أجل‭ ‬حلم‭ ‬بسيط،‭ ‬هو‭ ‬أن‭ ‬نستفيق‭ ‬في‭ ‬إحدى‭ ‬الصباحات،‭ ‬لنلتحف‭ ‬بنسائم‭ ‬الحرية‭..‬

يحق‭ ‬لك‭ ‬أن‭ ‬ترتاح‭ ‬فالشهداء،‭ ‬يعودون‭ ‬متى‭ ‬شاءوا‭ ‬لأنهم‭ ‬أحياء‭..‬

يعودون‭ ‬أنى‭ ‬شاءوا‭ ‬لأنهم‭ ‬أحرار‭..‬

يحق‭ ‬لك‭ ‬أن‭ ‬ترتاح،‭ ‬لأنك‭ ‬كما‭ ‬قلت‭ ‬لنا‭ ‬يوما‭ “‬إن‭ ‬مستقبلي‭ ‬ورائي‭”..‬

فالجسد‭ ‬متعب،‭ ‬لكن‭ ‬القلب‭ ‬ظل‭ ‬يخفق‭ ‬بالمحبة‭ ‬والفرح،‭ ‬نعم‭ ‬الفرح‭..‬

‭ ‬لأنك‭ ‬كنت‭ ‬قادرا‭ ‬حتى‭ ‬في‭ ‬أقسى‭ ‬اللحظات،‭ ‬وأصعبها‭ ‬أن‭ ‬تتلمس‭ ‬الآتي‭ ‬وتبشر‭ ‬به‭..‬

‭ ‬كنت‭ ‬بطلا‭ ‬ملحميا،‭ ‬ليس‭ ‬فقط‭ ‬لأنك‭ ‬هزمت‭ ‬الجلاد‭ ‬والأقبية‭ ‬والقسوة‭..‬

وسجنت‭ ‬الجلاد‭ ‬في‭ ‬قلعة‭ ‬صمودك‭ ‬الأسطوري‭..‬

وتجرعت‭ ‬جحيما‭ ‬الألم‭ ‬وظل‭ ‬قلبك‭ ‬طريا‭..‬

وذرفت‭ ‬بين‭ ‬رفاقك‭ ‬الدموع،‭ ‬حين‭ ‬اكتشفت‭ ‬يوما،‭ ‬أنك‭ ‬أصبحت‭ ‬أكبر‭ ‬من‭ ‬أخيك‭ ‬الأكبر‭ ‬عمر‭..‬

‭ ‬بل‭ ‬لأنك‭ ‬اختزلت‭ ‬كل‭ ‬المعاني‭ ‬والدلالات،‭ ‬إن‭ ‬القهر‭ ‬والاستبداد‭ ‬مهما‭ ‬اشتدا‭ ‬وتغولا‭ ‬لا‭ ‬يمكن‭  ‬أن‭ ‬يقهرا‭ ‬شعبا‭ ‬عصيا‭ ‬على‭ ‬التحطيم‭..‬

‭ ‬كنت‭ ‬وأنت‭ ‬تصارع‭ ‬الجلادين،‭ ‬الذين‭ ‬كانوا‭ ‬غير‭ ‬قادرين‭ ‬على‭ ‬الاقتراب‭ ‬منك،‭ ‬إلا‭ ‬والقيود‭ ‬في‭ ‬يديك‭ ‬خوفا‭ ‬منك،‭ ‬لأنك‭ ‬افترست‭ ‬الخوف‭ ‬وقتلته‭ ‬في‭ ‬مهده،‭ ‬كنت‭ ‬تدافع‭ ‬عن‭ ‬إنسانيتك‭ ‬وكبريائك‭ ‬وأصالتك‭ ‬وكرامتك‭..‬

