الثقافة

هـــالــيــلــويا

الغائب الحاضر- زهير التجاني

‮«‬‭ ‬في‭ ‬الانتظار‭ ‬يصيبني‭ ‬هوس‭ ‬الاحتمالات‮»‬‭… ‬لا‭ ‬لم‭ ‬يعد‭ ‬هناك‭ ‬مجال‭ ‬للاحتمالات‭ ‬،‭ ‬هو‭ ‬اليقين‭ ‬الواحد‭ ‬آت‭ ‬لا‭ ‬محالة‭ ‬،أحس‭ ‬أنفاسه‭ ‬اللاهثة‭ ‬وراء‭ ‬ظهري‭ ‬و‭ ‬أنا‭ ‬أركض‭ ‬ملء‭ ‬مخيلتي‭ ‬و‭ ‬ما‭ ‬تبقى‭ ‬من‭ ‬أمل‭ ‬في‭ ‬حياة‭ ‬لم‭ ‬أكن‭ ‬أريدها‭ ‬أن‭ ‬تنتهي‭ ‬بطريقة‭ ‬عادية‭ ‬مملة‭ ‬إلى‭ ‬هذه‭ ‬الدرجة‭ ‬،‭ ‬كنت‭ ‬أتخيل‭ ‬نهاية‭ ‬تبدأ‭ ‬منها‭ ‬حياتي‭ .‬

أنا‭ ‬أحسن‭ ..‬الانتظار‭ ‬وقد‭ ‬انتظرت‭ ‬على‭ ‬صفيح‭ ‬ساخن،‭ ‬ما‭ ‬انتظرت‭ ‬عودة‭ ‬غودو‭ ‬وما‭ ‬انتظرت‭ ‬الموت‭ ‬الذي‭ ‬لا‭ ‬يخلف‭ ‬موعدا،‭ ‬لكني‭ ‬انتظرت‭ ‬عصفورا‭ ‬من‭ ‬طباريا‭ ‬يخبرني‭ ‬عن‭ ‬أحبتي‭ ‬هناك‭.‬

أنا‭ ‬أحسن‭ ‬الانتظار‭.. ‬لكن‭ ‬لا‭ ‬عسل‭ ‬في‭ ‬الخلية،‭ ‬شغالات‭ ‬النحل‭ ‬أضربن‭ ‬عن‭ ‬العمل‭ ‬والنمل‭ ‬عاقر‭ ‬وآخر‭ ‬الفرسان‭ ‬انتحر‭ ‬وحصانه‭ ‬نفق‭ ‬حزنا،‭ ‬لم‭ ‬يتبق‭ ‬غير‭ ‬غبار‭ ‬ذرته‭ ‬الرياح‭ ‬كآخر‭ ‬تلويحة‭ ‬وداع‭..‬

أنا‭ ‬أحسن‭ ‬الانتظار‭.. ‬وها‭ ‬أنذا‭ ‬أنتظر،‭ ‬أنتظر‭ ‬مراسيم‭ ‬تشييع‭ ‬جنازتي‭ ‬و‭ ‬كل‭ ‬وسائل‭ ‬الحداد‭…‬

أرى‭ ‬الأصدقاء‭ ‬يشيعونني‭ ‬إلى‭ ‬مثواي‭ ‬الأخير‭ ‬كما‭ ‬أتوقع‭ ‬منهم‭. ‬

كاتب‭ ‬القصة‭ ‬حولني‭ ‬إلى‭ ‬قصة‭ ‬قصيرة‭ ‬بعنوان‭ ‬‮«‬حكاية‭ ‬موت‭ ‬معلن‭ ‬‮«‬‭ ‬وصاحبه‭ ‬جعلني‭ ‬كلمة‭ ‬متقاطعة‭ ‬‮«‬محمول‭ ‬مات‭ ‬‮«‬حرفه‭ ‬الأول‭ ‬والأخير‭ ‬نضغط‭ ‬عليه‭ ‬للإنارة،‭ ‬وما‭ ‬بينهما‭ ‬ضمير‭ ‬غائبة‭.‬

الشاعر‭ ‬الرقيق‭ ‬ذو‭ ‬الصوت‭ ‬الأجزل‭ ‬كتب‭ ‬عن‭ ‬سفينة‭ ‬تطفو‭ ‬في‭ ‬السماء‭ ‬أنا‭ ‬ربانها‭ ‬أو‭ ‬راهبها‭ ‬الوحيد،‭ ‬والشاعر‭ ‬الطبيب‭ ‬قال‭ ‬كلمته‭ ‬الرسمية‭ ‬شعرا‭ ‬جس‭ ‬النبض‭ ‬وأعلن‭ ‬‮«‬مات‭ ‬والسلام‭ ‬سلام‭ ‬أيها‭ ‬الأحياء‭ ‬حتى‭ ‬تموتون‮»‬،‭ ‬أما‭ ‬الشاعر‭ ‬الثائر،‭ ‬ثار‭ ‬قليلا‭ ‬ثم‭ ‬كتب‭ ‬عن‭ ‬قلعة‭ ‬الوداية‭ ‬وعن‭ ‬نهر‭ ‬أبي‭ ‬رقراق‭ ‬الذي‭ ‬كدت‭ ‬أغرق‭ ‬فيه‭ ‬يوم‭ ‬المحاولة‭ ‬الانقلابية‭ ‬في‭ ‬1972‭ ‬وعن‭ ‬البادية‭ ‬و‭ ‬ذكرياته‭ ‬مع‭ ‬جدته‭ ‬المحبوبة‭.‬

