الإسلام والعلمانية
◆ غريب محمد
الإيمان هو المعطى الأول في ثقافة المجتمعات العربية والإسلاميةّْ، حيث يعتبرالدين هو المرجع الأول و الأخير بالنسبة للمعرفة والتشريع وتنظيم المجتمع، وهو البديل الحقيقي عن كل ما يريد الغرب أن يفرضه على المسلمين.
وفق هذا المنطق، الديموقراطية موجودة في الإسلام ، وحتى الحداثة. أما العلمانية فهي منتوج غربي جاء لمواجهة الكنيسة، فهي إذن لا تعني الإسلام..ولا تعني المجتمعات العربية و الإسلامية.
وعلى الرغم من كون المجتمعات العربية و الإسلامية تعيش نوعا من “السكيزوفرينيا” وتناقضا بين ما يتم الإعلان عنه رسميا وبين الواقع المعاش، فلا أحد يريد الاعتراف بكون الحياة العامة تحكمها قوانين ومؤسسات بعيدة عن الإسلام و تعتبر إفرازا لتاريخ أوروبا المعاصر. فالدساتير و البرلمانات والحكومات و المؤسسات والقوانين والأحزاب السياسية والاعلام والثقافة والمدرسة…هي كلها من أنتاج المجتمعات الغربية ..وحتى على مستوى الحياة الخاصة وكما صور ذلك الروائي الكبير نجيب محفوظ فإن المواطن في المجتمعات العربية “يعيش حياة عصرية يخضع فيها للقانون المدني والقانون الجنائي الغربيين ويجد نفسه في شبكة معقدة من العلاقات الاجتماعية و الاقتصادية هو غير متأكد من مدى توافقها مع الإسلام . إن تيار الحياة يفرض نفسه عليه وينسى معه هواجسه حتى يسمع صوت الآذان أو يقرأ صفحة دينية لإحدى الجرائد لتتأجج مخاوفه ويكتشف أنه يعاني من ازدواج الشخصية .. فنصفه المؤمن يصلي ويصوم ويذهب إلى الحج لكن نصفه الثاني يلغي كل ذلك في الأبناك و في المحاكم وفي الشارع وفي دور السينما والمسارح بل حتى في بيته وسط أهله أمام التلفاز”.
أمام هذه الازدواجية فأن المجتمعات العربية والإسلامية ولأنها لا تستطيع أن ترفض الديموقراطية وحقوق الانسان و النظام القانوني الذي يعلن ويحمي هذه الحقوق فأنها وبدل ان تدمج فلسفة التنوير والحداثة في الدين الإسلامي – لأن الإسلام برهن تاريخيا على قدرته على التكيف مع مختلف الثقافات واستوعب إيجابيا كل اشكال التنظيم الاجتماعي والاقتصادي- فإنها قامت بوضع هذا النظام بأكمله جانبا واستمرت في رفض ما يفرضه التاريخ مع كل النتائج الكارثية التي نعرف.
التنوير بدأ عربيا وإسلاميا
ليس في الإسلام كنيسة. هذا هو الاعتراض الأول على العلمانية. هذا صحيح ، ليس هناك نظام في الإسلام يشبه ما هي عليه الكنيسة الكاثوليكية . لكن هناك الفقهاء الذين يحتكرون قراءة النصوص الدينية واستنباط الأحكام الشرعية . ومن خلال هذه النصوص يتم أيضا إضفاء الشرعية على السلطة السياسية الحاكمة. وبهذا نجد أنفسنا في نفس الوضع الذي كانت عليه الكنيسة قبل نجاح التنوير و الحداثة . إن كل من يريد معارضة السلطة سيجد من يواجهه بالقول :”الإسلام يقول ..”.لقد أصبح الفقهاء يتحدثون باسم الإسلام لإضفاء الشرعية والقداسة على أقوالهم وعلى الحاكمين. لقد تم إذن التحكم في الحقل الديني وتم تأطيره وضبط وتحديد دور الفقهاء لخدمة السلطة السياسية و شرعنة اختياراتها .