لم‭ ‬يكن‭ ‬الجلاد‭ ‬في‭ ‬جبروته‭ ‬وقسوته‭ ‬سوى‭ ‬التعبير‭ ‬عن‭ ‬الحكم‭ ‬المطلق‭ ‬الذي‭ ‬له‭ ‬وجه‭ ‬آخر‭ ‬هو‭ ‬التعذيب‭ ‬المطلق‭ ‬للإنسان‭ ‬المعزول‭ ‬والمحاصر‭..‬

والعبت‭ ‬بالجسد‭ ‬وتمزقيه‭ ‬واقتلاع‭ ‬إنسانيته‭ ‬والسعي‭ ‬إلى‭ ‬هزمه‭..‬

لكنك‭ ‬يا‭ ‬أحمد‭ ‬قاومت‭ ‬الحكم‭ ‬المطلق‭ ‬داخل‭ ‬الأسوار‭ ‬وخارجها،‭ ‬ليس‭ ‬دفاعا‭ ‬عن‭ ‬إنسانيتك،‭ ‬مع‭ ‬أنك‭ ‬تدرك‭ ‬ما‭ ‬معنى‭ ‬أن‭ ‬يفقد‭ ‬المناضل‭ ‬كينونته‭ ‬وإنسانيته‭..‬

  ‬بل‭ ‬دفاعا‭ ‬عن‭ ‬شعب‭ ‬يأبى‭ ‬الاستسلام‭..‬

دفاعا‭ ‬عن‭ ‬شعب‭ ‬قد‭ ‬يتعب‭ ‬أو‭ ‬يضجر‭ ‬لكنه‭ ‬لن‭ ‬يركع‭.. ‬                                         

‭ ‬

إذا‭ ‬مددنا‭ ‬أيدنا‭ ‬فلن‭ ‬نقدر‭ ‬أن‭ ‬نمد‭ ‬أعناقنا

وكان‭ ‬لسان‭ ‬حالك‭ ‬يقول‭ ‬للذين‭ ‬يريدون‭ ‬اختزال‭ ‬المصالحة،‭ ‬لن‭ ‬أسمح‭ ‬لأي‭  ‬كان‭ ‬أن‭ ‬يقيس‭ ‬عذاباتي‭ ‬ويزنها‭ ‬ويعطيها‭ ‬مقابلا‭ ‬ماديا،‭ ‬كنا‭ ‬نعرف‭ ‬المعنى‭ ‬السياسي‭ ‬لذلك‭  “‬إن‭ ‬مددنا‭ ‬أيدينا‭ ‬فلن‭ ‬نقدر‭ ‬أن‭ ‬نمد‭ ‬أعناقنا‭.”..‬

ولطالما‭ ‬كنت‭ ‬تقول‭ ‬بافتخار‭ ‬وكبرياء،‭ ‬إننا‭ ‬مناضلون‭ ‬ولسنا‭ ‬ضحايا،‭ ‬وإن‭ ‬ما‭ ‬قمنا‭ ‬به‭ ‬من‭ ‬نضال‭ ‬وكفاح،‭ ‬وما‭ ‬تحملناه‭ ‬من‭ ‬تضحيات‭ ‬هو‭ ‬من‭ ‬صميم‭ ‬مبادئنا‭ ‬وقناعتنا‭..‬

وكنا‭ ‬نعرف‭ ‬أنهم‭ ‬مثل‭ ‬التاجر‭ ‬المخادع‭ ‬يأخذ،‭ ‬و‭ ‬يقايض‭ ‬دون‭ ‬أن‭ ‬يقدم‭  ‬لك‭ ‬أي‭ ‬شيء‭..‬

وكنت‭ ‬تواجههم‭ ‬بسخريتك‭ ‬القاسية‭ ‬وتقدم‭ ‬لهم‭ ‬تحديا،‭ ‬هو‭ ‬أن‭ ‬يصححوا‭ ‬واحدة‭ ‬فقط‭ ‬من‭ ‬آثار‭ ‬التعذيب‭ ‬على‭ ‬جسدك،‭ ‬أي‭ ‬أن‭ ‬يجعلوك‭ ‬قادرا‭ ‬على‭ ‬أن‭ ‬تلبس‭ ‬نفس‭ ‬المقاس‭ ‬في‭ ‬زوج‭ ‬حذائك،‭ ‬الذي‭ ‬جعل‭ ‬أحد‭ ‬قدميك‭ ‬أصغر‭ ‬من‭ ‬الأخرى‭ ‬بسبب‭ ‬التعذيب‭..‬

