الثقافة

وظيفة الكاتب هي إحداث صدمات إيجابية في مختلف المؤسسات

عبد الصمد بن شريف-صحافي وكاتب

لم تتأسس في المغرب  ثقافة تثمين ما يطرحه المفكرون والكتاب والمبدعون من آراء وأفكار واقتراحات، وما ينتجونه من نصوص في شتى الأجناس الابداعية، وكأن مجهودات هؤلاء لا تعدو أن تكون صيحات في واد. وإذا كان الأمر كذلك، لا نتصور أن تكون هناك سياسة ناجحة وذات جدوى، ولا قرارات مؤثرة،ولا نهضة ثقافية ولا انتقال اجتماعي إذا لم تستند إلى أرضية وتصورات وأفكار واضحة، تؤطرها وتوجهها، وترسم لها الآفاق الآمنة والواعدة. وهذا ما يعجّل، اليوم، بضرورة تطليق المقاربات التقليدية والنمطية في التعاطي مع الفكر والثقافة والإبداع..
الملاحظ في قراءة مسارات تطور الفاعل الثقافي في المغرب  ومآلاته، أن صيرورة العمل الثقافي مرت بمجموعة من المراحل، بدءا من الانخراط في معركة الاستقلال وما طبعها من حماس ومشاعر وإجماع إلى اتخاذ موقف معارض ومنتقد بحكم التناقضات والمفارقات التي أفرزتها مرحلة ما بعد الاستقلال، وكان الهدف المركزي لهذا الموقف ضمان مساحة ديمقراطية، في ظل الصراع مع السلطة. ولعبت أحزاب المعارضة، خصوصاً المحسوبة على اليسار، دورا أساسيا في تمكين المثقفين من منابر للتعبير عن أفكارهم وطروحاتهم، خصوصاً في القضايا التي ترتبط ببناء الدولة الوطنية الديمقراطية والمجتمع الحداثي.
غير أن المتغيرات السياسية والتحولات البنيوية التي مست يقينيات ومسلمات كثيرة، على المستوى العالمي، وهبوب رياح التجديد الإيديولوجي والمراجعات الفكرية، عوامل جعلت التعاطي مع السلطة مسألة ممكنة، من دون أن يكون ذلك رديفا لسلوك انتهازي، بل أصبح مقبولاً أن تتبنى النخبة الثقافية مفاهيم وخطاب السلطة، فتحول جزء من المثقفين إلى خبراء يبيعون رأسمالهم الرمزي، أو يعرضونه على من يدفع أكثر.
ومع اندلاع ثورات الربيع العربي، أصيبت شريحة واسعة من المثقفين بصدمة وذهول غير مسبوقين، عندما وجدت نفسها أمام وقائع جديدة وموجات من التغيير، كان عنوانها الأبرز محاربة الفساد والاستبداد وإسقاطهما، فانحازت عدة أصوات ثقافية إلى هذا المد الثوري، وانفتحت لها شهية التغيير والتفكير بأفق مغاير كشكل من أشكال تبني الشعارات التي رفعها الشارع. وقد ينسحب هذا الترسيم على تجارب دون غيرها في المنطقة العربية. لذلك، فهو يكتسي طابع النسبية، وما يهم هو تحدي تجاوز المعيقات المتراكمة عبر عقود في الحقل الثقافي،  من خلال تأهيل النخب الثقافية، لتلعب دورها التاريخي، في نشر قيم الحداثة والتفكير العقلاني والمتسامح، ومواجهة انزلاق المجتمع إلى التفكير المنغلق المبني على التبسيط والتعليل السطحي، ومن ثم بلورة أجوبة ثقافية لمختلف الإشكاليات والظواهر التي تخترق مجتمعاتنا. ولعل التنظيمات الذاتية للمثقفين معنية، قبل غيرها، بعملية تأهيل النخب الثقافية، لأنها تشكل أداة هذا التأهيل وموضوعه، والواقع أن معظم هذه التنظيمات الخاصة بالمثقفين تعاني من أعطاب وممارسات وتقاليد غير ديمقراطية، تشكك في إمكانية قيامها بعملية التأهيل هاته، ما لم تتخلص من حلقيّتها الضيقة، وممارساتها البيروقراطية.
