المرحلة توجب طرح السؤال: ما معنى الماركسية؟ -الجزء الثاني-
◆ محمد بوجنال
قلنا في ورقة سابقة -الجزء الأول- أن الماركسية مفهوم يتضمن منطقيا مكونات يحدد دلالتها مستوى وعي البروليتاريا في التاريخ؛فما طبيعة الارتباط فيما بين المكونات تلك علما بأنها ترفض نظريا وممارسة الخشبية والدوغمائية. وهنا لا بد من استدعاء أحد مكوناتها الذي هو مفهوم « الطبقة « التي تخترق المكونات تلك وتربطها وتوحدها ببعضها البعض جدليا.
فالبروليتاريا فلسفيا هي الطبقة الحاملة لقوى التناقض الاجتماعي في كونيته وتميزه. فهي، في التحديد ذاك، لا تعتبر فقط أهم قوى التناقض الاجتماعي في الزمن الحاضر، بل وكذلك انطولوجيا ومنطقيا وتاريخيا الطبقة الحاملة للمستقبل. لذا، فالمنطق يحددها على شاكلة النفي(الهيجلي) أو قل أنها طبقة وجدت في كنف المجتمع البورجوازي الجديد معتبرا إياها كهامش بداخل المجتمع البورجوازي؛ وبلغة الدقة الرياضية والمنطقية نقول أنه حددها ك»فراغ « داخل المجتمع الجديد؛ ونظرا لشعورها وإحساسها بالإهانة، أحست أنها تتقاطع ومثيلاتها في بقاع العالم نفس الإهانة و الاحتقار والسلب، فكان ذلك حافزا لبناء والتأسيس لأساليب التغيير الكفيلة بتغيير وتحرير الإنسانية على أساس أن مصلحتها هي مصلحة الإنسانية برمتها. وبناء على ذلك، تبنت الأممية الشعار البروليتاري التالي: « نحن لا شئ،بالوحدة نكون «. وعليه، فإمكانية ربك» اللاشئ» الحاضر بالمعنى الكوني للمستقبل هو التعريف الملائم والسليم لمفهوم الطبقة البروليتارية كما تراه ماركسية ماركس الوارد في مخطوطة 1884 وهو المعنى الذي لم يتخل عنه.إنه التعريف الذي يمكننا من إبراز أهمية التناقض في الحقل السياسي الذي يتحدد في استدعاء السلب كإثبات: « نحن لا شئ ،بالوحدة نكون «.إنه الشعار الذي أوجب تنظيم الطبقة البروليتارية في السياسة وهو،كما قلنا المقصي منها؛ فتحديدها السلبي من طرف المجتمع البورجوازي حفزها على اعتبار مصلحتها مصلحة كونية.
لقد أعطينا تحديدا فلسفيا لمفهوم البروليتاريا، لكن ما معناها على مستوى الاقتصاد السياسي الانجليزي؟ هذا الوضع المجتمعي البورجوازي الجديد ساعد على بناء نظرية الرأسمال حيث فيه تم بناء مفهوم « الصراع الطبقي «. ومعلوم أن هدف مؤلف « الرأسمال « كان هو العمل والإصرار على ضبط مفهوم» الصراع الطبقي « وبالتالي مفهوم طبقة البروليتاريا. إلا أن ماركس الذي كثف من جهوده لإنجاز هذه المهمة لأن مؤلف « الرأسمال « على مستوى الكتاب الثاني عرف موت ماركس. فعلى الرغم من محاولات انجلز في الكتاب الثالث من مؤلف « الرأسمال «، إلا أن التناول المقنع لمفاهيم لمفهوم « الطبقة «و « الصراع الطبقي « وبالتالي ل» طبقة البروليتاريا « بقي مفتوحا في الوقت الذي كان هدف ماركس يتمحور أساسا في بناء تصور علمي لهذه المفاهيم من خلال مكونات هذا المؤلف الضخم: ” الرأسمال”
إذا كان هذا هو حال « الطبقة « على المستوى الفلسفي والمستوى الاقتصادي، فكيف يحددها المكون السياسي؟ أو بمعنى آخر، ما المفهوم من صيغة:» السياسة الطبقية «؟ إنه الموجود الذي يخترق مختلف مكونات « الماركسية « وفق قاعدة الربط الجدلي بين مختلف المكونات التي تشكل الفكر الماركسي أو قل أن « الطبقة السياسية « تلك هي الموجود الذي به وفيه توجد الوحدة الفعلية وكذا الممكنة لل» الماركسية «؛ لذا، فمركز اهتمام الماركسية منصب على العلاقة بين « الطبقة « و « السياسة «؛ فالعلاقة تلك هي علاقة « السيطرة «. فهذا التحديد النظري « للطبقة «، واستثماره في دراسة العلاقات الاجتماعية للإنتاج تقتضي الضرورة استحضاره في كل التحليلات والمناقشات بهدف وفي اتجاه إلغاء الطبقة المسيطرة أو قل تغيير العالم عوض الاكتفاء بتفسيره وهو ما يعني أهمية استحضار العلاقة بين « الطبقة « و» السياسة « باعتبارها علاقة السيطرة من خلال علاقة التحديد(الاقتصاد).