‭ ‬وحين‭ ‬تسلل‭ ‬البعض‭ ‬لقبرك،‭ ‬كنا‭ ‬نقول‭ ‬على‭ ‬لسان‭ ‬رفيق‭ ‬دربك‭ ‬عبد‭ ‬الرحمان‭ ‬بنعمرو‭ ‬بجرأته‭ ‬المعهودة‭ ‬وكبريائه،‭ ‬وهو‭ ‬يرثيك‭ ‬ويودعك،‭ ‬إن‭ ‬المصالحة‭ ‬الحقيقية‭ ‬هي‭ ‬حرية‭ ‬وكرامة‭ ‬الشعب‭..‬

يحقك‭ ‬لك‭ ‬يا‭ ‬أبا‭ ‬محمود،‭ ‬أن‭ ‬ترتاح‭ ‬فالربيع‭ ‬المغربي‭ ‬قادم‭ ‬كما‭ ‬قلت‭ ‬وليس‭ ‬الربيع‭ ‬المخزني،‭ ‬قادم‭ ‬من‭ ‬تخوم‭ ‬آهات‭ ‬البسطاء‭ ‬وأوجاع‭ ‬الكادحين،‭ ‬يحق‭ ‬لك‭ ‬أن‭ ‬تفرح‭ ‬وتغني‭ ‬كما‭ ‬كنت‭ ‬مبتسما‭ ‬ومعانقا‭ ‬للحياة‭ ‬،‭ ‬وأنت‭ ‬الذي‭ ‬دقت‭ ‬طعم‭ ‬انتصار‭ ‬الشعوب‭ ‬ضد‭ ‬الطغاة‭ ‬وتعلمت‭ ‬منها،‭ ‬وصغت‭ ‬إلى‭ ‬جانب‭ ‬رفاقك‭ ‬تجربتكم‭ ‬الخاصة،‭ ‬التي‭ ‬كنت‭ ‬دائما‭ ‬تعتز‭ ‬بها‭  ‬وبأخطائها،‭ ‬وأدركت‭ ‬مند‭ ‬زمن‭ ‬بعيد‭ ‬أن‭ ‬النضال‭ ‬داخل‭ ‬الوطن‭ ‬هو‭ ‬جزء‭ ‬من‭ ‬نضال‭ ‬الأحرار‭ ‬في‭ ‬العالم،‭ ‬ولذلك‭ ‬جسدت‭ ‬بعمق‭ ‬أمميتك‭ ‬في‭ ‬فلسطين‭ ‬وسوريا‭ ‬والجزائر‭ ‬وفرنسا‭.. ‬

