الثقافة

رواية:” 10 دقائق و 38 ثانية في هذا العالم الغريب ” لأليف شافاك

 جواد المومني

كعادتها؛‭ ‬تختار‭ ‬الروائية‭ ‬التركية‭ ‬الأديبة‭ ‬أليف‭ ‬شافاك‭ ‬عوالم‭ ‬اشتغالها‭ ‬من‭ ‬اليومي‭ ‬البسيط‭ ‬و‭ ‬المعيش‭ ‬المركب،‭ ‬و‭ ‬تركز‭ ‬على‭ ‬أحداث‭ ‬تتخللها‭ ‬أدق‭ ‬التفاصيل‭ ‬و‭ ‬الجزئيات،‭ ‬حتى‭ ‬تلك‭ ‬التي‭ ‬يمكن‭ ‬أن‭ ‬نعتبرها‭ ‬نحن‭ ‬غير‭ ‬ذات‭ ‬جدوى‭ ‬و‭ ‬فائدة‭. ‬و‭ ‬لعل‭ ‬سعة‭ ‬اطلاعها‭ ‬على‭ ‬الآداب‭ ‬العالمية‭ ‬و‭ ‬الثقافات‭ ‬الكونية‭ ‬المختلفة،‭ ‬و‭ ‬كذا‭ ‬تجربتها‭ ‬الواسعة،‭ ‬جعلت‭ ‬غالبية‭ ‬رواياتها‭ ‬تحظى‭ ‬باهتمام‭ ‬المتلقين‭ ‬من‭ ‬قراء‭ ‬و‭ ‬نقاد‭ ‬و‭ ‬مترجمين‭.‬

و‭ ‬تأتي‭ ‬روايتها‭ ‬الأخيرة‭:”   ‬10‭ ‬دقائق‭ ‬و‭ ‬38‭ ‬ثانية‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬العالم‭ ‬الغريب‭ ” (‬1‭) ‬و‭ ‬التي‭ ‬أنجز‭ ‬ترجمتها‭ ‬عن‭ ‬الإنجليزية،‭ ‬بكل‭ ‬اقتدار‭ ‬إلى‭ ‬العربية‭: ‬الدكتور‭ ‬محمد‭ ‬درويش‭ (‬2‭) ‬لتدق‭ ‬عبرها‭ ‬أبواب‭ ‬المقصيين‭ ‬و‭ ‬المهمشين،‭ ‬أو‭ ‬أولئك‭ ‬الذين‭ ‬و‭ ‬اللواتي‭ ‬يسري‭ ‬عليهم‭ ‬نعت‭ ‬الأقليات‭ !!‬

لكن‭ ‬قبل‭ ‬التطرق‭ ‬لذلك،‭ ‬لابد‭ ‬من‭ ‬التوقف‭ ‬عند‭ ‬فكرة‭ ‬العمل‭ ‬الروائي‭ ‬التي‭ ‬انبنى‭ ‬عليها‭ ‬النسق‭ ‬السردي؛‭ ‬إذ‭ ‬أن‭ ‬الكاتبة‭ ‬التقطت‭ ‬إحدى‭ ‬نتائج‭ ‬البحوث‭ ‬العلمية‭ ‬الدقيقة‭ ‬الأخيرة،‭ ‬حول‭ ‬الكائن‭ ‬البشري‭ ‬كجسد‭ ‬حي‭ ‬متفاعل،‭ ‬و‭ ‬كجثة‭ ‬منقضية‭ ‬منتهية‭ ‬لكنها‭ ” ‬حية‭ ” ‬أيضا‭ ‬لفترة‭ ‬زمنية‭ ‬محددة‭ !! (‬3‭) ‬حيث‭ ‬أكدت‭ ‬أن‭ ” ‬هناك‭ ‬نشاطا‭ ‬عقليا‭ ‬دؤوبا‭ ‬لدى‭ ‬الأشخاص‭ ‬الميتين‭ ‬لبضع‭ ‬دقائق،‭ ‬و‭ ‬في‭ ‬حالات‭ ‬أخرى‭ ‬لعشر‭ ‬دقائق‭.” (‬4‭) ‬كما‭ ‬أن‭ ” ‬أكثر‭ ‬من‭ ‬ألف‭ ‬جِينَة‭ ‬قد‭ ‬واصلت‭ ‬أداء‭ ‬وظائفها‭ ‬داخل‭ ‬الجثث‭ ‬بعد‭ ‬أيام‭ ‬من‭ ‬إعلان‭ ‬الوفاة‭.” (‬5‭)‬