وعلى عكس النظرة التبجيلية للدين فإن النظرة التاريخية تؤكد أن الإسلام مثله مثل كل الديانات يحمل تاريخا من الصراعات السياسية والفكرية والثقافية والفلسفية بل حتى الايمان نفسه له تاريخ ، وهو عبارة عن بناء اجتماعي متطور، لأن العقيدة لم يكن لها نفس المضمون في كل المراحل التاريخية .لقد كانت تتأثر وتتطور بفعل ما كان يقوم به الفاعلون الاجتماعيون.
في الفترة الذهبية من تاريخ الحضارة العربية والإسلامية (من القرن السابع إلى القرن الثاني عشر) كان الفقه الإسلامي متعددا ومبنيا على المناظرة، ولم تكن السلطة السياسية تفرض وجهة نظر هذه المدرسة أو تلك. كان يقال مثلا :” يقول أبو حنيفة…ويقول الإمام الشافعي..” لم يكن أحدا يدعي الحديث باسم الإسلام.
لكن هذا العصر الذهبي أنتهى مع وفاة ابن رشد(1198م) وفشل مشروعه الفكري العقلاني. لقد اختفت المناظرة ومعها دخل الفقه الإسلامي مرحلة من التعصب والتقليد بسبب تدخل السلطة السياسية لإحتكار الحديث بإسم الدين. هذا الوضع لا زال مستمرا الى يومنا هذا. إن المجتمعات العربية والإسلامية تعيش إذن منقطعة عن المرحلة الذهبية التي عاشها الفكر العربي و الإسلامي ومعه الفقه الإسلامي. لقد دخل الى عالم النسيان كل ما أنتج خلال هذه المرحلة من تاريخ الحضارة العربية والإسلامية.
إذن التاريخ يؤكد أن مسيرة التنوير بدأت في العالم العربي والإسلامي قبل أن تبدأ في أوربا خلال القرن السادس عشر ..وصراع العقل من أجل أن يتحرر من كل القيود التي تضعها السلطة في مواجهته لم يكن أبدا سيرورة ميزت فقط المجتمعات الغربية. لقد تعرض المعتزلة لمحنة كبرى وتم تحريم نظريتهم الفلسفية وتمت إباحة دم كل من يعتنقها، وذلك بقرار سياسي من الخليفة القادر(420ه-1029م) الذي أصدر مرسوما بحضور القضاة والفقهاء الذين وقعوا عليه. كما أن محنة الفيلسوف ابن رشد معروفة ، وهو قاضي القضاة في قرطبة ، حيث تم تكفيره وحرق كتبه مما أدى به إلى أن يموت كمدا في مدينة مراكش، هذا في الوقت الذي نجح فيه مشروعه الفكري العقلاني نجاحا باهرا في الفضاء الأورومتوسطي.
إذن ولأن العلمانية ليست موقفا ضد الدين ولأنها لا تعادي الايمان ولأنها أيضا ليست نتيجة لمسار تاريخي خاص بالمجتمعات الغربية ، فإنها لكل هذه الاعتبارات تعتبر إنجازا كبيرا في تاريخ البشرية قدمت من أجله العديد من التضحيات سواء في تاريخ المجتمعات العربية والإسلامية أو في تاريخ المجتمعات الأوربية، لأن النضال من أجل الحرية ليس حكرا على هذا المجتمع دون المجتمعات الأخرى.