‭ ‬

الأصيل

وأنت،‭ ‬يا‭ ‬ابن‭ ‬الأصل‭ ‬والفصل‭ ‬والحسب‭ ‬والنسب‭ “‬الاتحاد‭”‬،‭ ‬الذي‭ ‬خضت‭ ‬باسمه‭ ‬ومن‭ ‬أجله،‭ ‬وفي‭ ‬خضمه‭ ‬نضالا‭ ‬طويلا‭ ‬متعدد‭ ‬الواجهات،‭ ‬ودافعت‭ ‬عن‭ ‬هويته‭ ‬وتاريخه‭ ‬وشهداءه،‭ ‬وتعذبت‭ ‬وتمزق‭ ‬جسدك‭ ‬من‭ ‬أجله‭  ‬ومن‭ ‬أجل‭ ‬اسمه،‭ ‬ولذلك‭ ‬حين‭ ‬ناقش‭ ‬الإخوان‭ ‬قضية‭ ‬تغيير‭ ‬الاسم،‭ ‬كنت‭ ‬تبدع‭ ‬في‭ ‬الصيغ‭ ‬لتحافظ‭ ‬،‭ ‬على‭ ‬اسم‭ ‬الاتحاد‭ ‬وأذكر‭ ‬أنني‭ ‬في‭ ‬ذلك‭ ‬الاجتماع‭ ‬التاريخي،‭ ‬وكنت‭ ‬أصغر‭ ‬عضو‭ ‬فيه،‭ ‬لم‭ ‬أرغب‭ ‬أن‭ ‬أصوت‭ ‬ضد‭ ‬معظم‭ ‬القيادات‭ ‬التاريخية،‭ ‬التي‭ ‬كانت‭ ‬لها‭ ‬نفس‭ ‬القناعة‭ ‬تعاطفا‭ ‬وتأثرا‭ ‬بحساسية‭ ‬الموقف،‭ ‬وفضلت‭ ‬أن‭ ‬أمتنع‭ ‬لكنك‭ ‬كنت‭ ‬مصرا‭ ‬على‭ ‬أن‭ ‬يعبر‭ ‬الكل‭ ‬عن‭ ‬اختياره،‭ ‬وتقبلت‭ ‬بحزن‭ ‬وتأثر‭ ‬نتيجة‭ ‬التصويت‭..‬

حين‭ ‬تكتب‭ ‬وتفكر‭ ‬حرا

وحين‭ ‬تكتب،‭ ‬كنت‭  ‬تنظر‭ ‬إلى‭ ‬أعماقك‭ ‬أولا‭ ‬وتنصت‭ ‬إلى‭ ‬إيقاعها‭ ‬وتكتب،‭ ‬يسكنك‭ ‬الإنسان‭  ‬وتسكنك‭ ‬قيم‭ ‬الحرية،‭ ‬فالكتابة‭ ‬لديك‭ ‬ليست‭ ‬جولة‭ ‬خاطفة‭ ‬أو‭ ‬طائرا‭ ‬يحلق‭ ‬بلا‭ ‬هدف،‭ ‬الكتابة‭ ‬اقتحام‭ ‬واشتباك‭ ‬وغوص‭ ‬في‭ ‬تفاصيل‭ ‬الوطن‭ ‬الجريح،‭ ‬والكتابة‭ ‬بين‭ ‬أصابعك‭ ‬بوح‭ ‬وسفر‭ ‬عميق،‭ ‬تسوق‭ ‬فيه‭ ‬المعاني‭ ‬إلى‭ ‬لحظة‭ ‬المكاشفة،‭ ‬وتسمي‭ ‬الأشياء‭ ‬كما‭ ‬هي‭ ‬بدون‭ ‬رتوش،‭ ‬كنت‭ ‬تقول‭ ‬ما‭ ‬تفكر‭ ‬فيه‭ ‬وتكتب‭ ‬ما‭ ‬تفكر‭ ‬به،‭ ‬كنت‭ ‬تكتب‭ ‬وتطوع‭ ‬اللغة‭ ‬وتبدع‭ ‬فيها،‭ ‬وتنهل‭ ‬من‭ ‬ثقافتك‭ ‬الواسعة‭ ‬وانفتاحك،‭ ‬وروح‭ ‬الشعر‭ ‬التي‭ ‬تسكن‭ ‬أضلاعك،‭ ‬وتجعل‭ ‬السخرية‭ ‬وخزا‭ ‬قاسيا،‭ ‬كنت‭ ‬تبدع‭ ‬كمثقف‭ ‬صادق‭ ‬وصحافي‭ ‬متمرس‭ ‬ومحامي‭ ‬نزيه،‭ ‬كنت‭ ‬تعيش‭ ‬حريتك‭ ‬وكرامتك‭ ‬في‭ ‬الكتابة‭ ‬وفي‭ ‬كل‭ ‬شيء،‭ ‬في‭ ‬حياتك،‭ ‬تلك‭ ‬الحياة‭ ‬التي‭ ‬كنت‭ ‬فيها‭ ‬قنوعا‭ ‬وبسيطا،‭ ‬وغنيا‭ ‬بروحك‭ ‬وكبريائك،‭ ‬حيث‭ ‬لم‭ ‬يكن‭ ‬المال‭ ‬وجهتك‭ ‬ولا‭ ‬صديقك‭..‬

