بصوت مرتفع: المسألة الاجتماعية في صلب المعركة من أجل الديمقراطية
لقد ظلت الحركات الاحتجاجية في المغرب في كل مرحلة وحين تعيد المسألة الاجتماعية الى الواجهة والى جدول أعمال النضال الديمقراطي كأولوية الأولويات وكجزء لا يتجزأ من معركة الديمقراطية في شموليتها من منطلق أن الديمقراطية لا يمكن أن تستقيم إذا لم تتم عملية الربط العضوي بين مضمونها السياسي وأبعادها الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، لهذا لم تتمكن استراتيجية التوافقات السياسية ومنطق التسويات من تقديم الإجابة الكافية عن الانتظارات الاجتماعية لأوسع الطبقات الاجتماعية المقهورة والمحرومة من ولوج الخدمات الاجتماعية الحيوية من تعليم وصحة وتشغيل ونقل…والتي تضمن لها حدودا دنيا من كرامة العيش، وبالتالي ظلت المسالة الاجتماعية حقلا خصبا للرفض والتمرد والصراع ومحاكمة التوجهات والاختيارات السياسية للنظام السياسي في مجال البناء الديمقراطي والتنمية الاقتصادية والاجتماعية…
إن تحولات الحركة الاحتجاجية على مستوى المجال، المطالب، الشعارات والفاعلين، هي في الحقيقة إعلان صريح لاحتدام الأزمة الاجتماعية على صعيد اتساع وإعادة إنتاج الفوارق الاجتماعية والمجالية والتوزيع غير العادل لثروات البلاد رغم كثرة البرامج و المبادرات الرسمية ذات الأهداف الاجتماعية في مجالات الصحة والتعليم، محاربة البطالة والهشاشة والإقصاء الاجتماعي ) المبادرة الوطنية للتنمية البشرية، راميد، تيسير، إصلاح صندوق المقاصة، إصلاح التقاعد …( لكن بقي الخصاص والعجز الاجتماعيان لصيقين بحياة الفئات المسحوقة والمبعدة من دائرة الإنتاج، بما فيها الطبقة المتوسطة التي أصبحت عرضة لتفقير ممنهج.
لا شك أن للمسألة الاجتماعية تجلياتها على صعيد العدالة الاجتماعية والمجالية والضريبية، وبالتالي فإن دوام الحاجة لهذه العدالة كحاجة تاريخية وهيكلية ، هو عنوان لفقدان السيادة على الثروات الوطنية واستقلالية القرار الاقتصادي والسياسي من حيث الارتهان الى توجيهات وإملاءات المؤسسات المالية الدولية منذ سياسة التقويم الهيكلي مع مطلع سنوات الثمانينات من القرن الماضي حيث تمت التضحية بالنفقات العمومية ذات البعد الاجتماعي في ميادين الصحة والتعليم والتشغيل لصالح التوازنات المالية وخوصصة القطاعات والمؤسسات الحيوية، وذلك تحت ضغط المديونية التي تفوق حاليا %80 من الناتج الداخلي الخام والتي ظلت تخضع للجدولة وإعادة الجدولة بشكل عمق من وضعية التبعية للدوائر الرأسمالية العالمية وأنتج إعاقة بنيوية للتغيير الديمقراطي في المغرب من خلال تحالف طبقي مركب يجمع بين السلطتين الاقتصادية والسياسية، تحالف تتوافق مكوناته على تدبير الأزمة الاقتصادية والاجتماعية حسب متطلبات وإكراهات كل مرحلة على المستويات الإقليمية والدولية ) من حكومة التوافق 1998 لتدبير السكتة القلبية 1995 الى « الربيع المغربي» 2011 وحكومة « الإسلام السياسي»( دون أن يطرأ أي تحول في بنيات السلطة والاستبداد، وبالتالي فالواقع في بلادنا هو أنه كلما تمحورت السياسات العمومية والمبادرات التنموية حول المسألة الاجتماعية، من حيث إنعاش الخدمات الاجتماعية وتقريبها من ضحايا الاقصاء الاجتماعي والقهر الطبقي وتنمية العالم القروي ومحاربة الهشاشة الاجتماعية، كلما اقتربنا من مغرب الهشاشة الديمقراطية، من خلال اتساع خريطة الإقصاء والفقر والفساد والهجرة باعتبارها من تجليات عنف طبقي تمارسه أجهزة ومؤسسات الدولة بشعارات اجتماعية لا تخضع للتقييم والمحاسبة لأنه لا يمكن تدبير المسألة الاجتماعية بمنطق أمني يتصدى لكل عملية تستهدف تفكيك الأسس العميقة والبنيوية للاستبداد الاقتصادي والفساد السياسي والقهر الاجتماعي. ومن ثمة، فالطبيعة السلطوية والباتريمونيالية للنظام السياسي هي التي تفسر من جهة طغيان المعالجة الأمنية لمتطلبات الحقل الاجتماعي وديناميته الاحتجاجية ومن جهة ثانية قراءة شروط الانتكاسة الحقوقية التي يشهدها المغرب على صعيد قمع الحركات الاحتجاجية والتضييق على الجمعيات الحقوقية والمدافعين عن حقوق الإنسان وإسكات الصحفيين، بعد لحظة انفراج لم تدم طويلا تلتها مباشرة إرساء مقاربة أمنية وقائية خاصة في العلاقة بالفعل الاحتجاجي الاجتماعي، سواء أكان محليا أو وطنيا، في وقت قد يسمح فيه ببعض المسيرات التضامنية الممركزة كطريقة لتسويق بعض القطرات من الديمقراطية المحروسة بعناية استراتيجية وطنيا ودوليا.
