من سرق حذائي… ؟
◆ زهرة عز
«من سرق حذائي…؟ « رمت جميلة رشّاشها بوجه الرجل الأحمر بثبات أفقده اتزانه، وظلّ ابتسامة حزينة ينير وجهها المتعب، ثم بيد نحيفة مسحت جبينا يندّ عرقا، فقد مشت أميالا طويلة بين أكوام التراب والحجر في طريق غير معبّدة، بعدما أقبرت ميزانيته بجيوب مثقوبة..
مدّت قامَتَها القصيرة حتى تنظر بعيون الرجل الفارعة.. اختفت ابتسامته الصفراء وراء ذهونه المكدسة فاسحة المجال لحيرة زادت من ترهل رأسه واختفاء رقبته… وكالأبله نظر بعيونها يستقرىء أفكارها.
اتسعت عيناه مثل كرة المضرب وهو يتراجع مذعورا خطوة للوراء، فجأة بدأ ينتفض وجسمه ينكمش، وينكمش.. اضطرت الجميلة أن تجلس القرفصاء حتى ترى القزم الصغير الذي أصبح عليه، تسلل هربا من بين أقدامها الحافية .. ومازال يتقلص و ينكمش على نفسه. توقف ليسترجع أنفاسه. بحث عن انفه، لم يجده، وهو يتحسس وجهه، هاله كبر عيونه البارزة ثم اختفت اليدان. وضعته الجميلة في كفها، ونظرت إلى عيونه بإشفاق، انتفض ورفرف بجناحيه هلعا، رأى صورته بمرآة عيونها البريئة وقد أصبح ذبابة حمراء. أدرك حينها أنها تعويذة البراءة والصدق.
فكر برعب انه مسخ ذبابة وليس كائنا أخر أكثر نظافة وجمالا؟؟ .. ربما لأن دماغه مشابه لدماغ الذبابة، لا يستعمل منه سوى الدماغ المتوسط بينما باقي الأجزاء تالفة ومعطلة، لذلك فوعيه بسيط وإدراكه محدود..
وربما لأنه لا يولّي اهتماما لجميع حواسه كما الذبابة، يستعمل فقط الحاسة الأكثر أهمية في لحظة جشعه وجوعه للنهب، لذلك لا يرى كل البؤس المحيط به، ولا يسمع شكايات المظلومين أو أنات المرضى، ولا يتكلم أبدا عن مصدر ثرائه المشبوه. يستعمل فقط حاسة الشم و اللمس.. أو ربما لأن لديه قدرة غريبة على رؤية العالم بنظرته الشخصية، كما الذبابة، ومن هنا أنانيته، وسعادته بتبني مقولة نابليون « أنا ومن بعدي الطوفان» ، لذلك فكل شيء يدور في فلك ذاته.
انسلت الذبابة من كف جميلة المنبسط وهي تفكر في مصابها، وطارت بعيدا بسرعتها القصوى في خط عمودي رأسي، تم بجزء من الثانية قامت بدوران حول الساحة ..
وهو يغادر المدرسة محلقا، أدرك الممسوخ بوعيه البسيط انه كما الذبابة، لا يعرف التدريج في السرعة، انطلق بأقصاها يتسلق سلم المجد العمودي وأصبح من الأثرياء بوقت قياسي. اختار اقصر طريق للنهب وأكثرها ضمانا: جيوب الشعب، والتجارة بالسياسة، فسوقها مريح..
وكما هو طيران الذباب الذي حيَّر العلماء لمخالفته قوانين الجاذبية، كان طيرانه مخالفا لكل قوانين القيم والأخلاق، قانونه الخاص الذي سطره « الغاية تبرر الوسيلة «. وهكذا انطلق في عالم الفساد بأقصى سرعته، وقد رمى بكل المبادئ خلف ظهره.
غير بعيد عن مركز المدينة، حطّت الذبابة على حافّة حاوية للمتلاشيات. كانت هناك امرأة في عقدها الثاني، شاحبة الوجه، كل ملابسها بيضاء من قمة رأسها حتى أخمص قدميها حتى بلغتها المهترئة. بدت كحمامة بيضاء وسط أكوام من الأكياس السوداء، تحمل بيديها فرد حذاء أسود، وكالفراشة تتنقل من كيس لكيس تبحث عن الفرد الثانية، وجدت فردة أخرى بلون احمر فكرت لربما تستطيع فركها بالرماد أو الفحم سيُصبِح لونها اسود كما الأخرى، حتى الفرق البسيط بينهما في الشكل لن تنتبه إليه رفيقات جميلة بالمدرسة، ثم سعيدة بغنيمتها، ولّت الأدبار راجعة إلى بيتها المتكسر الجدران والى قريتها النائية هناك حيث لا ماء ولا ضوء ولا حاويات أزبال، تنتظرها أفواه صغيرة جائعة وأعباء كثيرة من غسيل وتنظيف وتنقية القمح ببيت الخليفة عليها إنهاؤها قبل رجوع جميلة من المدرسة وغروب الشمس.
رجعت الذبابة أدراجها للمدرسة ، تبحث عن مكان نتن تحط عليه، لم تجد ملاذها سوى برأس مترهّل آخر بدون قفاة، فاردا ابتسامته البلهاء يقف وسط ساحة المدرسة، يتيمة الزهر والشجر، وحوله رجال من طينته وأطفال يتحدثون بصخب عن يومهم المشهود وهداياهم المنتظرة، والشمس بكبد السماء تلسع وجوههم الداكنة المغبرة ..
ابتدأ الحفل، وعلا الهرج والمرج، ووزعت ابتسامات صفراء ومحفظات بلون سماء تطلعات الأطفال وبلون أحلامهم..
بينما انشغل الكائن الآخر بالذبابة وبتحريك رأسه، أزعجه أنها تقتات منه، ثم هوى بمسبحته الثمينة على رأسه حتى تناثرت حباتها الكريمة على الأرض. كانت الذبابة أسرع منه وطارت بعيدا، لها قدرة عجيبة لرؤية الزمن بشكل مختلف، وكأنه بالعرض البطيء لذلك تستبق الخطر كما الممسوخ، قبل أن تهوى عليه يد القانون يكون قد أفلت من المحاسبة والعقاب وطار بعيدا ليحط بأمان على سطح أكثر ثباتا.
فجأة، رمت السماء بثقلها، أحذية وحقوق، ولاح بالأفق غيوم ذباب هاربة من العاصفة، بينما ارتفع صراخ الأطفال بذعر، طاعون ذباب يلوح بالأفق..
أيقظه من شروده رجع صدى كلمة شكرا ينخر عميقا بقلبه، هناك دمعة متحجرة، احمرّت أذناه خجلا، نكّس رأسه وهو يرى قدمي الطفلة الجميلة حافيتين وابتسامتها المشرقة وهي تعانق محفظتها الوردية. نظر في عينيها ثانية يبحث عن إنسانيته وآدميته، ثم خرج مهرولا تلاحقه نظرات استغراب، ركب سيارته الفارهة، متوجها لفيلته الفخمة، وقد يركب يخته ليريح أعصابه ويبتعد في جوف البحر وهدوئه عن ضوضاء ضميره… طنين الذباب يزّن بدماغه، يخاف كثيرا أن يوقظ أجزاءه النائمة فيصبح أكثر وعيا بمسؤوليته وأكثر إدراكا لحجم المأساة…