صحيح أن العلمانية هي مفهوم فرنسي بالدرجة الأولى لأنها تختصر تاريخا طويلا من الصراعات الفكرية والفلسفية والسياسية عرفها المجتمع الفرنسي ومعه بقية المجتمعات الغربية . لكن هذا لا يجب أن يقودنا إلى رفضها ،لأنه بحسب هذا المنطق يجب أن نرفض كل ما أنتجه العقل الغربي بما في ذلك الإنجازات العلمية والتقنية التي ما كانت لتتحقق لولا النضال الطويل من أجل تحرير العقل و تحرير الإنسان من سلطة رجال الدين ، وتدخلهم في حياة الناس. إن المطلوب هو تغذية مفهوم العلمانية بتاريخ الصراعات الفكرية والفلسفية والسياسية التي ميزت الحضارة العربية والإسلامية، والتي كان محورها هو تحرير العقل من كل أشكال التفكير الدوغمائي وذلك على إمتداد فترة تاريخية دامت أزيد من خمسة قرون. بهذا نعطي للعلمانية مضمونها العربي والإسلامي .
هل العلمانية تعادي الدين؟
العلمانية هي ضد الدين .هذا هو الاعتراض الثاني على العلمانية الذي يعتبر أصحابه أن فصل الدين عن السياسة هو بمثابة أقصاء للدين من حياة المجتمع ، وحصره في دائرة الحياة الشخصية. هذا غير صحيح لأن العلمانية لا تعني طرد الدين من مملكة العقل بل تعني إعمال العقل في كل مجالات العمل والمعرفة، وهي تحرير السياسة من الدين لتبقى مجالا للصراع حول المصالح دون إضفاء القداسة على هذا الموقف أو ذاك وهي أيضا تحرير الدين من السياسة حتى لا يتم توظيفه خدمة لهذا الموقف السياسي أو ذاك ، وحتى يبقى عمل الفقهاء المجتهدون بعيدا ومستقلا عن الفاعلين السياسيين.
إن استقلال الدين عن السياسة لا يعني تهميش دور الدين في المجتمع ، بل على العكس إنه يعني عدم مأسسة الدين ..وفتح المجال أمام الفقه الإسلامي ليأخذ مجراه الطبيعي في توافق مع الواقع الحي وبعيدا عن أي توجيه من السلطة السياسية ، ومستفيدا من تطور العلوم الإنسانية و متخلصا من ثقل التقليد والدوغمائية.
إن الدولة المستبدة في مجتمعاتنا تستغل الدين وتحتكره من أجل توظيفه لإضفاء الشرعية على نفسها واختياراتها الرجعية ..ولهذا فقد قامت بضبط الحقل الديني في أطار مؤسسات رسمية وخنقت الفقهاء، وذلك بتحديد صارم لدورهم الذي تم إختصاره في تدبير المجال التعبدي والبحث عن حيل فقهية لتبرير الواقع .لقد تحولوا بذلك الى موظفين خاضعين لتوجيهات السلطة القائمة ، مما أثر سلبا ليس فقط على الفقه الإسلامي فحسب بل حتى على الدين الإسلامي نفسه، الذي تحول الى دين طقوسي جامد وشعبوي معزول عن الواقع الحي والمتغير باستمرار ..وهذا ما يفسر التناقض الصارخ بين سلوك المسلمين وبين القيم النبيلة التي يحملها الإسلام. إن الازدحام أمام المساجد وكل مظاهر التعبد لا يمكن أن تخفي واقع التردي الذي نعيشه وتراجع الأخلاق ، والهوة الكبيرة التي تفصلنا عن الشعوب المتحضرة.
هذا هو المسكوت عنه اليوم . لأن الخوض في هذا الموضوع سيؤدي الى معرفة أن ما يقدم للناس على انه الدين الإسلامي ما هو في أخر المطاف إلا قراءات فقهية جاءت لتبرير الاستبداد وإخضاع الناس للأمر الواقع. هذا هو سبب التركيز على الجانب “الطقوسي” في الدين وإفراغه من بعده الإنساني والروحي.
العلمانية تحرر الإنسان
“الصلاة ليست من أجل الطلب ، إنها سمو بالنفس البشرية” هذا هو جوهر الدين وهذا بالضبط ما تسعى الى تحقيقه العلمانيةّ: السمو بالنفس البشرية وأنسنة العلاقات بين الناس في المجتمع، ومواجهة كل مايسييء للإنسان وكل اشكال العنف والكراهية التي تفشت في زمن الانهيار الأخلاقي والتفسخ المجتمعي.
