بعد 50 سنة على انتفاضة الطلاب الجماهير الفرنسية تنتفض
حراك السترات الصفراء، حراك اجتماعي، ابتدأ في أكتوبر 2018 بفرنسا بعد العديد من النداءات بمواقع التواصل الاجتماعي من أجل التظاهر.
في البداية كان المطلب الأساسي، هو رفض ارتفاع الضريبة الداخلية على استهلاك المنتوجات الطاقية، ثم توسعت دائرة المطالب تدريجيا لتشمل أخرى ضريبية واجتماعية، كالرفع من القدرة الشرائية للطبقات المتوسطة والشعبية، والحفاظ على الخدمات العمومية، وفرض ضريبة على كيروزين الطائرات، والمحروقات المستعملة في النقل البحري، وإرجاع فرض الضريبة على الثروة بالإضافة إلى مطالب سياسية كتحسين الديمقراطية التمثيلية واستقالة رئيس الجمهورية إيمانويل ماكرون.
شمل الحراك مجموعة من الأشكال الاحتجاجية، تتمحور أساسا حول عرقلة ووقف مجموعة من الطرق ومفترقات الطرق، بالإضافة إلى مظاهرات أسبوعية كل يوم سبت سميت بالمشاهد.
تميز الحراك بكونه، لقى صدى قويا في المناطق القروية والشبه حضرية، وامتد إلى بعض المدن الكبرى أيضا، وتلقى تأييدا غير مسبوق له من طرف الرأي العام الفرنسي. في المقابل قامت السلطة التنفيذية، بإنزال مكثف لقوات الأمن لقمع الاحتجاجات، بذريعة بعض أعمال العنف التي ظلت ضعيفة مقارنة مع عنف قوات الأمن التي اعتقلت العديد من المتظاهرين، وأدت إلى جرح العديد ومقتل البعض منهم. لم يستطع كل هذا إخماد الحراك مما جعل الحكومة تتنازل عن رفع الضريبة الداخلية على استهلاك المنتوجات الطاقية وأعلنت عن مجموعة من الإجراءات التي ظلت غير كافية بالنسبة للسترات الصفراء.
السياق العام وعوامل اندلاع الحراك:
إذا حللنا تطور سعر البنزين في المضخات منذ 1960 يتبين أنه في نهاية 2017 يستقر في متوسطه منذ 1960، ولكن الوضع الحقيقي إذا أخذنا بعين الاعتبار توسع المدن وتزايد العمران في الضواحي، سنلاحظ أنه أدى إلى الزيادة في استعمال العربات من طرف السكان للانتقال لمناطق العمل، أدى إلى استهلاك أكبر للمحروقات.
لقد أفضى وضع ضريبة على مكون الكربون المتواجد بالمحروقات وإدخالها بالضريبة الداخلية على استهلاك المنتوجات الطاقية منذ 2014 إلى ارتفاع سعرها بـ 23%بالنسبة للكازوال و15%بالنسبة للبنزين ما بين 2017 و2018، جاعلا فرنسا في النصف الأعلى من قائمة دول الاتحاد الأوربي التي تضع ضريبة عالية على المحروقات. وفي شتنبر 2018 أعلنت حكومة إيدوارد فيليب عزمها الزيادة من تلك الضريبة بنسبة 11,5%، لتعلن بعدها المديرية العامة للطاقة والمناخ أن هذه الضريبة ستطبق في يناير 2019 وستندرج ضمن إجراءات مماثلة ستكلف السائقين ما بين 207 و538 يورو في أفق 2022 حسب نوعية السيارة والمسافات المقطوعة. في حين حذرت اللجنة الوطنية للنقاش العمومي أن هذه الزيادة ستقابل بالرفض من طرف المواطنين، خصوصا وأنها مجحفة في حق المرتبطين باستعمال المحروقات بشكل كبير في غياب إصلاح ضريبي شامل أكثر عدلا.