وتجدر الإشارة إلى أن العديد من الماركسيين يرون أن هذا الإلغاء والتحضير لهذا التغيير لا يمكن أن يحصل فوضويا بقدر ما أن ذلك يتطلب إبداع الأساليب بحثا عن القوى المهضومة الحقوق (البروليتاريا) في المجتمعات المحيطة بنا والحرص على تربيتها وتنظيمها في شكل طبقي يمكنها من امتلاكها ذاتيا القدرة على إلغاء النقيض وتحقيق التغيير. بناء على السابق، فالسياسة تعرف في الماركسية باعتبارها العلاقة الجدلية بين النظرية والممارسة من داخل « التنظيم « الذي هو المفهوم المرادف لمفهوم « التربية « بمعنى أن الضبط الذاتي للتمييز الطبقي لا يحصل إلا بالتنظيم والتربية؛ وبلغة أخرى، فإحلال الطبقة البروليتارية محل نقيضها البورجوازية يقتضي حتما حصول واستحضار مفهومي « التنظيم « و « التربية « وهما العمليىة التي لا يجب أن تأخذ طابع الخشبية والدوغمائية بقدر ما أنها العملية التي يبقى شكلها مفتوحا بفعل متغيرات وحاجيات المجتمع. وفي هذا الإطار اقترح العديد من الماركسيين الذين من بينهم لينين، أحد هذه الأشكال التي سماها ب « الحزب «. وقد برر لينين مقترحه هذا باعتباره أنجع الأشكال لتنظيم وتكوين وتوسيع قوة وقدرات البروليتاريا وحمايتها من الإخفاقات والانكسارات: فالماركسية يجب أن تكون منخرطة في قضايا وقلب الواقع ؛ ولا يمكن أن تكون كذلك إلا إذا اعتمدت « التنظيم « و» التربية « الحزبية؛ف « التنظيم « و» التكوين « هما أساس هذه العملية. فمقترح « الحزب « هو الشكل « التنظيمي « الذي رآه لينين الكفيل بتمكين البروليتاريا وإحلالها محل الطبقة البورجوازية. هذا شكل تنظيمي تم اقتراحه واختباره في التاريخ؛ بمعنى أن الماركسية ترى بتعدد الاقتراحات وفي هذا أحد الأجوبة عن سؤال : ما معنى الماركسية الذي يمكننا الزيادة من توضيحه بالتدريج كلما تقدمنا في الطرح.
نستحضر من جديد السؤال: ما معنى الماركسية؟ سبق القول أنها ليست الاقتصاد حصريا، ولا الفلسفة حصريا ، ولا العلم حصريا، ولا السياسة حصريا ولا التاريخ حصريا، بل هي الفكر الذي يخترق، نظريا وممارسة، فكر مختلف هذه المجالات وفي نفس الآن ضامن وحدتها. وهنا لا بد من طرح أن هذه النقاشات الماركسية، كما سبق القول، تستدعي وجوبا فكرة « التنظيم « الذي، وفق البديهية الماركسية، لا يمكن اعتباره كأداة لتحقيق أهداف محددة قبليا أو قل ذات مرجعية خارجية بقدر ما أنه أحد مكونات الأهداف نفسها باعتباره قوة ذات وجود مجسد في الواقع كغيره. فالماركسية في اختراقها للفلسفة، ترى أن الفكر لا يكون له وجود إلا إذا اتخذ شكل التنظيم الذي يستحيل فصله عن الواقع لاعتباره جزء لا يتجزأ منه أو قل يسمى فكرا إذا اتخذ شكلا تنظيميا يستحيل تصوره بمعزل عن الممارستين من خلال مفهوم « الطبقة «. إنها مكونات الوجود لا أدوات التوظيف؛ وهذا يعني كونه،» الوجود « و» المنطق «، فكرا جدليا حاملا، وباللزوم، مفهوم التغيير الذي هو الممارسة وقد تحولت،بفعل التراكم،إلى الثورة على الأوضاع السلبية في العالم؛ وكل ذلك وفق قاعدة جدلية النهائي واللانهائي. وهنا نرى أن الماركسية، في اختراقها الفلسفة، قد ركزت كثيرا على عامل ومفهوم « التنظيم « كأحد مكونات معناها.
