عيطة: وَاشْ مَنْ وَالاَ يَتْوَالَى
لم يكن اختيار تسمية «عيطة» اعتباطيا على هذا الركن، بل ذا حمولة تاريخية وجمالية تنهل من الجانب الشفهي الإبداعي للثرات الموسيقي الشعبي المغربي، ومحاكاته لمعيش المغاربة، أفراحهم، انتكاساتهم، أحلامهم، استبسالهم، خصب أراضيهم، غرامياتهم و أحزانهم..، ولا يمكن لمجهر تنصيب محاكم الأخلاق أن يستطيع كبح جماح خزان الذاكرة هذا، وقدرته على تأريخ وبصم أهم مراحل حركية القبائل وصراعاتها، والتي تسيدت فيها النساء ونحن نحتفي عالميا بهن، لونا موسيقيا متميزا من تاريخ البادية المغربية، تحت تسمية «العيطة»، كترجمة لمفهوم النداء والتحميس والتحريض واستنهاض الهمم وسط مقاتلي القبيلة ودفاعا عن نخوتها وعزتها وكرامتها في مواجهة تسلط قياد المرحلة واستبداد الحكم المخزني المركزي.
ورغم أن ثرات فن العيطة استلهم العديد من المبدعين والمؤرخين والدارسين، فإن بعض النصوص التاريخية الاستعمارية، حاولت تقزيم وتشويه الوجه المشرق لفن العيطة، وذلك توجساً من قدرته التحريضية على حمل القبائل على مواجهة الحملة الكولونيالية، في محاولة لشيطنة «العيطة» ونسائها.
غناء انتقل عبر القرون، في الأعراس والمواسم والأسواق، واكتسح المدن و المواقع الشعبية وقصور علية القوم والمسارح والحارات، وأصبحت لكلماته المشفرة دلالات محينة حسب الأوضاع وتحوير سياقات المضمون ونحت كلام مستحدث بنفس الإيقاعات الراقصة وتناغم القوافي، فعوضت الأجواق الحديثة والمجموعات تفرد «الشيخة» و زعامة «الغيطة» والهارمونيا السحرية «للطعريجة».
لكننا لايمكن بأي شكل من الأشكال أن نستعر من هذا الثرات الموسيقي الشفهي الغني، ولا أن ندعه في مرمى ظلامية التحريم، ولا أن نتركه لقمة سائغة في يد تشويه السلطة لمضامينه التاريخية والثقافية، فلن يستطيع مؤرخ ثرات «العيطة» أن يدون مجرياتها دون استحضار أغاني خربوشة وحكايات مواجهتها لاستبداد القائد عيسى بن عمر العبدي في نهاية القرن التاسع عشر، واضطهاده لقبيلتها أولاد زيد، ودعم السلطة المركزية للقائد العبدي في تصفية نخوة وعزة قبيلتها، والقدرة التحريضية لأغاني عيطة خربوشة في تحميس مقاتلي فخدة أولاد زايد، الأغاني التي انتشرت بسرعة في ربوع كل القبائل، رغم محاولات جيش القايد عيسى بن عمر طمسها ووراءه العتاد والسلاح المركزي لحاكم أسفي، وتجد أن لمسات أغانيها وإيقاعاتها وحتى مقاطع من كلماتها تسربت إلى العيطة : الشاوية، الدكالية، العبدية، الحوزية، الزعرية، الملالية، الجبلية، الفيلالية.
كما تم استغلال ثرات العيطة بشكل مُوَجَّهٍ َلترسيخ خطاب السلطة، ونستحضر اللازمة التي تتكرر في بعض عيوط دار المخزن : «وَاشْ مَنْ وَالاَ يَتْوَالَى»، تلخيصا لاستبداد بعض الأسر بتبادل وتوارُثِ المناصب العُليا خارج منطق الكفاءة، آخرها توزيع مناصب الوُلاة والعمال والسفراء على ذات الأُسَرِ المتنفذة على البلاد والعباد.
إن هذا الثرات الشفاهي وبطابعه الساخر أحياناً، والمقاوم والمتمرد أحياناً أخرى، والمميز بأنفته ونخوته يمكن أن يستلهم كتاباتنا كتعبير عن مكنونات الشعب المغربي، آماله وطموحاته، ونزعته لمحاكاة المعيش وأحلام التغير بٍنَفْسِ بذور ذات التغيير تاريخيا بِنَفَسٍ وقراءة جديدين.
هي العيطة إذن.. كنداء لكتابة جديدة ولتغيير جديد.