إن تناقضات المسألة الاجتماعية يعكسها الصراع الاجتماعي في أبعاده السياسية المباشرة وغيرالمباشرة والتي يتم التعبير عنها من خلال شعارات ومطالب اجتماعية على صعيد الروافد المختلفة للحركة الاجتماعية والاحتجاج الشعبي منذ الانتفاضات الجماهيرية التي عرفها المغرب بعد الاستقلال الى الآن وصولا الى حركة 20 فبراير 2011 التي أعادت طرح المسألة الاجتماعية طرحا سياسيا واضحا وقويا من خلال الدعوة الى إعادة توزيع السلطة والثروة والفصل بينهما وكذلك إعمال مبدأ ربط المسؤولية بالمحاسبة ورفع القداسة عن السياسة والاقتصاد، ثم الحراكات الشعبية في الريف وجرادة وزاكورة ووطاط الحاج…، و هي كلها حركات احتجاجية حملت رسالة قوية مفادها أن كل تسوية سياسية بين النظام السياسي والنخب لا يكون لها الأثر الاجتماعي المباشر في اتجاه عدالة اجتماعية ملموسة ومجتمع المواطنة والحرية والكرامة هي تسويات مرفوضة وستظل عاجزة عن خلق سلم اجتماعي حقيقي، وهذه الحقيقة حملها أيضا تنامي واقع الاحتقان الاجتماعي وتدفق منسوب الاحتجاجات الاجتماعية واتساع خريطتها من خلال تصاعد النضالات النقابية والفئوية المشتتة ضد العديد من الإجراءات ذات الصلة المباشرة بالمسألة الاجتماعية، بل تشكل جوهرها خاصة تفكيك المدرسة العمومية التي أصبحت ضحية كبرى لمخطط محكم ابتدأت حلقاته الأولى من اتهام منظومة التربية والتكوين باعتبارها مصنعا لإنتاج العطالة والاحتجاج وعاجزة عن مواكبة متطلبات سوق الشغل ومستجدات المقاولة المغربية، ثم استهداف المجانية من خلال قانون الإطار 17-51 وتشجيع منطق الخوصصة ومنطق التسليع عبر نظام التعاقد…، و بالتالي إضعاف المدرسة المغربية و تفقيرها أكثر لصالح تعليم طبقي ونخبوي يكرس لاتكافؤ الفرص التربوية كقاعدة لإعادة إنتاج التمايزات الاجتماعية ولا تكافؤ الفرص الاجتماعية عبر آلية الانتقاء والإقصاء، والتقسيم المبكر للعمل الاجتماعي عبر مسطرة التوجيه المعتمدة والربط غير الواضح بين المسارات التعليمية والمهنية، والرهان الأساسي على قطاع التكوين المهني للتصدي للبطالة وخاصة لظاهرة الهدر المدرسي التي بلغت مستويات قياسية بين سنتي 2002 و 2003 لكن هذا القطاع ظل يتخبط في اختلالات بنيوية نتيجة هيمنة منطق الكم على حساب الكيف وتجويد الخدمات حيث إنه رغم توسع شبكة المؤسسات والتخصصات وعدد الخريجين، إلا أن معظمهم وجد نفسه عرضة للبطالة.
ولاشك أن فشل المعالجة الرسمية للمسألة الاجتماعية على مستوى المخططات، البرامج والإجراءات والمحكومة بمنطق ضبط الاستقرار الاجتماعي بالدرجة الأولى، لا تعكسه فقط المعطيات الملموسة الخاصة بمؤشرات غياب العدالة الاجتماعية، بل أيضا التقارير الدولية حول المغرب حيث إن معظمها يصنفه في مراتب ضعيفة أو متوسطة على مستوى بعض حقول المسألة الاجتماعية كالتنمية البشرية، التعليم، الصحة، مناخ الأعمال والتنافسية، الشفافية. هذه الأخيرة على سبيل المثال، احتل فيها المغرب الرتبة 81 من أصل 180 دولة حسب تقرير لمنظمة الشفافية العالمية سنة 2018 في مؤشر الفساد وسجل التقرير أيضا أن أكثر القطاعات تضررا من الفساد هي القضاء، العقار، الإدارة و الصحة، وجميع هذه القطاعات لها صلة مباشرة بالمسألة الاجتماعية و ضمان وحماية الحقوق الأساسية للفئات الاجتماعية المقهورة كالحق في الصحة والسكن والخدمات الإدارية المتنوعة وحماية المؤسسة القضائية التي تعتبر من الناحية النظرية والمبدئية آلية من آليات حماية حقوق الإنسان.
إن استعادة القوى اليسارية والديمقراطية لحقيقتها الاجتماعية على صعيد المعركة الديمقراطية لن تتحقق دون إعادة قراءة المسألة الاجتماعية في تحولاتها المتسارعة على مستوى المجال والمطالب والفاعلين وتراكماتها النضالية والتنظيمية، وذلك من خلال التقاط نبض المجتمع ودينامياته الاحتجاجية وخدمة هذه الدينامية استراتيجيا من موقع الانخراط والتأطير وتنويع أساليب التضامن وتوحيد المعارك الاجتماعية لحمايتها من كل مناورة للعزل الاجتماعي والسياسي تهدف الى ربطها بالمنطق المخزني في تدبير الحقل السياسي والاجتماعي بطريقة تؤدي مباشرة الى خلق اصطفافات وترتيبات لمشهد سياسي مقبل قد لا يختلف عن سابقيه إلا من حيث استقطاب لاعبين جدد لإدارة الأزمة المركبة.