و‭ ‬ستبتدئ‭ ‬الرواية‭ ‬بحادثة‭ ‬مقتل‭ ( ‬ليلى‭ ‬تيكيلا‭ ) ‬الشخصية‭ ‬الرئيسية؛‭ ‬ليتم‭ ‬تقسيم‭ ‬العمل‭ ‬بعدها‭ ‬إلى‭ ‬ثلاثة‭ ‬أجزاء‭: ‬العقل،‭ ‬الجسد‭ ‬ثم‭ ‬الروح‭. ‬و‭ ‬يتضح‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬الحكي‭ ‬أن‭ ‬جثة‭ ‬ليلى‭ ” ‬تِيكِيلَا‭ ” ‬لازالت‭ ‬محتفظة‭ ‬في‭ (‬عقلها‭) ‬بعلاقات‭ ‬و‭ ‬أحداث‭ ‬و‭ ‬تواريخ؛‭ ‬هي‭ ‬مسرى‭ ‬و‭ ‬مسار‭ ‬الرواية،‭ ‬إلى‭ ‬أن‭ ‬تنتهي‭ ‬ال‭ ( ‬العشر‭ ‬دقائق‭ ‬و‭ ‬38‭ ‬ثانية‭ ) ‬لتمر‭ ‬إثر‭ ‬ذلك‭ ‬إلى‭ ‬مشرحة‭ ‬الطبيب‭ ‬الشرعي‭ ‬و‭ ‬أخيرا‭ ‬لتسافر‭ ‬عبر‭ ‬روحها‭ ‬صوب‭ ‬أماكن‭ ‬كانت‭ ‬تتوق‭ ‬إليها‭ ‬حيث‭ ‬تنتهي،‭ ‬و‭ ‬حيث‭ ‬تجد‭ ‬راحتها‭ ‬الأبدية‭ (‬6‭)‬

و‭ ‬بالعودة‭ ‬إلى‭ ‬ثنايا‭ ‬النص،‭ ‬يبدو‭ ‬اشتغال‭ ‬الروائية‭ ‬و‭ ‬باقتدار‭ ‬كبير‭ ‬على‭ ‬توليفة‭ ‬غنية‭ ‬و‭ ‬ثرية‭ ‬جدا‭ ‬لِمَا‭ ‬أسميتُه‭ ‬سلفا‭ ‬بالأقليات‭. ‬إذ‭ ‬اتخذ‭ ‬ذلك‭ ‬صورا‭ ‬كثيرة‭ ‬و‭ ‬متعددة،‭ ‬أذكر‭ ‬منها‭: ‬حياة‭ ‬العاهرات‭ ‬و‭ ‬يوميات‭ ‬المواخير‭  ‬كعلاقات‭ ‬اجتماعية،‭ ‬زنا‭ ‬المحارم‭ ‬كواقع،‭ ‬التطرف‭ ‬الديني‭ ‬و‭ ‬العنف‭ ‬العقدي‭ ‬المتبادل،‭ ‬المتحولين‭ ‬جنسيا‭ ‬و‭ ‬نظرة‭ ‬الآخر،‭ ‬العرقية‭ ‬و‭ ‬العنصرية‭ ‬بشتى‭ ‬تمظهراتهما،‭ ‬الهشاشة‭ ‬العاطفية‭ ‬و‭ ‬رؤية‭ ‬المجتمع‭ ‬لها،‭ ‬الضعاف‭ ‬جسديا‭ ‬أو‭ ‬الأقزام‭ ‬فيزيولوجيا‭ ‬و‭ ‬مفهوم‭ ‬القوة،‭ ‬اليزيديين‭ ‬كعرق‭ ‬بشري‭ ‬منبوذ،‭ ‬الحدود‭ ‬الجغرافية‭ ‬بين‭ ‬الشعوب‭ ‬و‭ ‬تأثيراتها‭ ‬على‭ ‬أساليب‭ ‬العيش‭ …‬

لقد‭ ‬حاول‭ ‬النص‭ ‬الروائي‭ ‬تفكيك‭ ‬حواجز‭ ” ‬الآخر‭ ” ‬مع‭ ‬الاشتغال‭ ‬القَيِّم‭ ‬على‭ ‬الانعكاسات‭ ‬النفسية‭ ‬التي‭ ‬تخلفها‭ ‬آثار‭ ‬هذه‭ ‬النظرة‭ (‬الأخرى‭)‬،‭ ‬و‭ ‬التي‭ ‬ترى‭ ‬فيه‭ ‬ذلك‭ ‬الشخص‭ ‬المَعِيب‭ ‬الغريب،‭ ‬المَقصيَّ،‭ ‬المنبوذ،‭ ‬المنفي،‭ ‬المغضوب‭ ‬عليه‭ ‬أو‭ ‬حتى‭ ‬الملعون‭. ‬فهو‭ ” ‬الآخر‭ ” ‬غير‭ ‬المرغوب‭ ‬فيه‭ ‬و‭ ‬لا‭ ‬في‭ ‬معاشرته‭ ‬أو‭ ‬مجاورته،‭ ‬و‭ ‬ربما‭ (‬موته‭/‬عدمه‭) ‬خير‭ ‬من‭ (‬حياته‭/‬وجوده‭) !!‬