كنت‭ ‬حرا‭ ‬في‭ ‬صياغة‭ ‬الموقف‭ ‬السياسي‭ ‬والفكري،‭ ‬كنت‭ ‬تدرك‭ ‬أن‭ ‬القائد‭ ‬السياسي،‭ ‬يفقد‭ ‬عذريته‭ !‬ذا‭ ‬فقد‭ ‬استقلاليته‭ ‬وحريته،‭ ‬ولذلك‭ ‬كنت‭ ‬متمردا‭ ‬على‭ ‬الطقوس‭ ‬والأعراف،‭ ‬تفهم‭ ‬الإشارات‭ ‬والرموز‭ ‬ولذلك‭ ‬كنت‭ ‬تصرخ‭ ‬في‭ ‬وجه‭ ‬من‭ ‬يستهين‭ ‬بها‭..‬

الحضور‭ ‬الدائم

وفي‭ ‬كل‭ ‬المحطات،‭ ‬كنت‭ ‬حاضرا‭ ‬متحفزا،‭ ‬يقظا‭ ‬ومبدعا،‭ ‬مع‭ ‬العمال‭ ‬والشباب‭ ‬والنساء‭ ‬اللواتي‭ ‬رافقتهن‭ ‬في‭ ‬معركة‭ ‬الكرامة‭ ‬وأطلقت‭ ‬بفرح‭ ‬اسم‭ ‬حركتهن‭ ‬في‭ ‬ذلك‭ ‬المساء‭ ‬بالبيضاء،‭ ‬بلغتك‭ ‬الفرنسية‭ ‬الراقية،‭ ‬وكنت‭ ‬تدرك‭ ‬بخبرتك‭ ‬أن‭ ‬الولادة‭ ‬ليست‭ ‬هي‭ ‬الوحيدة‭ ‬التي‭ ‬تكون‭ ‬عسيرة‭.‬

‭ ‬انهض‭ ‬يا‭ ‬أحمد‭  ‬ففي‭ ‬هذا‭ ‬الصباح‭ ‬الحزين‭ ‬بالرباط،‭ ‬وحده‭ ‬رذاذ‭ ‬المطر‭ ‬كان‭ ‬يبلل‭ ‬الوجوه‭ ‬البهية،‭ ‬التي‭ ‬يعتصرها‭ ‬الحزن،‭ ‬الكل‭ ‬جاء‭ ‬ليودعك،‭ ‬كل‭ ‬الأحبة‭ ‬جاؤوا‭ ‬ليوقعوا‭ ‬ميثاق‭ ‬الوفاء،‭ ‬وتلك‭ ‬الوجوه‭ ‬البهية‭  ‬والوفية‭ ‬التي‭ ‬لازمتك‭ ‬في‭ ‬رحلة‭ ‬الحلم،‭ ‬من‭ ‬المدن‭ ‬والقرى‭ ‬جاؤوا،‭ ‬من‭ ‬تخوم‭ ‬الجرح‭ ‬جاؤوا‭ ‬يلفهم‭ ‬الحزن‭  ‬وتخنقهم‭ ‬حرقة‭ ‬الفراق‭..‬