وبناء على هذا الوضع، يتعين إقامة حوار صريح وجريء وشفاف مع الجهات الوصية على الثقافة، يشمل كل المستويات والقضايا، قصد ترسيم علاقة واضحة وعادلة بين الدولة والمثقف، في ضوء المتغيرات والتحولات الجارية، وطنيا وإقليميا وعربيا ودوليا، فالدولة الديمقراطية لا يمكن أن تمس باستقلالية المثقف وحريته، وكل اجتهاد يعاكس هذه القاعدة لا يمكن اعتباره إلا ضعفا لتلك الدولة، يجعل ديمقراطيتها موضع استفهام وتشكيك. لذلك، علينا أن نقطع مع أي تردد في ترسيخ هذه القاعدة، لأن الثقافة يمكن أن تشكل مصدر قوة وشرعية ومصداقية للدولة وسندا للديمقراطية، وحاضنا للحرية والانفتاح والتسامح والاختلاف والإبداع الخلاق..
في واقع الأمر، هناك مثقفون غير قليلين أصيبوا بخيبة أمل كبيرة وبإحباط شديد، لاعتبارات كثيرة ومتداخلة، أبرزها التحولات الجذرية التي مست وظيفة المثقف وصورته في المجتمع المغربي، بحيث لم يعد يتمتع هذا المثقف بالقيمة الاعتبارية والرمزية نفسها التي كانت له في العقود الماضية، ولم يعد مصدر إغراء تجاه الدولة، وحتى تلك المكانة التي كان يحتلها في البنيات الحزبية، لم تعد قائمة. فبدل أن ترتفع أسهم المثقف في بورصة السياسة، نجدها هوت إلى أدنى درجة، فيما يشبه عقوبة من السياسي تجاه المثقف. أما الدولة، بمكوناتها ودواليبها ووظائفها، فقد عمدت، بوعي أو بدون وعي، ومنذ سنوات، إلى احتواء المثقف، لا سيما المحسوب على اليسار، أو المثقف المستقل، في مسعى حثيث إلى تحييد فعاليته وطمس إشعاعه. وربما أنجزت جزءاً من هذه الأهداف، فتحقق لها هدف قتل المثقف، من دون أن تدرك أنها بفعلها ذاك، ارتكبت خطأ جسيماً، حين استأصلت من المجتمع أدوات التفكيرالعقلاني والنقدي  والإنتاج الرمزي الضروري لأي مجتمع. .
وما حدث ويحدث في مجتمعنا من تطورات وتحولات شاملة وعميقة، وما أفرزته السياقات الاجتماعية والسياسية والاقتصادية من أسئلة وإشكالات جديدة، يطرح، بجدية وإلحاح، انخراط الفاعلين الثقافيين في مختلف الديناميات، لوضع حد لاستقالتهم غير المعلنة وإعادة الاعتبار لدور الكاتب ورسالته ومكانته داخل الدولة والمجتمع، لأن الكاتب/الفاعل الثقافي، في النهاية، مهما كان الحقل الذي يهتم به، لا يكتب لمجرد إشباع رغبات ونزوات ذاتية، على الرغم من حضورها وأهميتها في سلم أولوياته، بل يكتب من أجل التفاعل مع محيطه في أبعاده المختلفة، علما أن وظيفته بشكل من الأشكال هي  إحداث صدمات إيجابية في مختلف المؤسسات، ويكتب من أجل استفزاز المجتمع في الاتجاه السليم، وجعله مهيأ، نفسياً وذهنياً، لتقبل القيم والأفكار المؤسسة للحداثة الفعلية، والديمقراطية الملموسة، والعقلانية الكونية.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

زر الذهاب إلى الأعلى