لم يكن ارتفاع سعر المحروقات العامل الأساسي لاندلاع الاحتجاجات، رغم كونه الفتيل الذي أشعلها، فمنذ 2009 ومستوى العيش للأسر في فرنسا ظل في ركود كما لوحظ استياء عام من طرف الفرنسيين بسبب مستوى معيشتهم الذي أثقل بالاقتطاعات الإجبارية والضرائب والمساهمات المختلفة التي ارتفعت من 41%إلى 45%منذ أزمة 2008 إلى 2017 من الناتج الإجمالي الخام، والتي تنهك بشكل أساسي الطبقة المتوسطة، فحسب مكتب EYقامت الحكومة بإضافة 8 ضرائب مختلفة منذ تولي إيمانويل ماكرون رئاسة الجمهورية.
حسب تحقيق تم نشره في 2017 من طرف مركز البحث لدراسة وملاحظة شروط العيش، فإن ثلاثة أشخاص من أصل عشرة يحسون بأنهم يعيشون في منطقة مهمشة من طرف السياسات العمومية، ويشعرون بالإقصاء المجالي والاجتماعي وتزداد هذه النسبة أكثر في المناطق البعيدة عن التجمعات الحضرية؛ ويرجع ذلك إلى مشاكل مرتبطة بالشغل والنقل والولوج إلى العلاج. وهذا ما جعل أيضا مجموعة من الفرنسيين يحتجون منذ يوليوز الماضي على قانون الحد من السرعة في 80 كيلومتر في الساعة كسرعة قصوى في مجموعة من الطرق وهناك من يعتبر هذه الاحتجاجات أول إرهاص لاندلاع احتجاجات السترات الصفراء.
ظلت نسبة العزوف عن التصويت في ارتفاع منذ سنة 2000 لتصل إلى معدلات قياسية في ظل الجمهورية الخامسة، وهذا يظهر فقدان ثقة متزايد في الطبقة السياسية كما أشارت إليه الدراسة السنوية لـ Opinion Wayنشرت بتزامن مع حراك السترات الصفراء، والتي أظهرت مستويات تاريخية من انعدام الثقة في الفاعلين السياسيين والمؤسسات السياسية والنقابية والإعلام. حيث أن شعبية الرئيس إيمانويل ماكرون في تراجع مستمر كون خطاباته وإجراءات حكومته تظهره بعيدا عن معظم الفرنسيين، كما عرف منخرطو النقابات المهنية تناقصا مستمرا.
هذا المناخ العام كان وراء اندلاع حراك السترات الصفراء، في محاولة لتجاوز النخب سواء كانت سياسية أو نقابية.
مميزات الحراك، آليات اشتغاله وبعض الأحداث البارزة:
يتميز هذا الحراك بكون المحتجين يرتدون السترات الصفراء التي تتسم بصفة التميز البصري، والتي من الإجباري على أي مستعمل للعربات كيفما كان نوعها التوفر عليها. وتنقسم التعبيرات الاحتجاجية المتخذة من طرفهم إلى شكلين أساسيين: وقف وعرقلة مجموعة من المحاور الطرقية ومفترقاتها، خصوصا خارج المراكز، ومظاهرات وطنية كل يوم سبت سميت بالمشاهد والتي تحظى بتغطية إعلامية أكبر من الأشكال الاحتجاجية الأخرى.
ويتسم الحراك بكونه غير مهيكل، فعلى خلاف الاحتجاجات التقليدية التي تقرر وتنظم من طرف تنظيمات نقابية، نشأ حراك السترات الصفراء وتطور بالدرجة الأولى من خلال الأنترنت ومواقع التواصل الاجتماعي، وتعتبر المجموعات على الفايسبوك ومسيروها بدائل للهيكلة التقليدية. وبالرغم من ذلك فقد تميز بعض المحتجين بحصولهم على تغطية إعلامية خاصة ويعتبرون من المؤسسين لهذا الحراك مثل Éric Drouetالذي أطلق على الفايسبوك نداء التجمهر في 17 نونبر 2018 وPriscillia Ludoskyالتي أطلقت العريضة الرقمية المطالبة بخفض أسعار المحروقات والتي لقيت نجاحا باهرا، بالإضافة إلى Jacline Mouraudالتي انتشر شريطها الذي تخاطب فيه رئيس الجمهورية انتشارا كبيرا عبر الأنترنت.