‭ ‬لم‭ ‬يفقدوا‭ ‬القائد‭ ‬والزعيم‭ ‬والمؤسس‭ ‬فقط،‭ ‬بل‭ ‬فقدوا‭ ‬الأب‭ ‬والأخ‭ ‬الذي‭ ‬أحبوه‭ ‬وعشقوه‭ ‬وأعجبوا‭ ‬به،‭ ‬وغضبوا‭ ‬عليه‭ ‬وتحملوا‭ ‬غضبه،‭ ‬وتعلموا‭ ‬منه‭ ‬الشجاعة‭ ‬والوضوح‭ ‬والمروءة‭ ‬والكبرياء،‭ ‬وتعلموا‭ ‬منه‭ ‬أن‭ ‬السياسة‭ ‬التزام‭ ‬وأخلاق‭ ‬وثبات،‭ ‬تعلموا‭ ‬منه‭ ‬أن‭ ‬الإنسان‭ ‬لا‭ ‬قيمة‭ ‬له‭ ‬إذا‭ ‬فقد‭ ‬هويته‭ ‬وتعرض‭ ‬للمسخ‭..‬

استفتاء‭ ‬الموت

‭ ‬والآن‭ ‬يحق‭ ‬لك‭ ‬أيها‭ ‬الفارس‭ ‬العنيد‭ ‬أن‭ ‬تنهض‭..‬

بعد‭ ‬أن‭ ‬قام‭ ‬الموت‭ ‬باستفتاء‭ ‬نزيه‭ ‬لمشاعرنا‭..‬

وتوجك‭ ‬حارسا‭ ‬لحلمنا‭ ‬من‭ ‬الطغاة‭ ‬والبراري‭ ‬والذئاب‭ ‬الوديعة‭..‬

التي‭ ‬لا‭ ‬تفلت‭ ‬من‭ ‬قبضتك‭ ‬حتى‭ ‬وأنت‭ ‬مقعد‭ ‬على‭ ‬الكرسي‭..‬

حتى‭ ‬وأنت‭ ‬تغازل‭ ‬الحياة‭ ‬بين‭ ‬أصابعك‭ ‬لتمنحك‭ ‬حقك‭ ‬كاملا‭..‬

وهي‭ ‬التي‭ ‬لم‭ ‬تكن‭  ‬لا‭ ‬سخية‭ ‬ولا‭ ‬عادلة‭..‬

يحق‭ ‬لك‭ ‬أن‭ ‬تنهض‭ ‬وتحتسي‭ ‬قوة‭ ‬الصباح‭ ‬في‭ ‬شوارع‭ ‬الرباط‭..‬

وأن‭ ‬تنسج‭ ‬خيوط‭ ‬الضوء‭ ‬ضد‭ ‬العتمة‭..‬

‭ ‬وتمشي‭ ‬بين‭ ‬الأزقة‭ ‬والمدن‭ ‬والقرى‭ ‬تتأمل‭ ‬الوجوه‭..‬

‭ ‬وترسل‭ ‬كعادتك‭ ‬الرسائل‭ ‬المشفرة‭ “‬سنواصل‭ ‬نضالنا‭ ‬من‭ ‬أجل‭ ‬ربيع‭ ‬مغربي‭ ‬وليس‭ ‬ربيع‭ ‬مخزني‭.”..‬

انهض‭ ‬لتواصل‭ ‬فرحك‭ ‬الذي‭ ‬انفجر،‭ ‬حين‭ ‬خرج‭ ‬الشباب‭ ‬في‭ ‬فبراير‭ ‬لاستعادة‭ ‬مجد‭ ‬الحرية،‭ ‬هذا‭ ‬الشباب‭ ‬الذي‭ ‬كنت‭ ‬في‭ ‬مسارك‭ ‬مواكبا‭ ‬وفاعلا،‭ ‬وموجها‭ ‬لحركته،‭ ‬سيحتاجك‭ ‬ويشتاق‭ ‬لقوة‭ ‬ولمعان‭ ‬كلماتك،‭ ‬وحواراتك‭ ‬الساخنة‭ ‬معه،‭ ‬وحتى‭ ‬الاشتباك‭ ‬معك،‭ ‬الذي‭ ‬كنا‭ ‬من‭ ‬خلاله‭ ‬نتعرف‭ ‬عليك‭ ‬وتتعرف‭ ‬علينا،‭ ‬وتحتفي‭ ‬باندفاعنا‭ ‬وعنفواننا‭..‬

