الجماهير الشعبية تتحدى الخوف لمناهضة الفساد
◆ صفي الدين البدالي
في السابق كان النظام المخزني هو الذي يتولى معاقبة من ثبت تورطه في عملية فساد مالي أو رشوة ، لكن سرعان ما يعفو عنه و يعينه في مناصب عليا . ففي بداية السبعينات تم اعتقال عدد من الوزراء في حكومة أحمد العراقي، بالضبط في أواخر شهر أبريل 1971 بعد أن تمت إقالتهم ، على إثر تقرير امريكي يتهم فيه هؤلاء الوزراء وموظفين سامين بتورطهم في الرشوة و تهريب الأموال إلى الخارج . و بعد أشهر من المرافعات والمحاكمات، و بعد صدور أحكام وصلت إلى 10 سنوات لبعضهم وحجز ممتلكاتهم، أصدر الملك الراحل الحسن الثاني عفوا شاملا في حقهم قبل اتمام عقوبتهم. ونذكر كذلك محاكمات بنفس الإخراج وبنفس النهاية في قضية مسؤولين بفوسفاط خريبكة وآخرين بوزارة البريد في قضايا فساد، ثم عامل عمالة عين السبع بالدار البيضاء ومن معه في قضية تتعلق بارتكاب تجاوزات مالية واختلاسات في إنجاز المشروعين السكنيين أولاد زيان والفوارات.. لقد عاش الشعب المغربي اطوار مسلسل محاكمات هؤلاء لينتهي المسلسل بانتصار أبطال الفساد والرشوة على العدالة و على القانون.
لقد طل النظام المخزني يحتفظ لنفسه بمحاربة الفساد و محاكمة المفسدين في إطار عملية تغيير الأدوار بين المنتفعين من الريع ومن الفساد المالي في إطار الترتيبات السياسية التي يقوم بها النظام لكل مرحلة. لكن مكافحة الفساد بدأت تنتقل تدريجيا إلى صفوف الجماهير الشعبية ومنظمات المجتمع المدني، بدءا من حركة 20 فبراير التي كان من بين شعاراتها المركزية «لا للفساد، الفساد ارحل»، وهو ما جعل النظام المخزني يبعد بشكل مؤقت شخصيات أشارت إليها أصابع الاتهام بالفساد عن الأضواء لتعود بعد أن هدأت العاصفة. وبعد إقرار دستور 2011 وإجراء الانتخابات البرلمانية التي تلته وتعيين بنكيران رئيسا للحكومة المغربية في ثالث يناير 2012، كان أول قرار اتخذه رئيس الحكومة هو « عفا الله عما سلف»، ارضاء للوبي الفساد ونهب المال العام وتهريب الأموال، وذلك سيرا على نهج السياسة المخزية في هذا المجال. لقد كان لهذا القرار بعد سياسي يهدف إلى طمس ممنهج لشعارات حركة 20 فبراير و مطالب اليسار في هذا المجال، لأن محاربة الفساد يشكل مقدمة لتأجيج الصراع الطبقي الذي يعمل النظام المخزني و لوبيات الفساد دائما على إجهاضه. لكن الوعي بخطورة سياسة الحكومة المخزنية فيما يتعلق بالفساد ظل يعرف انتشارا واسعا بفعل منظمات المجتمع المدني، وفي مقدمتها الجمعية المغربية لحماية المال العام التي ركبت المخاطر لمناهضة هذا التوجه لتقوم بدور اساسي في مكافحة الفساد و نهب المال العام من خلال تقديم شكايات ذات صلة بالفساد والرشوة والإفلات من العقاب ضد مسئولين نافدين في الدولة ومستشارين جماعيين و برلمانيين ، تم تقديم أغلبيتهم للعدالة ومحاكمتهم رغم ما عرفته هذه المتابعات و المحاكمات من تلكؤ وبطء ورغم بعض الأحكام الصادرة مجانبة للقانون. بالإضافة لهذه الخطوات كانت هناك ندوات تحسيسة وطنية ومحلية وجهوية بخطورة الفساد على البلاد و على التنمية، و تنظيم وقفات وطنية وجهوية ومحلية ومسيرات للتنديد بمظاهر الفساد وبالمفسدين، الشيء الذي أدى إلى ترسيخ وعي لدى المواطنين والمواطنات بأنه لا مناص من مناهضة الفساد المالي ونهب الثروات الطبيعية للبلاد وأراضي الجموع و أراضي الدولة .. و امتد هذا الوعي إلى الشباب القروي الذي اصبح يراقب الشأن المحلي و يتقدم بشكايات للجمعية ومنهم من حاصر رؤساء جماعات و هم على سيارة الجماعة خارج ترابها أو خارج أوقات العمل. لقد تأسس وعي يرمي إلى حماية المال العام عبر الاحتجاج وعبر القضاء، الشيء الذي جعل الحكومة المغربية في حرج أمام الرأي العام الوطني والدولي. وفي السياق نفسه كشفت تقارير المجلس الأعلى للحسابات مظاهر الفساد المالي و الإداري بالمؤسسات العمومية و بالمكاتب الوطنية في سباق مع المجتمع الذي لم يعد ينتظر من النظام المخزني حماية المال العام . إن المشاركة المكثفة للجماهير الشعبية، نساء و رجالا و شبابا، في الوقفات الاحتجاجية المحلية والجهوية و الوطنية و كذلك المسيرات التي تدعو إليها الجمعية المغربية لحماية المال العام جعلت النظام المخزني يعيد النظر في التعاطي مع الفساد، فأنشأ أربع محاكم خاصة بالجرائم المالية بالمحاكم الاستئنافية في كل من مراكش و فاس وطنجة والرباط، مع القيام ببعض الإعفاءات من المهام لمن تورطوا في تبديد المال العام على خلفية أحداث الحسيمة، وهي إجراءات لا ترقى إلى المحاسبة الحقيقية ولم تعرف محاكمات بل هناك تغيير في الأدوار ليس إلا .
إن الجماهير الشعبية لم تعد تخاف من مناهضة مظاهر الفساد و من لوبياته، أو ممن يحميهم، بل اصبحت لها مناعة ضد الخوف والترهيب و هي مستمرة تدريجيا في حماية المال العام و الثروات الوطنية من النهب إلى أن تسقط أخر قلعة من قلاع الفساد.
ملحوظة: ستعقد الجمعية المغربية لحماية المال العام مؤتمرها الوطني يومي 31-30 مارس 2019 بالرباط