خلال المشهد الأول في 17 نونبر 2018 اندلعت احتجاجات في أكثر من 3000 نقطة في فرنسا حسب وزارة الداخليةّ، وتواصلت التعبئة في الأسابيع الموالية، خاصة بالمناطق المحيطة بالمراكز، ثم تراجعت بحلول عيد الميلاد ورأس السنة لتعود من جديد للارتفاع أكثر مما سبق.
في السادس والعشرين من نونبر أعلن ثمانية أشخاص قادمين من مناطق مختلفة عن كونهم ممثلين رسميين للحراك من أجل التفاوض مع الحكومة، لكن العديد من نشطاء الحراك عبروا عن قلقهم بسبب ضعف تمثيلية الجهات والخوف من استغلاله. تم استدعاءهم في الثلاثين من نونبر من طرف الوزير الأول Edouard Phillipeمن أجل القيام بمفاوضات لكن شخصا واحدا منهم هو من حضر لتسقط على الجميع صفة تمثيل الحراك.
اتسم الحراك بأعمال عنف وتخريب قام بها بعض المحسوبين على المحتجين منذ المشهد الثاني، حيث تم إحراق بعض الحواجز، وكسر مواقف بعض الحافلات وواجهات المحلات التجارية بشارع Champs-Elysées، وفي المشهد الموالي قام البعض بأعمال تخريبية في قوس النصر. تراجع هذا العنف بسبب محتجين يرفضونه وقاموا بالتصدي له، ثم عاد ليبلغ أوجه في المشهد الثامن حيث قام بعض المحتجين باستعمال آلة تستعمل في أوراش البناء لتحطيم فناء فندق Rothelin-Charolais، وأدى ذلك إلى إخلاء كاتب الدولة والناطق الرسمي بلسان الحكومة Benjamin Griveauxالذي كان قاطنا به. في نهاية المطاف تم وضع لجان تحافظ على سلمية الاحتجاجات وتوقيف كل من يبادر إلى ممارسة العنف ابتداء من 12 يناير 2019 بعدما تم رفض مساعدة النقابات في هذا المجال.
من جهة أخرى قامت قوات الأمن العمومي بتعنيف المتظاهرين والصحفيين، مما أدى إلى إصابات خطيرة. ففي 21 يناير 2019 ورد في جريدة Libération أن عدد الإصابات وصل إلى 109، أصيبوا بجروح خطيرة في صفوف السترات الصفراء والصحافيين. وكشفت منظمة العفو الدولية في تقرير صدر لها بتاريخ 14 دجنبر 2018 عن استعمال مفرط للقوة ضد المحتجين المسالمين وتفتيشات واعتقالات تعسفية، بالإضافة إلى الشروط اللاإنسانية التي استدعي فيها 148 تلميذا في المستوى الثانوي، حيث تم تكبيلهم وتركيعهم لمدة ساعات في 3 دجنبر 2018 بـ Mantes-la-Jolie. وفي بداية فبراير 2019 فتحت المفتشية العامة للشرطة الوطنية 116 تحقيقا بعد شكايات عديدة من طرف المحتجين، رغم إنكار وزير الداخلية الفرنسي Christophe Castanerأي عنف وارد من طرف قوات الأمن.
أما بالنسبة لعدد المحتجين، الذين يخرجون في التظاهرات كل يوم سبت، فقد دأبت وزارة الداخلية على نشر أرقام، يعتبرها العديد من المنتخبين والمنظمات النقابية والصحافيين، مستصغرة لعدد المحتجين الحقيقي وذلك أمر مقصود من الحكومة في محاولة لتقزيم الاحتجاجات. في المقابل انطلاقا من المشهد السابع شكل المحتجون لجنة أسموها “العدد الأصفر” مهمتها إحصاء عدد المحتجين بمقاطعة مصادر مختلفة وأخذها للحد الأدنى بسبب النقص في المعلومات وعدم التوفر دائما على مراسلين محليين وبالرغم من أخذها لذلك الحد الأدنى فأرقامها تقارب الضعف تقريبا مما تعلنه وزارة الداخلية كما يشير إليه الجدول أسفله:
المشهد | 17/11 | 24/11 | 1/12 | 8/12 | 15/12 | 22/12 | 29/12 | 5/01 | 12/01 | 19/01 | 26/01 | 2/02 | 9/02 |
وزارة الداخلية | 287710 | 166000 | 136000 | 136000 | 66000 | 38600 | 32000 | 50000 | 84000 | 84000 | 69000 | 58600 | 51400 |
العدد الأصفر | 68110 | 123440 | 159160 | 147370 | 123150 | 115950 | 118220 |
مطالب الحراك
كانت الشعارات والمطالب المرفوعة متعددة وتترجم تطلعات مختلفة، لم ترتبط هذه الأخيرة بسعر المحروقات فقط، بل اعتبرت تبلورا لسخط ضخم في صفوف الفرنسيين حول القدرة الشرائية بصفة عامة؛ أفرزها ارتفاع سعر المحروقات حسب Frédéric Dabi نائب المدير العام للمعهد الفرنسي للرأي العام.
بدأ الاحتجاج بالتمرد على ارتفاع مفرط لسعر المحروقات بسبب ارتفاع الضريبة الداخلية على استهلاك المنتوجات الطاقية، التي اضيفت إليها ضريبة على مكون الكربون منذ 2014، والضريبة على القيمة المضافة المرتبطة بالضريبة السابقة للنقص من تأثير الارتفاع الذي عرفه ثمن البترول. وانضاف إلى قائمة المطالب تحقيق ديمقراطية مباشرة والمطالبة بعرض التعديلات العامة على النظام الضريبي، وكذلك التوجهات الاجتماعية والمجتمعاتية الكبرى على استفتاء مباشر ؛ وكذلك تبني الاقتراع التناسبي في الانتخابات التشريعية كما ورد هذا في مقال أصدرته مجموعة سمت نفسها بالسترات الصفراء الحرة في الثاني من دجنبر 2018.
وفي نفس الشهر ظهر مطلب استفتاء المبادرة المواطنة كمطلب أساسي للحراك، ويهدف هذا النظام إلى إمكانية التشريع دون المرور من البرلمان وإقرار أدوات لديمقراطية مباشرة على الطريقة السويسرية. هذا بالإضافة إلى مطلب استقالة رئيس الجمهوريةEmmanuel Macron الذي أيده نصف الفرنسيين في استطلاع نظمته YouGovفي مطلع نفس الشهر.
اتسعت دائرة المطالب لتشمل إجراءات أخرى غير منصفة في حق مستعملي العربات، كثمن الدفع في الطرق السيارة وارتفاع ثمن الفحص التقني للعربات ، والحد المفروض في مجموعة من الطرق من السرعة إلى 80 كيلومتر في الساعة. وبعد مرور أسابيع طالب جزء من السترات الصفراء على عدم التوقيع على اتفاق مراكش حول الهجرة، الذي سموه بـ” تعويض الشعوب” خوفا من استفادة المهاجرين من مكاسب أخرى، وقد كان وراء هذا المطلب متعاطفون وأعضاء من اليمين المتطرف.
تجاوب السلطة التنفيذية مع الحراك:
منذ اندلاع الحراك، والحكومة تقوم بإنزال قوي لأجهزة الأمن في أيام السبت من كل أسبوع حيث وصل عددها إلى 89000 في المشهد الرابع على سبيل المثال. هذا بالإضافة إلى عربات مصفحة وقد اعتبر هذا أمرا استثنائيا بالنسبة لفرنسا. كما لجأت الحكومة إلى الإعلان عن مشروع قانون لمحاربة المحطِمين يمكن من معاقبة منظمي المظاهرات الغير معلن عنها لدى السلطات، وإنشاء ملف يتضمن أسماء تمنع حامليها من الحضور فيها، نظرا لسوابق معينة متعلقة بسلوكهم في احتجاجات سابقة. طرحت هذه الإجراءات المعلن عنها في مشروع هذا القانون عدة إشكالات قانونية، خصوصا ما يتعلق بالحق في التظاهر، حيث عبرت مفوضة حقوق الإنسان بمجلس أوربا Dunja Mijatovicعن قلقها تجاه مشروع هذا القانون، واعتبرته ضربا محتملا للحق في التظاهر السلمي.
في بداية الحراك أعلنت الحكومة في 14 نونبر أنها لن تتراجع عن الزيادة المعلن عنها في الضريبة على المحروقات؛ وفي المقابل سترفع من عدد المستفيدين من شيك الطاقة ونظام التعويض الكيلومتري. وفي نفس التوجه صرح الرئيس الفرنسي Emmanuel Macron خلال تقديم البرنامج المتعدد السنوات حول الطاقة، عن مجموعة من الإجراءات، لم يتراجع فيها للسترات الصفراء عن أي زيادة ضريبية مرتقبة، ثم عادت الحكومة في 18 دجنبر الموالي لتعلن تراجعها عن بعض الإجراءات وتسحب ذلك في نفس اليوم.
بعدما رفضت الحكومة إجراء أية مفاوضات مع السترات الصفراء، استقبل وزير الانتقال البيئي التضامني François de Rugy ممثلين عن المحتجين، لم يؤد إلى أي نتيجة لكون المحتجين اعتبروا أن المطالب المعبر عنها أكبر من أن تنحصر فيما يتعلق بالانتقال البيئي فقط. وفي 30 نونبر قام Edouard Phillipe الوزير الأول باستدعاء ثمانية أشخاص يمثلون السترات الصفراء قصد إجراء مفاوضات فانتهى الأمر إلى حضور شخص واحد في نهاية المطاف واعتبر اللقاء ملغى.
في العاشر من دجنبر ألقى الرئيس الفرنسي Emmanuel Macronخطابا رسميا،شوهد من طرف 28 مليون شخص بفرنسا، أعلن من خلاله عن مجموعة من الإجراءات التي تعتزم الحكومة القيام بها، لحل الأزمة التي تمر بها فرنسا. شملت هذه الإجراءات رفع دخل العامل بالحد الأدنى للأجور بـ 100 يورو شهريا وذلك انطلاقا من2019 بدون أن يكلف المشغل أي شيء، بالإضافة إلى حذف الضرائب على الساعات الإضافية، وإلغاء الزيادة في المساهمات الاجتماعية للتقاعد لمن يتوفر على راتب شهري أقل من 2000 يورو وإعفاء المقاولات من الضريبة على علاوات نهاية السنة. لم تتضمن هذه الإجراءات إعادة إقرار الضريبة التضامنية على الثروة التي طالب بها مجموعة من السترات الصفراء حيث اعترضت الحكومة عليها.
لم تلاق هذه الإجراءات تأييدا كبيرا من طرف السترات الصفراء، بل اعتبرت من طرف غالبيتهم بكونها غير كافية. فالرفع من دخل العاملين بالحد الأدنى للأجور سيعتمد في مجمله بنسبة 80%على تطبيق انطلاقا من 2019، كما هو الأمر بالنسبة لوعد ماكرون بالرفع من علاوة النشاط التي كان من المفترض تطبيقها تدريجيا خلال ثلاث سنوات. هذا بالإضافة إلى غياب أي إجراء لتحسين القدرة الشرائية للعاملين بالوظيفة العمومية.
ترجمت هذه الإجراءات على شكل قانون في 24 دجنبر 2018، متعلق بإجراءات طارئة اقتصادية واجتماعية وتم تقييم تكلفتها بـ 10,3مليار يورو ستمول 4 مليارات منها بإجراءات تقشفية، وفرض ضريبة على عمالقة الويب، والتخفيض من النفقات العمومية ، وإلغاء بعض الامتيازات الضريبية لبعض المقاولات. أما ما تبقى سيتم تغطيته بالسماح لعجز الميزانية بالوصول إلى 3,2%بينما كان 2,8%متجاوزا بذلك العتبة 3%المتفق عليها في معايير التقارب الأوربي وفقا لمعاهدة ماستريخت.