‭ ‬ونستحضر‭ ‬ذلك‭ ‬الصباح‭ ‬المشمش‭ ‬من‭ ‬سنة‭ ‬1996‭ ‬بالرباط‭ ‬في‭ ‬المجلس‭ ‬وطني‭ ‬للشبيبة‭ ‬حين،‭ ‬وقفت‭ ‬بعد‭ ‬ليل‭ ‬طويل‭ ‬وعاصف،‭ ‬رغم‭ ‬تباين‭ ‬التقديرات،‭ ‬لتحيي‭  ‬شبابا‭ ‬لم‭ ‬تفتر‭ ‬عزيمته‭ ‬وقوته،‭ ‬وتسر‭ ‬له‭ ‬باعتزازك،‭ ‬لأنك‭ ‬كنت‭ ‬تكره‭ ‬دائما‭ ‬الضعف‭ ‬وأن‭ ‬يستسلم‭ ‬الإنسان‭ ‬لضعفه‭ ‬وتردده،‭ ‬كنت‭ ‬تبحث‭ ‬عن‭ ‬نفسك‭ ‬في‭ ‬كل‭ ‬واحد‭ ‬فينا،‭ ‬تبحث‭ ‬عن‭ ‬الإصرار‭ ‬والعناد‭ ‬الجميل،‭ ‬أنت‭ ‬الحريص‭ ‬على‭ ‬الهوية‭ ‬والمسار‭..‬

سنحتاجك‭ ‬حين‭ ‬نريد‭ ‬أن‭ ‬نعزف‭ ‬نشيد‭ ‬الحرية‭..‬

‭ ‬سنحتاج‭  ‬يقظتك‭ ‬ووضوحك‭..‬

حين‭ ‬نريد‭ ‬صياغة‭ ‬أبجدية‭ ‬فعلنا‭ ‬السياسي،‭ ‬الذي‭ ‬جعلته‭ ‬رديفا‭ ‬للنزاهة‭ ‬والصدق‭..‬

والتي‭ ‬لم‭ ‬تستطع‭ ‬أكثر‭ ‬اللحظات‭ ‬قسوة‭ ‬وقهرا‭ ‬وحصارا‭ ‬أن‭ ‬تبعدك‭ ‬عن‭ ‬روح‭ ‬البدايات‭ ‬ووصايا‭ ‬الشهداء‭..‬

ونحتاج‭ ‬صوتك‭ ‬المجلجل‭ ‬حتى‭ ‬لا‭ ‬تخنقنا‭ ‬الأصوات‭ ‬المبحوحة‭..‬

ونعشق‭ ‬فصاحتك،‭ ‬لنعيد‭ ‬للكلمة‭ ‬الحرة‭ ‬بهاءها‭ ‬ونقاءها‭..‬

يحق‭  ‬لك‭ ‬أن‭ ‬تستريح،‭ ‬وأن‭ ‬تحتفي‭ ‬بموج‭ ‬البحر،‭ ‬وهو‭ ‬يفتح‭ ‬ذراعيه‭ ‬للأفق‭..‬

وبأصوات‭ ‬النوارس‭ ‬المتعبة،‭ ‬وبغيمة‭ ‬تائهة‭ ‬في‭ ‬المحيط‭..‬

ففي‭ ‬المساء‭ ‬سنعود‭ ‬إليك‭ ‬لنلمس‭ ‬وجهك‭ ‬وننصت‭ ‬لآهاتك‭..‬

سنعود‭ ‬إليك‭ ‬من‭ ‬حقول‭ ‬جريحة‭ ‬ومن‭ ‬شارع‭ ‬منهك‭..‬

‭ ‬وذات‭ ‬مساء‭ ‬سنعود‭ ‬إليك‭ ‬وفي‭ ‬اليد‭ ‬باقة‭ ‬أمل،‭ ‬وفي‭ ‬العيون‭ ‬إشراقه‭ ‬وطن‭.‬

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى