عمر حي فينا
- مبارك متوكل
هكذا كان عمر بنجلون، مرحا في فرحه ومرحا في غضبه. قد يسمعك جوابا تظن معه أن عمر سيراميك باستمرار، وما تكاد تنتهي من النقاش الذي أدى إلى غضبه عليك حتى يناديك مجددا، ليبدا معك حوارا مرحا وكأنه لم يغضب منك أبدا.
زرته غداة توصله بالطرد الملغوم يوم 13 يناير 1973، التقينا بمقهى بشارع مصطفى المعاني بالدار البيضاء، كان قلقا على مصير رفيق له لم يكن حذرا بما فيه الكفاية، إذ انفجر اللغم في وجهه. شربنا القهوة معا وتبادلنا أطراف الحديث حول طرق الإرهاب التي التي يلجأ إليها خصوم الحركة التقدمية لتصفية المعارضين وذوي الرأي المخالف. وعند الوداع طلبت منه أن يكون حذرا، فالخصوم كُثر ومعظمهم عديمو الأخلاق، كان جواب عمر: “لا تجزع فلا يمكن أن تموت أكثر من مرة”، وبالفعل كان لعمر أكثر من موعد مع الموت.
حكم عليه بالإعدام بعد المؤامرة المزعومة ضد النظام، والتي كانت في الواقع مؤامرة على الحركة الاتحادية، كاستمرار لحركة التحرير الشعبية، وقد كان المخزن من خلالها يهدف إلى تفكيك التنظيمات التقدمية وعزلها عن محيطها الجماهيري، وتصفية عناصرها الأكثر حيوية ونشاط.
نعم حكم على عمر بالإعدام بتهمة التآمر على النظام، في حين أن المحاكمة وما سيتبعها من أحداث ستؤكد أن ما جمعه النظام من أدلة وشهود، لم يستطع الصمود أمام صراحة الحجج التي قدمها المتهمون، وفندوا بها كل التهم، التي كان من أكثرها سخافة وضحالة مؤاخذة عمر بنجلون كمدير جهوي للبريد على توفره على مكتبه بالدار البيضاء على تصميم شبكة خيوط الهاتف بالبيضاء ونواحيها. وقد واجه عمر التهم الموجهة إليه وإلى رفاقه بجرأة وشجاعة قل نظيرها، وهو ما جعل النظام يصدر عفوا على معتقلي الإتحاد الوطني للقوات الشعبية، لكن هذا العفو لم يكن ناتجا عن رحمة أو رأفة أو أزمة ضمير أو اعتراف بالخطأ في حق مناضلين أبطال من قدماء المقاومين وأعضاء جيش التحرير، الذين قدموا جزيل التضحيات وتحملوا المشاق والأهوال في سبيل الوطن. إذ تزامن العفو على عمر بنجلون ورفاقه مع تنفيذ حكم الإعدام بمنكناس في حق بنحمو و 14 من رفاقه. لقد كان العفو ضربا لثلاثة عصافير بحجرة واحدة، إذ أنست غمرة فرحة الإفراج عن المعتقلين استشهاد بنحمو ورفاقه المعتقلين بسجن مكناس. كما تضمن العفو عن معتقلي 1963، عفوا عن سائر الخونة وأذناب الاستعمار، الذين تم تعويضهم عن كل ما سلب منهم، وتمت إعادة إدماجهم في مناصب السلطة والقضاء، الأمر الذي سيوفر لهؤلاء العملاء إمكانية تصفية حساباتهم مع الأحياء والأحرار من أعضاء المقاومة وجيش التحرير عن طريق السلطتين التنفيذية والقضائية.
كما أن العفو جاء كمحاولة لتخفيف الضغط على الخصوم، بعد المطالبة بفصل السلط والحد من سطوة المخزن وجبروته، إذ أن شعبا بأكمله بدأ يشعر أن تضحياته لم تؤدي إلى ما كانت تلوح به بعض أبواق البورجوازية المدنية من رخاء وطمأنينة سيوفران استقلال البلد. فكانت الانتفاضة الشعبية في الريف وفي الدار البيضاء ومراكش، بل حتى في الصحراء،.. وجاءت انتفاضة الطلاب والتلاميذ في 23 مارس 1965، لمزيد الأوضاع تأزما، مما فرض على المخزن التظاهر بالتنازل وتغيير أسلوب التعامل، وانتظار ظروف أكثر ملاءمة لتنفيذ رغباته وفرض اختياراته.
