المسار الفكري والنضالي للشهيد عمر تفاؤل الإرادة وتشاؤم العقل
◆ رشيد الادريسي
لقد اتسمت حياة الشهيد عمر بنجلون بتفاؤل الإرادة، فإرادته النضالية لم تعرف معنى للوهن أو التراجع، لقد ظلت منتصبة قوية لا تلين، متوتبة للفعل النضالي ومستعدة للتضحية بكل شيء من أجل المبادئ، ومن أجل قضايا الشعب الكادح، وإذا كانت هذه الصفة هي إحدى مميزات المناضل والقائد الثوري، فإن صفة أخرى ظلت تلازم الشهيد عمر، إنه النقد والتساؤل المستمر ورفض كل أشكال الطمأنينة الزائفة في ميدان حيوي ومتحرك هو ميدان الفكر المرتبط بالواقع، وذلك لا يعني بأي شكل من الأشكال التذبذب الفكري وضعف القناعة الإيديولوجية، بل هو تعبير عن طبيعة العلاقة التي يقيمها الشهيد مع موضوعه، الذي يشتغل عليه بعقل نقدي ومتفتح ،وبأدوات علمية وبنفس ثوري، يؤمن بنسبية الحقيقة وبالطبيعة الجدلية والتاريخية للمعرفة الإنسانية.
حياة كلها إصرار ومقاومة
لقد نمت هذه الصفة مع نمو شخصية الشهيد، وساهمت العديد من العوامل في بروزها منها عصاميته، وذكاؤه الثاقب وتكوينه الفكري والثقافي المتنوع والمتواصل، والتفاعل الإبداعي مع النظرية الثورية والاجتهادات الفكرية في إطار الفكر الاشتراكي وكذلك التجارب النضالية والحياتية التي مر منها وأمدته بخبرة عالية وبمعرفة غنية وعميقة.
لقد كانت حياة الشهيد كلها إصرار و تفاؤل ومقاومة مستمرة، ولد في وسط عائلة كادحة وبالرغم من الظروف الصعبة، فقد استطاع أن يدخل المدرسة ويتابع دراسته الثانوية بسبب تفوقه، وذكائه وموهبته، وبفضل تضحيات عائلته، كما أن الشهيد دخل هو الآخر التحدي، تحدي العوز المادي، تحدي إرادة التجهيل التي يفرضها الاستعمار على المغاربة ونتيجة لذلك حصل على شهادة الباكالوريا والتحق بالجامعة، تم بالمدرسة العليا للبريد والمواصلات التي تخرج منها في 1959/1960 مع العلم أنه كان يدرس بكلية الحقوق بشكل متواز حيث حصل على دبلوم الدراسات العليا في القانون العام.
ولقد كانت هذه المعركة، معركة الوجود والحق في التعليم والعلم والحياة الكريمة،هي أول معاركه في الحياة، حيث خرج منتصرا منها على كل الظروف القاسية وحيث برزت معها شخصيته المتميزة بالصلابة والإصرار وقوة الإرادة والتفاؤل.
عمر القائد الطلابي والنقابي الديمقراطي
وستأتي الأحداث التي عاشها لتؤكد هذه الصفات التي لازمته الى أخر حياته بدءا من دوره النضالي في إطار الحركة الوطنية وانخراطه المبكر في تنظيماتها ومساهمته الكبيرة في تأسيس الإتحاد الوطني لطلبة المغرب وقيادته وتبوئه موقع الرئاسة لجمعية طلبة شمال افريقيا وتصدره للانتفاضة داخل الحركة الوطنية في صفوف الطلاب بفرنسا، تلك التي تمخض عنها بروز الإتحاد الوطني للقوات الشعبية، ثم دوره الطليعي في فضح ومواجهة البيروقراطية داخل الإتحاد المغربي للشغل ودفاعه عن حق الطبقة العاملة في تنظيم نقابي ديمقراطي وتقدمي وبالرغم من كل ما واجهه في هذا الإطار من اعتداءات ومؤامرات إلا أنه لم يتنازل عن مبادئه ولم يتوان في مواجهة الانتهازية والبيروقراطية بكل حزم وبكل إصرار بحيث سيدشن رفقة العديد من المناضلين النقابيين معركة التصحيح داخل الحركة النقابية المغربية.
عمر في مواجهة محنة القمع
ونظرا لدوره النضالي وسط الجماهير الشعبية ومنظماتها وداخل الحزب الذي تفرغ للعمل فيه بعد تقديم استقالته من منصبه كمدير اقليمي للبريد بالبيضاء، فلقد تعرض لحملات متوالية مع القمع والاعتقال وواجه هذه الحملات بكل شجاعة وصمود بحيث لا أساليب التعذيب الجهنمية ولا الأحكام القاسية التي وصلت الى حد الحكم بالإعدام عليه استطاعت أن تنال من عزيمته وإرادته وثباته على مبادئه.
فلقد خبر السجون والمخافر السرية ، وكل صنوف التعذيب الوحشي، وفي كل تجربة اعتقال كان عمر هو عمر المناضل الصامد والمؤمن المتفائل بقضيته، ومباشرة بعد خروجه من السجن يتجه للعمل الحزبي وللنضال بحماس كبير، وبعزيمة أقوى وعلى أرضية جديدة تستهدف تقوية التنظيم وتخليصه من كل السلبيات، والسجن بالنسبة للشهيد لم يكن فضاءا للموت البطيء والانهيار والضياع الإنساني، انه بكل بساطة وكما يقول مدرسة للمناضلين.
الشهيد عمر بنجلون هو من ذلك الصنف، الذي تجده في وقت الشدة أكثر استعدادا للعمل و أكثر قدرة على العطاء والخلق و الإبداع و البناء، وهو بالإضافة إلى ذلك من أولئك الذين لم ينسحبوا من ساحة النضال في أوقات الشدة كما فعل البعض، بل كان يتحول إلى شعلة في زمن المحن تضيء الطريق و تبدد العتمة والظلام، لذلك كان ملجأ للعديد من المناضلين المخلصين، ونقطة ضوء تجمعت حولها كل الطاقات النضالية الصادقة في مراحل المحن و القمع التي عاشها الحزب، بحيث لم يجدوا في عمر بنجلون فقط القائد الثوري ذي التكوين الإيديولوجي والحنكة السياسية والخبرة التنظيمية والمهارة التكتيكية والقدرة على الممارسة النظرية والإيمان الذي لا يتزعزع بحتمية النصر والجرأة على اتخاذت
القرارات الحاسمة التي ستجوبها ظروف الصراع الطبقي المختلفة و تنفيذها دون تردد وبحزم، بل وجدوا فيه المناضل الإنسان حيث الدفء الإنساني والطيبوبة والتواضع والبسمة ونكهة الحياة المتدفقة في جلساته وحيث الاندماج الكلي والحميمي في وسط المناضلين بحيث يشعر كل واحد منهم أنه تربطه بالشهيد عمر علاقة إخوة و صداقة حميمة خاصة يفتخر و يعتز بها.
عمر بنجلون وإعادة البناء
لقد كانت للشهيد قدرة كبيرة على استنهاض وبناء الحزب بعد كل ضربة توجه إليه حافزه في ذلك هو الإصرار و التفاؤل و الإيمان بحتمية النصر مهما كانت النكسات والضربات الموجعة. فلا غرابة أن يكون هو الذي لعب دورا أساسيا في صدور قرارات 23 يوليوز 1972 وفي تعبئة و تنظيم الدفاع لمؤازرة المناضلين في محاكمة مراكش الكبرى، و في إحياء النشاط الحزبي و تجميع المناضلين بعد الحملة القمعية سنة 1973، و في إعادة إصدار “المحرر” بعد توقيفها وإعطائها نفسا جديدا، كما لعب الشهيد دورا رئيسيا في التهيئ للمؤتمر الاستثنائي بحيث كان عن حق “منظمه و مؤطره و موجهه الأساسي”.
وما كان دائما يعزز إصراره وصموده هو عقله المتقد وفكره الثاقب وتلك الروح النقدية العالية التي أشرنا اليها من قبل.
لقد رفض عمر بنجلون الكسل الفكري والدوغمائية وكل أشكال التحجر والنزعات التحريفية والانتهازية بمختلف تلاوينها، ولم تكن ديناميكيته النضالية والعملية في ساحة المعركة، سوى تعبير عن ديناميكية فكرية وعقلية متحررة من كل القيود التي تقف حاجزا أمام انطلاق الفكر الإنساني في رحاب الإبداع والخلق والتجديد.
فالشهيد عمر بنجلون دائم المراجعة والتساؤل، والنقد والنقد الذاتي والتأمل والتقييم، فلا غرابة فهو الذي سيوجه أصبع الاتهام في زمن مبكر للبيروقراطية داخل الاتحاد المغربي للشغل بحيث سينبه العمال والنقابين لمخاطر البيروقراطية كما قدر بشكل كبير دورها التخريبي في صفوف الحركة النقابية سواء على مستوى نضاليتها وتنظيمها وارتباطها بالحركة السياسية التقدمية وعلى مستوى المكاسب والمنجزات التي تحققت وهذا ما أكدته الأحداث فيما بعد.
كما أن الشهيد هو الذي سيكتشف ويلامس عن قرب الخلل التنظيمي والايديولوجي داخل الحزب، هكذا سيصدر في أوسط الستينات تلك الوثيقة الهامة سنة 1965 التي أصبحت معروفة في وسط المناضلين بالمذكرة التنظيمية والتي اتجهت أساسا الي نقد عيوب التنظيم الحزبي وأساليبه الموروثة عن الحركة الوطنية ونقده لتلك الأساليب المرحلية والإستراتيجية للحزب من جهة، ولكون التنظيم هو تلك الأداة والوسيلة لتحقيق تلك الأهداف والغايات من جهة أخرى. ولقد انطلق الشهيد في نقده لتلك العيوب من التجارب التنظيمية السابقة بعد تشخصيها وتبيان هشاشتها موضحا أهمية عنصر التنظيم في المعركة من أجل التغيير.كما عالج الإشكالية التنظيمية على أسس عملية وثورية مستلهما التجارب الثورية للشعوب والظروف الخاصة محاولا الإجابة عل العديد من القضايا التي تشكل حجر الزاوية في المسألة التنظيمية.
