العقل العربي بين الحضور والغياب
صالح لبريني
إن وجود الإنسان مرتبط بفاعليته في بناء نسق معرفي؛ تتداخل فيه معطيات الواقع بحمولاتها المشرَعة على المجالات كافّة، والخلفيات الإيديولوجية التي تشكّل الآلية السائدة في النظر إلى تشكّل هذه الآصرة التفاعلية بين الفكر والواقع. هذا النسق المعرفي ماهو إلا نتاج للبيئة الحاضنة ونهجها منهج التفكير والتّأمل كمداخل أساسية للوعي بالواقع وفهمه الفهم العقلاني المتبصر والمتدبّر، ولا حاجة لنا إلى العودة للتاريخ الإنساني لاستقصاء ما فعله الإنسان على هذه الأرض من ممارسات تجسّد وجوده الفاعل والمنفعل والمتفاعل مع الطبيعة، على اعتبار أن العقل والطبيعة كل واحد، لا انفصام بينهما إلا في أذهان من لم يفهموا هذه الحقيقة. من هذا المنطلق تكمن أهمية العقل في استجلاء حقيقة العماء الكوني أو “chaos” الذي يظل في أمس الاكتشاف والحفر في مناطقه المجهولة، وفي قدرته على فهم الطبيعة ونظامها، وفي هذا السياق نشير إلى أن “القوة الناطقة” بلغة القدماء وسيلة لبنينة الحد الفاصل ما بين الحيواني والإنساني. وكينونة الفرد لا تتحقق بتغليب جانب على آخر، بل بالعمل على تحقيق الاتحاد والوحدة بين العقل والروح، فبهما تتم القوة الإنجازية المتمثلة في تشكيل الرؤية الجديرة بامتلاك قوة التفكير والتمكّن من تدبير العلاقة بين الواقع والفكر حتى يقوما بدورهما في نتاج منظومة ثقافية تكرّس العقلي على الهووي (من الأهواء) الذي ينتمي إلى ماهو غريزي، وهنا مكمن المفارقة بين العقل واللاعقل، فبالعقل نصل إلى اليقين انطلاقا من الشك، في حين اللاعقل يقوم بعملية التضليل والحكم على الإنسان بالإقامة في اللايقين، وتلك معضلة من معضلات الإنسان في الوجود.
إن أهمية العقل لا تتحدد في البناء ولكن تتجلى في تحويل الإيديولوجيات في خدمة الموجود/ الكائن لا في جعله عبدا مقيدا بها وسجينا لها، خصوصا وأنها عبارة عن أنساق من المفاهيم والمعتقدات تشكّل عائقا أمام العقل لأداء وظيفته وتكبيله بمتاريس التبعية والاجترار، كما تضرب عرض الحائط أصل الكائن المتجسد في الحرية التي تكتسب من تحرر العقل من هذه المنظومات، كما أن فاعليته مرتبطة بتجرّده منها والانفصال عنها بعيدا عن كل شوفينية منغلقة.
من هذا المنطلق يمكن القول إن العقل العربي، عبر مراحله التاريخية والحضارية، ظلّ رهين واقع موسوم بهيمنة الفكر الأحادي والنظرة الضيّقة للذات باعتبارها وجودا مفكرا، وللقضايا باعتبارها موجودا مفكّرا فيها، الأمر الذي أدى إلى تقزيم الخيال ومن تمّ تهميش العقل، والأكثر من هذا ممارسة القتل في حقه في التدبّر والتبصّر في وجود مفتوح على الاحتمال والالتباس، وبالعودة إلى التاريخ العربي نعثر على العاطفة الآلية الذائعة في المقاربة والتحليل، في النقد والانتقاد، في إثارة الفوضى وتحجيم دور الإنسان في تغيير الواقع والحكم عليه بالقصور، وفي أحايين كثيرة بالحجر عليه، وهنا مكمن المحنة الوجودية التي عاشها ويعيشها هذا العقل المنذور للتغييب حتى لا يؤدي الدور المنوط به. ولاشك أن المعاناة والمكابدة ملازمة وقائمة الذات للعقل العربي، منذ قرون مضت، فالعقل الجاهلي كان سجين الحمية القبلية، ولم تكن له القدرة الخروج عن نمط القبيلة، والمتمرد عنه مصيره المطاردة والنفي، وما تجربة العقل الصعلوكي إلا صورة حية تثبت أن سلطة القبيلة هي السائدة والفاعلة في النسق الاجتماعي والسياسي والثقافي والاقتصادي، وعند الانتقال إلى العقل الإسلامي نجده عقلا خاضعا لسلطة النص القرآني ولا يمكنه التفكير خارج هذا النطاق، فالسمة الفقهية لسان هذا الواقع، فكان الصراع على أشده بين العقل النقلي والعقل العقلي، ليبلغ مداه بين الإخوة الأعداء، السنة والمعتزلة، الذين مارسوا الإقصاء على بعضهم البعض، لأن الهاجس المتحكم هو السلطة فقط. ورغم ما عرفته الحضارة العربية الإسلامية من الانفتاح والتثاقف والحوار مع الحضارات الأخرى، فإن العقل العربي استمر في سكونيته وجموديته بسبب المقاومة الشرسة والضارية من لدن أهل النقل والتقليد، مما عرّض الكثير من المفكرين والأدباء والشعراء للمحاكمات والاعتقالات والاغتيالات، مما يثبت أن سلطة التحكم هي الشائعة في منظومة الحكام وفقهاء الدين الذين سلطوا سيوفهم باسم الله على رقاب العقل العربي المفكر والحالم بإقامة دولة تؤمن بالاختلاف وتنبذ الائتلاف.
إن الثابت في الثقافة العربية ظاهر أبدي لكون” بنية العقل العربي” قائمة على الاستنساخ والاجترار، كابحة جموح الخيال كي لا يرتاد الآفاق البعيدة، بل هي بنية معطوبة تحتاج إلى إعادة النظر بالترميم والمعالجة وتجاوز ما يثبط رغبة العقل في الإبداع والابتكار والخَلْق، فطبيعة الإنسان أن يتحرر من كل الأغلال والقيود التي تقيّد إرادته وتحدّ من التفكير في العوالم المشعة بضوء الفكر والحياة. بينما المتحوّل هو آخر ما يفكر فيه الإنسان العربي، لما يحملها من دلالات وأبعاد تتجلى في قدرته على التمرّد والعصيان المعقلن طبعا، والبحث عن الجديد والسعي نحو التجديد في كل مجالات الحياة. والتحول ضد التقليد والجهل، ضد التسطيح والثبات، ضد كل ما من شأنه أن يعيق اندفاعات صوب المستقبل. إن العقل الاجتراري قتلٌ للنور وتصفية للحلم، وكافر بالاجتهاد وجاحد بالابتكار والإبداع. مما يدفعنا إلى التأمّل في محنة المفكر المختلف الطارح لطروحات تبتغي تجاوز الكائن باقتراح الممكن، لنرى حجم العذاب الذي يتعرض له داخل المجتمع التقليدي، وما محنة ابن رشد والتوحيدي وغيرهما في الماضي، واغتيال حسين مروة وما تعرض له نجيب محفوظ من محاولة اغتياله ومحنة نصر حامد أبوزيد ومحمد أركون وأدونيس ومحمد عابد الجابري وغيرهم في الحاضر، والمنع الذي يطال الإبداع المختلف والمجدّد من تضييق ومحاربة، والاعتقالات التي كان ضحيتها الكثير من المثقفين والمفكرين والمبدعين العرب، سببه السلطة التقليدية بتجلياتها المختلفة والتي ترفض كل من ينتقد العقل النقلي ومن تحاول إنارة الطريق المدلهم في الحياة العربية؛ وهنا مكمن أعطاب المجتمع العربي.
إن رفض المجتمع العربي للعقل المختلف والناقد ناجم عن نسق الثقافة العربية التقليدي، والذي تحكمه رؤية للذات باعتبارها قاصرة، ليس لها الحق في التعبير عن كينونتها بعيدا عن سلطة المجتمع، ووجودها متعلّق بالجماعة، الأمر الذي انعكس عليها في أن تكون مبادرة، وللعالم كمجال مفتوح على الأسئلة، لكن نسق العقل العربي يحوّله إلى فضاء مغلق جراء امتلاكه الأجوبة، وفي سياق هذا الواقع من الصعب، بل من المستحيل أن يكون لعقل المثقف والمفكر والفيلسوف والنقاد مقام داخل منظومة اجتماعية تهمّش العقل وتنتصر للنقل.
لكن، وفي هذه اللحظة التاريخية المعاصرة، حيث العالَم يشهد تراجعات وارتكاسات على كافة المستويات المرتبطة بالممارسة الحقوقية والإنسانية، يوجد العقل في حالة غيبوبة داخل نظام رأسمالي مستبد، وعولمة كاسحة وجارفة لكل شيء، بل يمكن القول إن العقل في استقالة تامة عن مشاكسة ما يجري من تغيرات رهيبة، أفقدت الإنسان إنسانيته، وتلاشت كينونته بفعل الطغيان المهول والمرعب للماديات.
هذا الوضع الكارثي الذي تمرّ منه الإنسانية يستدعي ضرورة عودة العقل إلى وظيفته الكامنة في التفكير والتدبّر في هذا المصير الملغوم والمحيّر الذي ينتظر الإنسان، وذلك لإنقاذ المعنوي فيه من هلاك منتظَر ونهاية مأسوف عليها. ومن تمّ فالعقل العربي في أمس الحاجة إلى الاستيقاظ من عطالته الراهنة حتى يؤدي عمله داخل المجتمع عبر نفض الغبار عنه لمواجهة الأسئلة المقلقة والمحيرة التي تطرحها الحضارة المعاصرة.