في هذه الظروف وفي ظل هذا الواقع، بدأ عمر يتحرك ليبعث الروح، فيما حاول المخزن خنقه والقضاء عليه. إذ بدأ مباشرة من حيث انتهى في يوليوز 1963، بتوصية الشهيد المهدي بن بركة الداعية إلى الربط بين النضال السياسي والنضال الاجتماعي، ومادام الاتحاد المغربي للشغل قد اختار طريق العمالة الطبقية، فلا مفر إذن من السعي إلى تأطير النضال الاجتماعي عن طريق اعتماد فكر الطبقة العاملة، فكرا وممارسة، عن طريق تكوين الأطر القادرة على استيعاب القيم الثورية والاستعداد للنضال من أجلها، وكان رأس عمر أن الطلبة ورجال التعليم هم الذين يستطيعون إذا تمكنوا من النظرية الثورية أن يساهموا في إحياء التنظيم وقيادته لصالح الجماهير وتأطيرها للمساهمة في التغيير. وعمل لهذه الغاية على خلق نواة نقابية، كانت هي النقابة الوطنية للتعليم. على أن أعين المخزن كانت بالمرصاد، وهكذا يغيب عمر من جديد، لقد اختطف عمر في الدار البيضاء، ولا أحد من الأجهزة الأمنية أو المخابراتية أو القضائية يعرف عن مصيره شيئا.. وشاءت الصدفة، مجرد صدفة، أن مواطنا أخبر بأنه رأى سيارة عمر بنجلون مركونة في مكان قصي بالقرب من أحد مراكز الشرطة في الدار البيضاء، الأمر الذي فرض على أجهزة القمع أن تخبر عن موقع عمر، وأن تجهز له ملفا تقدمه به إلى القضاء، بتهمة تبقيه في السجن المدة الكافية ليلتقي في زنزانة واحدة مع غريمه المحجوب بن الصديق المعتقل من أجل تهم أخرى. ويخرج عمر من سجنه ليبدأ معركة أخرى.
لقد استطاع عمر أن يحرر الاتحاد الوطني للقوات الشعبية من ثقل تاريخي، جعل الحزب مكبلا ومضطر إلى نوع من الازدواجية التنظيمية، جناح يسعى للحفاظ على العلاقات النفعية مع النظام، وجناح يسعى إلى تثبيت قيم النضال المفضي إلى اقتسام السلطة وبناء مجتمع الحرية والديمقراطية والاشتراكية. وكثيرا ما أدى اليأس بهذا الجناح إلى اللجوء إلى العنف دون توفر شروطه. فكانت قرارات 30 يوليوز 1972 انطلاقا في اتجاه هذا الحسم. غير أن القبضة الحديدية التي تلت هزتي يوليوز 71 وغشت 72، والتي أطلقت يد أجهزة المخابرات والشرطة السرية تعبث بحرية المواطنين وأرزاقهم، وتلاحق المناضلين باختلاق أسباب المتابعة، وهو ما جعل العديد منهم يقررون الدخول في مغامرة بقصد الضغط على النظام عن طريق اعتماد القوة. وكانت أحداث مولاي بوعزة -مارس 1973-، فرصة المخزن لتصفية حسابه مع عمر والجناح الذي ينتمي إليه، ومحاولة القضاء على مشروعه الثوري، فشمل الاعتقال تلك اللائحة التي اعتمد عليها عمر لمواصلة المشوار، والتي لازال بعض الأحياء منها يواصلون النضال في تحد لصون وتقدم الحركة الاتحادية الأصيلة.. فينفذ حكم الإعدام في فوج جديد من الشهداء يوم الفاتح من نونبر 1973. ومن باب السجن المركزي بالقنيطرة يختطف الشهيد عمر ومن معه من المحكومين بالبراءة من طرف المحكمة العسكرية، في انتظار طبخ ملف آخر يُظهر أن عمر كان يحضر من داخل السجن المركزي للقيام بأعمال جنائية ستعرض على القضاء ليبث فيها.
وما إن أفرج عن عمر ورفاقه حتى عاد ليبعث التنظيم من جديد، فتحول عمر المهندس إلى عمر المحامي ثم عمر الصحفي. إن هذا التعدد في الاختصارات والمهارات والقدرة على التفاعل بإيجابية ونجاح كان من الأسباب التي دفعت خصوم الحركة الاتحادية الأصيلة إلى التفكير في صيغ أخرى للتعامل مع عمر وقدراته الجبارة على التفكير والتأطير والفعل.
عادت المحرر للصدور واستعاد الاتحاد نشاطه وعقد مؤتمره الاستثنائي في يناير 1975، وبرز عمر القيادي والمفكر والرائد للأصدقاء والخصوم على السواء. وتبين لأجهزة القمع أن المحاكمات والتهم مهما كانت خطورتها لن تنال من عزيمة هذا المناضل العنيد. لذلك بدأ التفكير في صيغ جديدة تهدف أولا إلى الإساءة لسمعة المناضل قبل تصفية الحساب مع. واستطاعت عناصر الردة أن تستغل عقول البسطاء، مدعية أنها تسعى لإحياء الخلافة الإسلامية الراشدية، وبالتالي يجب القضاء على كل من يبحث عن صيغ أخرى للتغيير. ومن هنا يصدر حكم غيابي سري بإعدام عمر ويوكل التنفيذ إلى بئيس من أولائك الذين كرس عمر حياته للدفاع عنهم مناضلا ومحاميا وصحفيا.
استشهد عمر وهو في أوج عطائه الفكري وعنفوان قدراته النضالية. لقد نسي الذين لجأوا إلى الإرهاب والتكفير بدعوى الدفاع عن الإسلام، وسفكوا دما بريئا، أن عمر كان يخوض صراعا مريرا يقوده ويؤطره في وجه استغلال الإنسان للإنسان، باسم الدين أو باسم الحق الإلهي، ونسيوا بأن القيم الإسلامية كما آمن بها عمر وكما فهمها التنويريون، لا يمكن أن تقبل الظلم أو التحريض عليه.
انطلاقا من الثوريين لا يموتون بغياب أجسادهم عنا، بل إن استشهادهم هو ضامن خلودهم، لأن التركة التي خلفوها بيننا تحملنا مسؤولية أن نبقى قيمين عليها، نعمل على نشرها وتطويرها خدمة للحق والحقيقة.