رغم كل هذه الإجراءات التي أعلنت عنها الحكومة، ظلت الاحتجاجات جارية وظل محتجو السترات الصفراء غير راضين عنها، ومتشبثين بمطالبهم ومواصلة مشاهدهم الأسبوعية، مما جعل الحكومة تطلق ما سمته المناظرة الوطنية الكبرى التي ستجري في ما بين منتصف دجنبر 2018 ومنتصف مارس 2019 من أجل التشاور وإيصال رغبات الفرنسيين إلى السلطة التنفيذية حول أربع مواضيع أساسية كبرى، وهي : الانتقال البيئي، النظام الضريبي، الخدمات العمومية والمناظرة الديمقراطية؛ وأضاف الرئيس موضوع الهجرة في رسالة وجهها للفرنسيين في إطار المناظرة الوطنية.
لازالت المناظرة جارية لحد الآن ولازالت هذه الخطوة تلقى انتقادات حادة من طرف السترات الصفراء، وتعتبرها وسيلة فقط للحكومة لخلق حوار من طرف واحد.
مميزات محتجي الحراك:
اعتبر الحراك على أنه غضب شعبي ضد نظام ضريبي غير عادل، وتميز بتلقائيته وغياب هيكلته ووضوح مطالبه. لقد عبر العديد من المحتجين الذين يمثلون أساسا الطبقة الوسطى، عن شعورهم بالاحتقار من طرف النخب الحضرية، ويعتبرون احتجاجاتهم انتفاضة للطبقة الوسطى التي تحس بالتهميش الاجتماعي والمجالي من طرف نخب المدن الكبرى. كما تميزت الاحتجاجات بغياب موضوع البطالة نهائيا.
تواجدت الاحتجاجات بشكل أكبر وأساسي في المناطق القروية والشبه حضرية، وتميز القاطنون بهذه المناطق بتمثيلية مفرطة في الحراك، كما شكل العمال والمستخدمون المعرضون للضرائب بشكل كبير والملزمون باستعمال العربات بسبب غياب النقل العمومي النسبة الأكبر من بين السترات الصفراء. لكن في المقابل كان للحراك صدى ضعيفا في المناطق الحضرية مثل Saint-Denis، حيث لا تجد الساكنة نفسها في مجموعة من المطالب، كما أنها متخوفة من مشاركة مجموعات اليمين المتطرف، ومن القمع الأمني ويحتفظون بذكريات أليمة تعود إلى احتجاجات 2005.
أما بالنسبة لمشاركة النساء فقد كانت جد مهمة، وتقدر بنسبة 45%من عدد المتظاهرين، بالإضافة إلى كون العديد من أيقونات الحراك هن من النساء رغم غياب الحركات النسوية عن الاحتجاجات. ويفسر هذا بكون النساء وبشكل خاص معنيات بالمشاكل المتعلقة بمستوى المعيشة.
أظهر استطلاع أنجز من طرف Elabeفي نهاية نونبر 2018 أن 42%من المصوتين على Marine le Penفي انتخابات 2017 يعتبرون أنفسهم منتمين إلى حراك السترات الصفراء، في المقابل 20%فقط من المصوتين على Jean-Luc Mélenchonو5%من المصوتين على Emmanuel Macron. كما أظهرت دراسة أخرى أن المتعاطفين مع التجمع الوطني وفرنسا الجامحة، هم الأكثر قابلية لمساندة الحراك من غيرهم من المتعاطفين مع أحزاب أخرى.
بالرجوع إلى برامج المترشحين لانتخابات 2017 رجحت Le Mond أن مطالب الحراك، التي تتسم بعدم رسميتها وأفقيتها، قريبة جدا من اليسار الراديكالي ومتوافقة إلى حد ما مع اليمين المتطرف وبعيدة جدا عن البرامج الليبرالية لـEmmanuel MacronوFrançois Fillon.