الشاعر‭ ‬الوديع‭ ‬قال‭ ‬كلاما‭ ‬وديعا‭ ‬وموجعا‭ ‬عن‭ ‬سنوات‭ ‬الرصاص،‭ ‬ولا‭ ‬أدري‭ ‬كيف‭ ‬عند‭ ‬نهايته‭ ‬وجد‭ ‬رابطا‭ ‬بمماتي‭ ‬الآمن‭ ‬رفيق‭ ‬الدرب‭.. ‬العملاق‭ ‬العظيم‭ ‬،‭ ‬أنشد‭ ‬موالا‭ ‬غيوانيا‭ ‬لولا‭ ‬الألطاف‭ ‬و‭ ‬دخول‭ ‬صوت‭ ‬رفيق‭ ‬آخر‭ ‬لطف‭ ‬أجواء‭ ‬التشييع‭ ‬لتحول‭ ‬المشهد‭ ‬الجنائزي‭ ‬إلى‭ ‬عاشوراء‭ ‬حسينية‭.‬

الصديق‭ ‬ذو‭ ‬الروح‭ ‬المرحة‭ ‬والوجه‭ ‬المتجهم‭ ‬عزف‭ ‬عزفا‭ ‬أمات‭ ‬الأحياء‭ ‬حزنا‭ ‬فأقبرهم،‭ ‬بينما‭ ‬صاحب‭ ‬اللغة‭ ‬العربية‭ ‬كتب‭ ‬عن‭ ‬دالية‭ ‬كستها‭ ‬الديدان‭ ‬والتهمتها‭.‬

الصديقات‭ ‬حاضرات‭ ‬أيضا‭ ‬يودعنني‭ ‬ذارفات‭ ‬الدمع‭. ‬

الصديقة‭ ‬الحليمة‭ ‬وصفتني‭ ‬متأوهة‭ ‬بصدق‭  ‬‮«‬أيها‭ ‬الميت‭ ‬المتفرد‭ ‬المتمرد‭ ‬حتى‭ ‬على‭ ‬الحياة‭ ‬‮«‬،‭ ‬و‭ ‬الصديقة‭ ‬الأمازيغية‭ ‬قالت‭ ‬كلاما‭ ‬كثيرا‭ ‬بالأمازيغية‭ ‬لم‭ ‬أفهم‭ ‬منه‭ ‬غير‭ ‬كلمة‭ ‬‮«‬بانو‮»‬‭.‬

‭ ‬الصديقة‭ ‬القديمة‭ ‬أصرت‭ ‬أن‭ ‬تتحدث‭ ‬إلي‭ ‬مباشرة‭ ‬خالطة‭ ‬بين‭ ‬العربية‭ ‬والروسية‭ ‬قالت‭ ‬كلاما‭ ‬خاصا‭ ‬لا‭ ‬أبوح‭ ‬به،‭ ‬والصديقة‭ ‬الناعمة‭ ‬طوقتني‭ ‬بنظراتها‭ ‬المتنبهة‭ ‬الواثقة‭ ‬وقالت‭: ‬‮«‬‭ ‬لا‭ ‬تفزع‭ ‬ولا‭ ‬تتراجع‮»‬‭.‬

أما‭ ‬الصديقة‭ ‬الأنيقة‭ ‬فبكامل‭ ‬أناقتها‭ ‬تحدثت‭ ‬عن‭ ‬الأنوثة‭ ‬والموت‭ ‬كجنس‭ ‬أدبي،‭  ‬في‭ ‬حين‭ ‬تحدثت‭ ‬سيدة‭ ‬القراءة‭ ‬بحزن‭ ‬حقيقي‭ ‬وفرنسية‭ ‬فصيحة،‭ ‬قالت‭ ‬كلاما‭ ‬لم‭ ‬أفهم‭ ‬منه‭ ‬سوى‭ ‬أنه‭ ‬أطروحة‭ ‬علمية‭ ‬عن‭ ‬الموت‭ ‬وكيف‭ ‬يساهم‭ ‬موتي‭ ‬في‭ ‬دعم‭ ‬القراءة‭.‬

الصديقة‭ ‬العزيزة‭ ‬التي‭ ‬لا‭ ‬أذكر‭ ‬اسمها‭ ‬أبدا،‭ ‬اكتفت‭ ‬برسم‭ ‬لوحة‭ ‬بالحبر‭ ‬الأسود‭ ‬الجاف‭ ‬فهمت‭ ‬منه‭ ‬أن‭ ‬ما‭ ‬ينتظرني‭ ‬هناك‭ ‬هو‭ ‬قضية‭ ‬حامضة‭.‬

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

زر الذهاب إلى الأعلى