لقد حولوا الدين إلى أيديولوجية وجعلوا الإيمان بها شرطا ضروريا للإنتماء الى الجماعة ، وكل محاولة للتمرد يتم إعتبارها كفرا ويتم الإلقاء بصاحبها خارج المجتمع وتكفيره.
العلمانية هي ضد هذا النوع من الإيمان ، أي الإيمان الذي يسلب الأنسان إرادته وحريته ، ويمنعه من إعمال العقل . العلمانية هي ضد الإيمان الدوغمائي وضد الاستيلاب وضد الجهل والإنغلاق والتعصب ..وهي مع تحرير الانسان بالثقافة وبالعلم وبالحوار الحر وبالتعليم والمعرفة النقدية.
إن الدين يلعب دورا أساسيا في تكوين شخصيات الأفراد وإنطلاقا من الأفراد تكوين وبناء الوعي الجماعي . لكن لا أحد يتساءل عن طرق نشر المعرفة بالدين وما هو دور المدرسة في هذا المجال ؟ وحتى عندما نتحدث عن العلمانية فالإهتمام ينصب أساسا على الجانب السياسي ويتم إهمال الجانب المتعلق بالمعرفة وبالتعليم
العلمانية تجيب على سؤالين في غاية الأهمية . الأول هو كيف نعرف دون السقوط تحت تأثير أي توجيه سياسي أو أيديولوجي أو فقهي ؟ والثاني هو كيف ننقل هذه المعرفة إلى الأخرين ؟ ولهذا فإن العلمانية تحترم مبدأ تربويا وفلسفيا يحمي الأطفال من أن يتعرضوا لأي تأثير ديني أو أيديولوجي أو سياسي خاصة في المراحل الأولى من التعليم لأنهم غير قادرين على حماية أنفسهم . ففي المدرسة العلمانية لا يمكن أن يسمح لأي أستاذ أن يعبر عن أراءه السياسية أو الأيديولوجية أمام المتعلمين ، كما هو حاصل اليوم في مدارسنا التي يتعرض فيها الأطفال يوميا للشحن الأيديولوجي ويقمع فيها الحس النقدي عند الطلبة. ولكن هذا لا يعني حذف الدين من البرامج التعليمية بل يعني تعزيز الدراسة التاريخية للدين والتشجيع على تجديد الفكر الديني الذي لا يمكن أن يتحقق إلا بالتوافق مع الفلسفة والعلوم الإنسانية.
لأنهم يريدون الحفاظ علىLes gestionnaires du sacré هذا بالضبط ما يزعج
سلطتهم وتحكمهم في عقول وسلوك الناس . في حين تسعى العلمانية الى تحرير الانسان بالعلم والمعرفة وفسح المجال أمام كل الأفكار لتعبر عن نفسها وتعمل على توسيع فضاء الحوار الحر أمام الجميع دون إقصاء لأي طرف.
إن نجاح العلمانية في المجتمعات الغربية قد أفاد كثيرا الدين المسيحي الذي تخلص من وصاية الدولة . كما أن التوافقات التي حصلت في هذه المجتمعات جعلت الكنيسة تواكب كل التحولات التي يعرفها العالم اليوم وذلك في توافق تام مع ظاهرة الايمان التي لم تتأثر كما كان متوقعا بالثورات العلمية والتكنولوجية.
أما في مجتمعاتنا العربية والإسلامية فلازالت الدعوة إلى العلمانية فردية ولم تتحول بعد إلى حركة إجتماعية تقود النضال على هذه الواجهة ،لأن هذه المجتمعات رغم كونها الأكثر استهلاكا لمنجزات التطور التقني فإنها ترفض المبادئ العقلية التي هي أساس هذا التقدم.. وفي غياب الأطر الاجتماعية القادرة على تقوية تيار العلمانية فإن بناء مجتمعات ديمقراطية ومتحررة سيبقى هدفا بعيد المنال.