أما بصدد اختراق الماركسية للعلم، فلا يمكن فهم معنى الماركسية بإهماله. فالمنطق يؤكد سلامة ذلك حي لا ضبط ولا تمييز للمصالح ولا للحقيقة ولا للاكتشاف بدون اختراقه حيث أن ممارسة الثورية هي ما يمكن أيا كان من اكتشاف المصالح المختفية وراء ما يذاع وينشر ويلقن.
أما اختراق الماركسية مجال السياسة، فهو العملية المتممة لنشاط المجالين السابقين ليحصل التحديد الفعلي والجدلي ل» معنى الماركسية « أو قل أن بناء وفهم الماركسية يقتضي حضور تفعيل الانتقال في جدليته مع مرافقيه، من مرحلة التمييز الطبقي إلى مرحلة الممارسة الجماعية الفعلية. وهذا ما قال به ودافع عنه ماركس في كتابه البيان الشيوعي ؛ لذلك،وفي نفس سياق متابعة البحث عن المعنى طرح ماركس السؤال: ما معنى الممارسة الجماعية ؟ ما معنى الشيوعية ؟ وبالتالي ما معنى الممارس الجماعي أو الشيوعي ؟ وقد كان جواب ماركس هو كل من لا يميز أنشطته ونضاله نظريا وممارسة عن أنشطة ونضال الطبقة البروليتارية. بهذا المعنى،فالشيوعي يتقاطع ويتقاسم مع البروليتايا وضعيتها. وهذا التقاطع، وهذا التقاسم يبرز لنا أن الشيوعي يتميز بثلاث خصائص؛ أولها أن للشيوعي القدرة على التنبؤ بالمرحلة المقبلة أو قل أن له القدرة على توجيه الصراع وخلق شروط الانتقال من الوضعية الحاضرة إلى النتائج المنتظرة والمقبلة ؛ وثانيها أن الشيوعي يغلب دوما الكوني على المحلي والشخصي حتى وإن كانت هناك صعوبات تطرحها عملية الانتقال؛ وأخيرا ما يميز الشيوعي هم الإصرار على تصريف المواقف دون الخلط بين المصالح الكونية والطوارئ أو الحوادث المفاجئة؛ وقد استحضر ماركس إيقاع هذه الخاصية، إيقاع يتمثل في الهزائم المتتالية للثورات وندرة النجاحات التي سرعان ما تنقلب إلى هزائم؛ لكنه كان يلح على الإصرار والمثابرة إلى حين حصول النجاح الذي لا يعني في نظره سوى إحدى اللحظات التي هي، وبالكاد،لحظة الإبداع التي لا يمكن أن تنهزم. وبهذا المعنى فهم ماركس دلالة مفهوم « التنظيم».