عمر الوضوح الفكري والتأسيس النظري للمشروع اليساري
ولقد اكتست محاولته تلك طابعا عمليا ودقيقا نظرا لابتعاده عن التعميم ولمعالجته للقضايا التنظيمية بواقعية وبأفق ثوري يستهدف البناء والتجديد. وهو بذلك كان يضع الصرح التنظيمي لانطلاقة جديدة سوف تتدعم بإعطاء الأهمية للمسألة الايديولوجية التي عمل الشهيد على إخراجها من دائرة الغموض والتهميش والتذبذب. بحيث سيدشن معركة صاخبة داخل الحزب أساسها الوضوح الايديولوجي القائم على أساس الاشتراكية العلمية وأسسها الفلسفة والعلمية. ولقد عمل الشهيد على تجدير هذا الاختيار ونشره في صفوف الحزب وتمكين المناضلين من استيعابه وتمثله في الممارسة والتحليل بهذا القدر أو ذلك، عبر حلقات التكوين والتأطير الايديولوجي بأساليب مختلفة وصولا إلى إقراره في المؤتمر الاستثنائي وإعطاء الحق للمناضلين للدفاع عنه، ومصارعة كل أشكال الميوعة الفكرية والتخبط الايديولوجي.
وإعطاء الأهمية من طرف الشهيد للمسألة التنظيمية والايديولوجية داخل الحزب كان نابعا من وعيه الثاقب والاستراتيجي، بمكامن الضعف والخلل في التجربة الحزبية وبعناصر القوة والصلابة التي يجب ضمانها داخل الحزب لتحقيق النصر في معركة التغيير ولمواجهة كل أشكال التحريف والانتهازية في المسيرة النضالية.
فعمر بنجلون كان ينظر للحاضر بعين المستقبل. وبنفس المنهج والروح النقدية سيعالج قضايا عديدة سواء تلك التي تتصل بالجانب الفكري والنظري أو المرتبطة بالواقع المغربي أوما يطرحه العمل النضالي والتنظيمي اليومي.
وسيواصل عمر بنجلون مقاربته النقدية لكل القضايا والمواضيع بهذا النفس وبهذه النظرة المتميزة والفريدة بدءا من قضية الاستعمار الجديد وأساليبه وخططه وأشكال سيطرته الاقتصادية والسياسية والثقافية والتكنولوجية. وإشكالية التخلف وأبعادها وحقيقتها الفعلية، والثورة الوطنية الديمقراطية على ضوء واقعنا الخاص. والتشكيلة الاقتصادية والاجتماعية وموقع الدولة وطبيعتها الخاصة. ودورها في البناء الطبقي وفي التجربة المغربية وقضية التراث العربي الإسلامي وموقعه في معركة التغير والبناء والتقدم والقضية الفلسطينية باعتبارها قضية تحرر وصراع ضد الامبريالية والصهيونية والرجعية. تم مسألة التطبيق الاشتراكي في بلدان أوروبا الشرقية والاتحاد السوفياتي حيث استطاع عمر بعقله الفذ وفكره الثاقب أن يميز منذ سنوات وبشكل مبكر بين مبادئ الاشتراكية العلمية وأدوات التحليل العلمي ومسألة الاشتراكية كما هي في الواقع الفعلي والمشخص في بعض التجارب.. حيث رفض بقوة اعتبار تلك التجارب كما يقول “الحقيقة العامة المطلقة في حين أنها في الحقيقة والواقع تجارب مرتبطة ليس فقط بفترات تاريخية معينة ومعطيات اقتصادية اجتماعية خاصة، بل أيضا باختيارات ذاتية تمليها المصالح الوطنية الخاصة “.
لقد كان عمر عدوا لذودا للجمود العقائدي والوصفات الجاهزة، لأن ذلك في وعيه حكم على العقل الخاص بالشلل والجمود ونفي للذات وللواقع بمعطياته الخاصة وعناصره المتميزة وصيرورته التي تستدعي الكشف والمقاربة والاستحضار في لحظة الفعل النضالي والبناء النظري وفي رسم الخط السياسي والنضالي للحركة.
لقد احتفظ عمر بنجلون بهذه الصفة طول حياته الفكرية والنضالية وظلت متلازمة مع صفة الصلابة والإصرار والتفاؤل وقوة الإرادة واستطاع بذكائه وقوته ومكانته أن يغرس هاتين الصفتين الثوريتين في أحشاء الحزب وفي وسط المناضلين المخلصين بحيث تحولتا إلى سلاح في يدهم لمواجهة المحن والمؤامرات وفي التصدي للمهام النضالية والتاريخية بإصرار وبإرادة فولاذية وبوعي نقدي وعقل متقد وفكر ثوري.