تميز المحتجون أيضا، رغم اختلاف توجهاتهم السياسية والأيديولوجية، بخطاب معاد لوسائل الإعلام إلى حدود غير مسبوقة دفعهم للتواصل ونقل المعلومة عن طريق مواقع التواصل الاجتماعي، فبالنسبة لهم التغطية الإعلامية التي جرت ولازالت تجري للحراك لا تعبر عن واقع الوضعية بتاتا ويستنكرون كون هذه الأخيرة، مناصرة للحكومة وتقوم بترويج صورة خاطئة للحراك، عن طريق التركيز على أعمال العنف التي قام بها بعض المحتجين والتي ظلت محدودة. وفي هذا الصدد أشار موقع Arrêt sur images، وهو موقع متخصص في الكشف عن مغالطات الصيغ الإعلامية في سرد الوقائع، إلى أن وسائل الإعلام ركزت بشكل كبير على العنف، الذي أقدم عليه بعض المحتجين ضد بعض الصحفيين رغم عدد الجرحى الكبير جدا في صفوف المحتجين من طرف قوى الأمن.
تأثير الحراك على الساحة السياسية ولاقتصادية:
صرح المؤرخ Stéphane Sirotفي منتصف دجنبر بأن الدعم والتأييد الضخم الذي لقيه حراك السترات الصفراء من طرف الرأي العام الفرنسي، نادر جدا في تاريخ الحراكات الاجتماعية مشيرا إلى أن هذا راجع إلى كون الفرنسيين يحسون بأن الحراك يعنيهم بالفعل ودعمهم ليس دعما مبدئيا فقط. وفي الجدول التالي يظهر هذا التأييد جليا:
2018 | 2019 | |||||||||
السؤال المطروح | منظم الاستطلاع | قبل 17 نونبر | ما بين 17 و23 نونبر | ما بين 24 و30 نونبر | ما بين 1 و7 دجنبر | ما بين 8 و14 دجنبر | ما بين 15 و31 دجنبر | ما بين 1 و11 يناير | ما بين 12 و18 يناير | ما بين 19 و31 يناير |
يجدون أن الحراك مبرر | Odoxa | 74% | 77% | 84% | 77% | |||||
YouGov | 83% | 74% | ||||||||
يوافقون على الحراك | BVA | 65% | 71% | |||||||
يدعمون ويتعاطفون مع التعبئة | Elabe | 73% | 70% | 75% | 72% | 73% | 70% | 60% | 67% | |
Ifop | 69% | 66% | 71% | 72% | 68% | |||||
YouGov | 67% | 70% | 62% | |||||||
يدعمون الحراك | OpinionWay | 65% | 64% | 66% | 68% | 59% | 61% | 57% | 56% | 56% |
Harris | 72% | 72% | ||||||||
يتمنون استمرار الحراك | BVA | 59% | ||||||||
Elabe | 69% | 63% | 52% | 54% | 51% | 54% | ||||
Odoxa | 66% | 54% | 55% | 51% | ||||||
OpinionWay | 45% | 49% | ||||||||
يعتبرون أنفسهم في الفعل | BVA | 46% | ||||||||
يؤيدون استعمال بعض المحتجين للعنف | Harris | 15% |
أما بالنسبة للسياسيين فقد أعلن مجموعة من قادة أحزاب سياسية، تأييدها للحراك وتضامنها معه مثل Marine Le Pen زعيمة التجمع الوطني،و Jean-Luc Mélenchonزعيم فرنسا الجامحة وLaurent Wauquiezزعيم الجمهوريين. كما أعلن العديد من اليساريين عدم تأييدهم لعرقلة ووقف الطرق رغم دعمهم المبدئي للحراك. وفي 21 نونبر 2018 قام النائب Jean Lasalle الغير منتمي إلى أي فريق برلماني بارتداء سترة صفراء في المجلس الوطني الشيء الذي أدى إلى وقف الجلسة والاقتطاع من تعويضاته البرلمانية. خمسة أيام بعد ذلك قام Jean-Hugues Ratentonبفعل نفس الشيء فلم يتم تركه يتابع كلمته التي كان يلقيها كما تم وقف الجلسة أيضا.