ف « التنظيم « بالمعنى المشار إليه أعلاه، هو ما يقوي ويحدد ويوجه وضعية وحركة الشعب دفاعا عن الثورة أو ما سماه ماركس ب «الحركة العمالية الشمولية» التي امتلكت القدرة على تصفية الحساب مع الهزيمة. وعليه، ف « التنظيم» بهذا المعنى يعني ليس فقط تدبير النتائج، بل أكثر وأعمق من ذلك حيث يصبح الواقع المجتمعي يتضمن شيئا لا يمكن أن يهزم أو قل لا يمكن أن يتراجع إلى الوراء(الهزيمة)؛ إنه الانتصار الذي لا يعني أننا ربحنا المعركة بقدر ما أنه التتالي وفق قوانين الوجود التي هي جدل المتناهي واللامتناهي.فالانتصار ذاك لا يعدو كوننا قد تمكنا من التسجيل الفعلي في التاريخ،لإحدى نقط اللاعودة؛ وهذا يخرج الماركسية من معناها الخشبي لتصبح الفكر الذي يعين الحركة العامة، حيث الفرز،في التاريخ، بين ما أصبح خاضعا لقوانين اللاعودة(النجاح) وبين من ما زالت شروط نضجه لحدوث اللاعودة لم تتوفر بعد.وعليه،ف « معنى الماركسية « ليس هو فقط هزم العدو والعمل على إلغائه، بل المهم هو « تنظيم « عملية الانتقال من مرحلة التمييز الطبقي إلى مرحلة الممارسة الجماعية والتي تقتضي الحرص على تذليل تناقضات مرحلة التمييز تلك التي هي، وبالكاد،التي يجب أن نعكف على تنظيمها لحصول الانتقال.وبلغة أخرى،فالسياسة هي العمل على حل التناقضات الطبقية بحثا عن التوجهات التي تحقق التغيير الفعلي الذي هو اللاعودة أو قل الانتصار كحسم مرحلي كما سبق القول.ومعلوم أنه لحصول ذلك،فالسياسة مطالبة بالانخراط الفعلي في تشخيص الواقع كصراع بين الطبقات في أشكال متباينة. هذا الانخراط الفعلي هو أساس « التنظيم السياسي « الذي فيه ومنه الشراكة والمسئولية وبناء الأفق الذي لا يمكن حصوله خارج مكونات المعنى كجدلية في التاريخ.
بناء على ما سبق، يمكننا تحديد « معنى الماركسية « في كونها الفكر الذي تفرزه جدلية النهائي واللانهائي في التاريخ أو قل أنه الاختراق الجدلي، وباللزوم، لمكونات وحدته وهو ما يعني تناقضه ومفهوم الخشبية والدوغمائية في أشكالها الشعورية واللاشعورية. فالمكونات فواعل، شكل ومستوى علاقات صراعها الطبقي هو شكل وجودها الاجتماعي. ف « المعنى « هو العلاقة بين المكونات، وهذه الأخيرة هي الصراع في أحد أشكاله التي تتوخى المناعة أكثر فأكثر وهو ما سميناه ب « منجزات اللاعودة في التاريخ « الذي هو انهزام بدرجة ما من الدرجات، لجزء من مستويات المجتمع البورجوازي. لذلك، فعندما نتكلم عن « معنى الماركسية «، لا نقصد كونها فكرا مطلقا، ولا فكرا مغلقا عليه في خانة من الخانات كالقول بخانة الفلسفة أو العلم أو السياسة، بل الماركسية معنى يحدده دوما جدل تركيب تلك المكونات، عبر العملية « التنظيمية « التي، بفعلها، تتشكل دوما العملية الفعالة لا الساكنة والخشبية (التكرار القاتل). فبدون تفعيل هذا المكون « التنظيمي «، ومن داخله المكون الاقتصادي والعلمي والفلسفي والسياسي، تحصل الخشبية والدوغمائية التي هي الإلغاء الفعلي ل « معنى الماركسية «. إن « معنى الماركسية « بهذه الدلالة، والنابع نظريا وممارسة من داخل المجتمع الراهن، يعمل نظريا وممارسة محددا ذلك في التاريخ،على إبداع ،من داخل النظام الرأسمالي، نظام آخر بخلق شروط حصوله.مما يؤسف له أن هذه الدلالة للماركسية لم تستطع أن تحقق النجاح لحد الساحة إلا أننا عندما نستحضر منطق التاريخ، نقول أنها انهزامات مؤقتة ستتلوها النجاحات كلما حررناها من الخشبية والخانات المغلقة.
إن بناء « المعنى الإبداعي للماركسية « يقتضي العمل على خلق شروط انفتاح قواه لإخراجه من الخانات المنغلقة والمخشبة والخشبية؛ إبداع يتبنى في بنائه ومكوناته ومجالسه وورشاته وقراراته وأنماط ربط مكوناته، قاعدة إعطاء العقل والنقد والمختبر ومراكز البحث معانيها الجدلية السليمة بعيدا عن كل أشكال الانغلاق وشعار « معزة ولو طارت». لذا، لا بد من البناء الحي والجدلي ل» معنى الماركسية « وتخليصها من أشكال البريكولاج التافه؛ إنها ، مرحلة حصول تحرير « معناها «، هي الفكر الذي له القدرة والإمكانات الفعلية التي تؤهله لتقديم نظام بديل للنظام الرأسمالي.