إلى أين نسير ؟
افتتاحية العدد 309
في مرحلة مطبوعة بسياق دولي مضطرب يحمل مخاطر كبيرة وتحديات “جسيمة”، يكاد يكون هناك إجماع، لدى مكونات المجتمع المغربي، على أن أوضاع بلادنا ليست على ما يرام. فمنذ أكثر من سنة، أعلنت أعلى سلطة في البلاد، فشل النموذج التنموي، بسبب ضعف نسبة النمو الاقتصادي وتعمق الاختلالات الاجتماعية والجهوية بشكل غير مسبوق؛ رغم الأموال الطائلة التي تم ضخها في ما يسمى بالمشاريع المهيكلة والمبادرة الوطنية للتنمية البشرية. وليس صدفة، أن الاحتجاجات الجماهيرية انطلقت واستمرت لشهور في المناطق التي تعاني الإقصاء والتهميش وخصاصا هائلا في جميع المرافق الاجتماعية، وخاصة، في مجالات التشغيل والعلاج والتعليم…
إن مطالبة الفاعلين الاقتصاديين والسياسيين بالإسهام في تحديد تصور نموذج تنموي جديد، تنطوي على مناورة كبرى، في الوقت الذي نلاحظ فيه إصرار الدولة، وبعناد مخزني ضيق الأفق، على تجاهل إنتظارات ومطالب الأغلبية الساحقة من الشعب المغربي، في الديمقراطية والكرامة والعدالة الاجتماعية، بدعوى الحفاظ على هيبتها وعلى التوازنات الماكرو اقتصادية خضوعا لإملاءات المؤسسات المالية الدولية.
إن المغرب في حاجة فعلا ومنذ سنوات، إلى نموذج تنموي يقوم على رفع الإنتاجية والتنافسية والعدالة في توزيع الثروة الوطنية. طبعا، بلورة هذا النموذج لا يمكن أن تتحقق خارج نقاش عمومي ديمقراطي تساهم فيه جميع فعاليات المجتمع؛ وهذا يتطلب حتما توفر شروط، أهمها:
– خلق مناخ عام إيجابي يعيد الأمل للشباب والثقة في المؤسسات، ويحفز على الاستثمار وتعبئة الموارد والطاقات المادية والبشرية التي تزخر بها بلادنا، من خلال إصلاح سياسي ومؤسساتي، يضع حدا للدوران العبثي في الحلقة المفرغة للتخلف السياسي، المجسدة في طبيعة نظام سياسي هجين، يجمع بين ديمقراطية شكلية ومزيفة واستبداد “ناعم” مقارنة بالاستبداد الشرقي. إن الاستمرار في هندسة خريطة سياسية مفبركة لا علاقة لها بالواقع السياسي الحقيقي، لمنع القوى الحية في المجتمع من الوصول إلى المؤسسات ومحاصرتها سياسيا وإعلاميا ودعم لوبيات الريع والفساد وشراء النخب ورشوتها ومخزنة الأحزاب الوطنية، كل هذا لن يقود البلاد إلا إلى المجهول وتعميق اليأس والاختلالات الاجتماعية والجهوية.
-إن بلورة نموذج تنموي مستدام، يتطلب أيضا، صياغة إستراتيجية شاملة وشمولية للتنمية الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والبيئية، كفيلة ببناء اقتصادي قوي ومندمج بفضل التفاعل الخلاق بين القطاعات الثلاث العام والخاص والتعاوني، والتكامل بين الفلاحة والصناعة والخدمات كما هو الحال في الاقتصادات المتقدمة والصاعدة. إن توسيع السوق الوطنية الذي يدعم الطلب الداخلي والذي يشكل الرافعة الأساسية للنمو الاقتصادي، يقتضي، إنصاف المأجورين وذوي الدخل المحدود وإقرار نظام ضريبي عادل ومنصف لتعبئة موارد مالية إضافية للدولة، ووضع حد للامتيازات الجبائية والتهرب الضريبي.
– وفي نفس السياق تتطلب مواكبة الثورة الرقمية والتحولات التكنولوجية السريعة، تكوين وتأهيل الرأسمال البشري الذي بدونه لا يمكن تحقيق أية نهضة حقيقية، فبدون دعم البحث العلمي والتقني وبدون تبسيط آليات وتكلفة الانتقال من الاقتصاد غير المهيكل الذي تضخم بشكل مهول إلى الاقتصاد المنظم والمهيكل ستبقى الدورة الاقتصادية تعاني من الاختناقات القاتلة وهدر الموارد الطبيعية والبشرية مهما رصد من أمال طائلة لما يسمى بالمبادرة الوطنية للتنمية البشرية بدليل الترتيب المخجل للمغرب في السلم الدولي الخاص بهذه التنمية (الرتبة 123 !) رغم مرور 14 سنة على انطلاقها.
– إن الدعوة لخلق طبقة وسطى فلاحية (أو قروية) بالإضافة لكونها رهان غير قابل للتحقق في ظل الاختيارات الطبقية المفروضة على شعبنا، فإنها، تتناقض مع ما تتعرض له الطبقة الوسطى المدينية من ضربات متوالية لقدراتها الشرائية ومكانتها الاجتماعية بدليل خروج كل مكوناتها تقريبا للاحتجاج في الشارع العمومي من أطباء وصيادلة ومحامون ونساء ورجال التعليم وتجار صغار ومتوسطين. فبالإضافة للضغط الضريبي تضطر فئات وشرائح من هذه الطبقة إلى اللجوء للتعليم الخاص لتعليم أبنائها والمصحات الخاصة لعلاج مرضاها وإرهاق كاهلها بالديون لشراء وسيلة للتنقل بسبب إفلاس المرافق العمومية من صحة وتعليم ونقل….الخ
– وأخيرا لا بد من التذكير بالشروط (الإجراءات) الأولية التي لا تتطلب غير توفر الإرادة السياسية للإصلاح والتغيير مثل إطلاق سراح كافة المعتقلين على خلفية الاحتجاجات الاجتماعية ووقف التراجعات الحقوقية وصيانة الحريات العامة وحقوق الإنسان، ومحاربة فعلية للفساد بكل أنواعه بواسطة قضاء مستقل ونزيه يعيد الاعتبار للعدالة بكافة أبعادها القانونية والاقتصادية والاجتماعية والمجالية.
إن المجتمع مثل جسم الإنسان ترتبط كل أعضائه ومكوناته بعضها ببعض وتؤثر صحة بعضها على الباقي، أي لا يمكن إصلاح ميدان وتأهيله دون باقي الميادين الأخرى.