في نهاية نونبر ولحل الأزمة اقترحت فرنسا الجامحة بالإضافة إلى التجمع الوطني، حل المجلس الوطني بينما طالب الجمهوريون Emmanuel Macronأن يعرض مخطط الانتقال البيئي الذي عرضه في 27 نونبر للاستفتاء المباشر. من جهة أخرى قدم الحزب الشيوعي الفرنسي إضافة إلى فرنسا الجامحة ملتمس رقابة ضد الحكومة تم رفضه بشكل كبير في المجلس الوطني في 13 دجنبر.
أما النقابات المهنية فقد رفضت أن تحسب مباشرة على الحراك رغم دعمها وتأييدها له، متخوفة من أن يتم اتهامها بالاسترجاع السياسي، والركوب على الحراك. حيث أن الكاتب العام للكونفدرالية العامة للشغل Phillipe Martinezأكد أنه يريد تجنب أي استرجاع سياسي، بينما أعلن الكاتب العام للكونفدرالية الفرنسية الديمقراطية للشغل Laurent Berger قبيل اندلاع الحراك أن عرقلة ووقف الطرق كانت تسترجع سياسيا من طرف اليمين المتطرف. وبالرغم من هذا فإن مجموعة من التنظيمات المحلية انخرطت في الحراك مخالفة بذلك التوجيهات الكونفدرالية.
أما بالنسبة للإعلام فما بين منتصف نونبر ومنتصف يناير ورد الحراك 645000 مرة في وسائل الإعلام الفرنسي أغلبها مضادة للحراك تروج للخوف وتركز على أعمال العنف المحدودة للسترات الصفراء، وقد غضت النظر عن تقرير منظمة العفو الدولي في الموضوع.
في العشرين من دجنبر أعلنت وزارة الداخلية عن حصيلة الجرحى التي وصلت إلى 2891 جريح 1843 منهم مدنيون و1048 منهم من قوات الأمن. كما قام الصحافي David Dufresneبنشر أرقام في 9 فبراير تتضمن حالة موت، و346جريحا، 183 منهم أصيبوا بجروح في رأسهم و19 فقدوا إحدى عينيهم و4 فقدوا أحد أذرعهم وذلك بسبب استعمال قوى الأمن لمجموعة من الأسلحة.
أما بالنسبة للاعتقالات فما بين 17 نونبر و17 دجنبر 2018 صرحت وزارة الداخلية باحتجاز الشرطة لـ 4570 شخص، 1567 منهم في باريس فقط حيث تم اعتقال 216 منهم ليحاكم في نهاية المطاف 56 بسجن نافذ.
وحسب الحكومة أيضا بث القضاء، في الفترة الممتدة ما بين 17 نونبر 2018 و12 فبراير 2019 في 1796 شخص، بينما 1422 لازالوا ينتظرون أحكامهم.
على المستوى الاقتصادي طرح المعهد الوطني للإحصاء والدراسات الاقتصادية، في 18 من دجنبر، فرضية كون الحراك سيضعف نمو الناتج الداخلي الخام بـ 0 ,1في الثلث الأخير من 2018. أما بالنسبة لبنك فرنسا فهذا النمو أصبح 0,2%بدل 0,4%.وفي منتصف دجنبر، وأشارت وزارة الاقتصاد إلى انخفاض بنسبة 40% في رقم معاملات التجار الصغار و15% للموزعين الكبار ومن جهة أخرى سجل ارتفاع في رقم معاملات التجارة الرقمية.
انخفض أيضا استهلاك المحروقات بـ9%في المحطات منذ اندلاع الحراك، كما أن الخسائر الملحقة بالشبكة الطرقية قدرت بعشرات الملايين من اليورو بينما وصلت الى مئات الملايين في ما يتعلق بتخريب مجموعة من المحلات والمطاعم والعلامات التجارية خصوصا بباريس.