من‭ ‬ثمة،‭ ‬سافرت‭ ‬بنا‭ ‬أحداث‭ ‬الرواية‭ ‬عبر‭ ‬صفحاتها‭ ‬إلى‭ ‬إشكالية‭ ‬الانتماء‭ ‬التي‭ ‬قد‭ ‬تُهدد‭ ‬و‭ ‬قد‭ ‬تدمر‭ ‬و‭ ‬قد‭  ‬تهدم‭ ” ‬رغم‭ ‬أننا‭ ‬جميعنا‭ ‬في‭ ‬حاجة‭ ‬إلى‭ ‬أحلام‭ ” (‬7‭) ‬توحدنا‭ … ‬حسب‭ ‬الكاتبة‭ ‬نفسها،‭ ‬فلا‭ ‬حواجز‭ ‬لها‭ ‬أنى‭ ‬كان‭ ‬لونها‭: ‬عرقية‭ ‬أم‭ ‬قومية،‭ ‬جنسانية‭ ‬أم‭ ‬جغرافية‭ ‬أم‭ ‬روحية‭ !! ‬و‭ ‬ملامح‭ ‬الانتماء؛‭ ‬غالبا‭ ‬ما‭ ‬تكون‭ ‬إلى‭ ‬الأماكن،‭ ‬و‭ ‬الأفعال‭. ‬هذا‭ ‬الشعور‭ ‬الجِينيُّ‭ ‬الذي‭ ‬عبْره‭ ‬تختل‭ ‬العناصر‭ ‬الكيميائية‭ ‬من‭ ‬شعب

فرد‭/‬قوم‭… ‬إلى‭ ‬آخر؛‭ ‬لأنه‭ ‬بمفعوله‭ ‬السحري،‭ ‬سيتغير‭ ‬العالم‭. ‬و‭ ‬كما‭ ‬عبرت‭ ‬عن‭ ‬الاحساس‭ ‬أليف‭ ‬شافاك‭ ‬في‭ ‬الرواية‭ ‬نفسها‭ ‬قائلة‭: ” ‬في‭ ‬صحراء‭ ‬الحياة،‭ ‬الحمقى‭ ‬فقط‭ ‬من‭ ‬يسافرون‭ ‬وحدهم‭.” (‬8‭)‬ 

1 ‭ – ‬رواية‭ ( ‬10‭ ‬دقائق‭ ‬و‭ ‬38‭ ‬ثانية‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬العالم‭ ‬الغريب‭ ) ‬أليف‭ ‬شافاك؛‭ ‬ترجمة‭ ‬محمد‭ ‬درويش‭ ‬ط‭ ‬1‭ ‬دار‭ ‬الآداب‭ ‬بيروت‭ ‬لبنان‭ ‬2020‭.‬

2 ‭ – ‬الدكتور‭ ‬محمد‭ ‬درويش‭ ‬خبير‭ ‬عراقي‭ ‬في‭ ‬الترجمة؛‭ ‬تعامَلَ‭ ‬مع‭ ‬أليف‭ ‬شافاك‭ ‬في‭ ‬معظم‭ ‬رواياتها‭: ‬بنات‭ ‬حواء‭ ‬الثلاث؛‭ ‬حليب‭ ‬أسود؛‭ ‬قصر‭ ‬الحلوى؛‭ ‬الفتى‭ ‬المتيم‭ ‬و‭ ‬المعلم؛‭ ‬شرف؛‭ ‬قواعد‭ ‬العشق‭ ‬الأربعون؛‭ ‬لقيطة‭ ‬إسطنبول‭.‬

3 ‭ – ‬هذه‭ ‬الدراسة‭ ‬و‭ ‬هذه‭ ‬البحوث‭ ‬العلمية‭ ‬أُجريَت‭ ‬في‭ ‬معهد‭ ‬برشلونة‭ ‬للعلوم‭ ‬و‭ ‬التكنولوجيا‭ ‬بإسبانيا‭ ‬سنة‭ ‬2018

4 ‭ – ‬ص‭ ‬288‭ ‬من‭ ‬الرواية‭.‬

5 ‭ – ‬ص‭ ‬288‭ ‬من‭ ‬الرواية‭.‬

6 ‭ – ‬ستنتهي‭ ‬روحُها‭ ‬في‭ ‬الماء،‭ ‬ماء‭ ‬النهر،‭ ‬حيث‭ ‬ستتحول‭ ‬إلى‭ ‬سمكة‭ ” ‬البِيتَا‭ ‬الزرقاء‭” ‬أو‭ ‬كما‭ ‬تسمى‭: ‬المُقاتلة‭ ‬سِيامِي‭.‬

7 ‭ – ‬ص‭ ‬178‭ ‬من‭ ‬الرواية‭.‬

8 ‭ – ‬ص‭ ‬200‭ ‬من‭ ‬الرواية‭.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى