الرياضة

الرياضة التنافسية العالمية بعيون نقدية

اعتاد‭ ‬القراء‭ ‬على‭ ‬الكتابات‭ ‬التي‭ ‬تمجد‭ ‬الرياضة‭ ‬التنافسية‭ ‬وترفع‭ ‬من‭ ‬شأنها‭ ‬وتشيد‭ ‬بأدورارها‭ ‬السوسيواقتصادية‭ ‬والتربوية‭ ‬والصحية‭. ‬ونادرة‭ ‬هي‭ ‬الكتابات‭ ‬التي‭ ‬تناولت‭ ‬الأبعاد‭ ‬السياسية‭ ‬والإيديولوجية‭ ‬للظاهرة‭ ‬الرياضية‭ ‬في‭ ‬بعدها‭ ‬التنافسي‭ ‬العالي‭ ‬بناء‭ ‬على‭ ‬أبحاث‭ ‬سوسيولوجية‭ ‬وأنتربولوجية‭. ‬وهي‭ ‬الكتابات‭ ‬التي‭ ‬تحرج‭ ‬السياسيين‭ ‬والمؤسسات‭ ‬الرياضية‭ ‬والشركات‭ ‬العالمية‭  ‬والمؤسسات‭ ‬الإعلامية‭ ‬المستفيدة‭ ‬من‭ ‬كعكة‭ ‬الرياضة‭ ‬التنافسية‭. ‬في‭ ‬هذا‭ ‬الصدد‭ ‬سنحاول‭ ‬الغوص‭ ‬في‭ ‬ثنايا‭ ‬تحاليل‭ ‬ودراسات‭ ‬مفكرين‭ ‬يتبنون‭ ‬النظرية‭ ‬النقدية‭ ‬للرياضة،‭ ‬ويرون‭ ‬المنافسات‭ ‬الرياضية‭ ‬بعيون‭ ‬أخرى‭. ‬

الرياضة‭ ‬قهر‭ ‬أنتروبولوجي‭ ‬يشرعن‭ ‬الإيديولوجية‭ ‬المبنية‭ ‬على‭ ‬الإنتاج‭  ‬وعلى‭ ‬المردودية‭ ‬وعلى‭ ‬الإنجاز

في‭ ‬فرنسا‭ ‬تشكل‭ ‬منذ‭ ‬عقود‭ ‬فريق‭ ‬من‭ ‬الباحثين‭ ‬في‭ ‬علم‭ ‬الإجتماع‭ ‬اشتغلوا‭ ‬على‭ ‬النظرية‭ ‬النقدية‭ ‬للرياضة‭ ‬وساهمت‭ ‬أبحاثهم‭ ‬وكتاباتهم‭ ‬في‭ ‬إماطة‭ ‬اللثام‭ ‬عن‭ ‬الأسس‭ ‬الإيديولوجية‭ ‬والسياسية‭ ‬للرياضة‭ ‬ومن‭ ‬أبرزهم‭ ‬عالم‭ ‬الإجتماع‭ ‬الفرنسي‭ “‬جان‭ ‬ماري‭ ‬بروم‭”‬،‭ ‬الذي‭ ‬أسس‭ ‬أطروحته‭ ‬على‭ ‬مقولة‭ “‬الرياضة‭ ‬أفيون‭ ‬جديد‭ ‬للشعوب‭”‬،‭ ‬معتبرا‭ ‬أن‭ ‬الرياضة‭ ‬هي‭ ‬قبل‭ ‬كل‭ ‬شيء‭ ‬نمط‭ ‬إنتاج‭ ‬رأسمالي‭ ‬في‭ ‬مرحلته‭ ‬الشمولية‭ ‬والمعولمة،‭ ‬مستندا‭ ‬في‭ ‬أطروحاته‭ ‬على‭ ‬المقولات‭ ‬الفرودو‭- ‬ماركسية‭ ‬وعلى‭ ‬التحليل‭ ‬السوسيولوجي‭.‬

فالأمر‭ ‬بالنسبة‭ ‬لرواد‭ ‬هذا‭ ‬التوجه‭ ‬النقدي،‭ ‬يتعلق‭ ‬بمحاولة‭ ‬هدم‭ ‬المقولات‭ ‬الثقافية‭ ‬التي‭ ‬تجعل‭ ‬من‭ ‬الرياضة‭ ‬احتفالا‭ ‬ومصدر‭ ‬نشوة‭ ‬ومتعة‭ ‬ومجهودا‭ ‬محررا‭ ‬ورهان‭ ‬للصحة،‭ ‬إذ‭ ‬بالنسبة‭ ‬ل‭ “‬جان‭ ‬ماري‭ ‬بروم‭”‬،‭ ‬تعتبر‭ ‬الإيديولوجية‭ ‬الرياضية‭ ‬بمثابة‭ ‬عقيدة‭ ‬دينية‭ ‬من‭ ‬طينة‭ ‬خاصة‭. ‬

ف‭ “‬بروم‭” ‬ومناصروه‭ ‬من‭ ‬الباحثين‭ ‬والمفكرين‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬المجال،‭ ‬يشيرون‭ ‬إلى‭ ‬وجود‭ ‬توجهين‭ ‬بخصوص‭ ‬تسليع‭ ‬العالم‭ (‬نسبة‭ ‬إلى‭ ‬سلعة‭) ‬من‭ ‬خلال‭ ‬الرياضة‭. ‬فمن‭ ‬جهة‭ ‬تنمية‭ ‬نمط‭ ‬إنتاج‭ ‬رياضي‭(‬أي‭ ‬الرياضة‭ ‬كمقاولة‭ ‬رأسمالية‭ ‬ذات‭ ‬خصوصية‭)‬،‭ ‬ومن‭ ‬جهة‭ ‬أخرى،‭  ‬مكانة‭ ‬الفرجة‭ ‬الرياضية‭ ‬العالمية‭ ‬التي‭ ‬يعتبرونها‭ “‬احتلالا‭ ‬للحياة‭ ‬اليومية‭” ‬والتي‭ ‬لها‭ ‬أثار‭ ‬سياسية‭ ‬وخيمة‭ ‬اتجاه‭ ‬تحرر‭ ‬المجموعات‭ ‬والحشود‭ ‬البشرية‭. ‬فأصحاب‭ ‬هذا‭ ‬التوجه‭ ‬النقدي‭ ‬ينددون‭ ‬ويعتبرون‭ ‬دجلا‭ ‬كل‭ ‬فكرة‭ ‬تختزل‭ ‬الرياضة‭ ‬في‭ ‬التمرين‭ ‬الرياضي‭ ‬المفيد‭ ‬في‭ ‬وسط‭ ‬اجتماعي‭ ‬خاص‭ ‬والذي‭ ‬يعوض‭ ‬عنف‭ ‬المجتمع‭. ‬أو‭ ‬اعتبارها‭ ‬أداة‭ ‬لتحرر‭ ‬الحشود‭. ‬إذ‭ ‬الرياضة‭ ‬بالنسبة‭ ‬إليهم‭ ‬تعتبر‭ ‬انعكاسا‭ ‬لبربرية‭ ‬وهمجية‭ ‬الرأسمالية‭. ‬

يقول‭ “‬بروم‭” ‬في‭  ‬العديد‭ ‬من‭ ‬كتاباته‭ ‬بهذا‭ ‬الخصوص،‭ ‬يجب‭ ‬التأمل‭ ‬في‭ ” ‬الحقد‭ ‬الشرس،‭ ‬العدوانية‭ ‬الإستحوادية،‭ ‬تبادل‭ ‬الضرب‭ ‬والجروح،‭ ‬عنف‭ ‬المواجهات‭ ‬الرياضية‭” ‬من‭ ‬أجل‭ ‬فهم‭ ‬أن‭ ‬المنافسة‭ ‬الرياضية‭ ‬بمثابة‭ ‬شكل‭ ‬من‭ ‬أشكال‭ ‬قتل‭ ‬الخصم‭ ‬الذي‭ ‬يجب‭ ‬إزاحته‭ ‬وقتله‭ ‬رمزيا،‭ ‬أو‭ ‬إبعاده‭ ‬أو‭ ‬هزمه‭ ‬بدنيا‭ ‬كما‭ ‬هو‭  ‬الحال‭ ‬في‭ ‬رياضة‭ ‬الملاكمة،‭ ‬الريكبي‭ ‬ورياضات‭ ‬أخرى‭. ‬فهنا‭ ‬حسب‭ “‬بروم‭” ‬تتجسد‭ ‬بربرية‭ ‬الرياضة‭. ‬وبتناغم‭ ‬مع‭ ‬العنف‭ ‬داخل‭ ‬رقعة‭ ‬الملعب‭ ‬ينطلق‭ ‬العنف‭ ‬بالمدرجات،‭ ‬على‭ ‬شكل‭ ‬تنافد‭(‬أوسموز‭) ‬وتبادل‭ ‬التأثير‭.‬

لقد‭ ‬حاول‭ ‬عدد‭ ‬من‭ ‬الباحثين‭ ‬إزالة‭ ‬ما‭ ‬أسموه‭ ‬بالقناع‭ ‬عن‭ ‬طقس‭ ‬الإنجاز‭ ‬الرياضي‭(‬Performance‭)‬،‭ ‬والسخرية‭ ‬من‭ ‬المنافسة‭ ‬الرياضية،‭ ‬كاشفين‭ ‬الأسس‭ ‬الإيديولوجية‭ ‬لمفهوم‭ ‬الإنجاز‭ ‬أو‭ ‬الأرقام‭ ‬القياسية‭ ‬الرياضية‭ (‬روكور‭) ‬التي‭ ‬تتطلب‭ ‬مجهودات‭ ‬بدنية‭ ‬تصل‭ ‬حد‭ ‬المازوخية‭  ‬أو‭ ‬الماسوشية‭ (‬انحراف‭ ‬جنسي‭ ‬يلتمس‭ ‬فيه‭ ‬المرء‭ ‬اللذة‭ ‬بالعذاب‭)‬،‭ ‬وتقديس‭ ‬أعمى‭ ‬للمنافسة‭ ‬الرياضية،‭ ‬التي‭ ‬تعكس‭ ‬برأيهم‭ ‬الإديولوجية‭ ‬الرأسمالية‭ ‬المتوحشة‭. 

فالرياضة‭ ‬بالنسبة‭ ‬ل‭”‬جان‭ ‬ماري‭ ‬بروم‭” ‬والمناصرين‭ ‬لتوجهه،‭ ‬ليست‭ ‬مجرد‭ ‬مجموعة‭ ‬من‭ ‬الممارسات‭ ‬البدنية‭ ‬البريئة،‭ ‬أو‭ ‬مجرد‭ ‬نسق‭ ‬غير‭ ‬مؤذ‭ ‬للألعاب،‭ ‬أو‭ ‬تربية‭ ‬جسدية،‭ ‬فهو‭ ‬ليس‭ ‬شيئا‭ ‬أخرا‭ ‬غير‭ ‬مرآة‭ ‬لعولمة‭ ‬الرأسمالية،‭ ‬حيث‭ ‬تكشف‭ ‬الرياضة‭ ‬عن‭ ‬وجهها‭ ‬الحقيقي‭ ‬باعتبارها‭ ‬جهازا‭ ‬هيمنيا‭ ‬وتوسعيا‭ ‬‭ ‬بأشكال‭ ‬مختلفة،‭ ‬وظيفتها‭ ‬الأساسية‭ ‬الحقن‭ ‬بالتقطير‭ ‬للإيديولوجية‭ ‬المسيطرة،‭ ‬على‭ ‬شاكلة‭ ‬إفراز‭ ‬الغدد‭ ‬لهرموناتها‭. ‬

فالرياضة‭ ‬ليست‭ ‬فقط‭ ‬تصريف‭ ‬اجتماعي‭ ‬وتوجيه‭ ‬وتقنين‭ ‬لإنفعالات‭ ‬الحشود،‭ ‬بل‭ ‬هي‭ ‬أيضا‭ ‬في‭ ‬العمق‭ ‬قهر‭ ‬أنتروبولوجي‭ ‬كبير‭ ‬يدعم‭ ‬ويشرعن‭ ‬الإيديولوجية‭ ‬المبنية‭ ‬على‭ ‬الإنتاج‭  ‬وعلى‭ ‬المردودية‭ ‬وعلى‭ ‬الإنجاز‭ ‬الخاصة‭ ‬بالمجتمعات‭ ‬الرأسمالية‭. ‬فالرياضة‭ ‬تخفي‭ ‬دعوة‭ ‬تسلطية‭ ‬لتجاوز‭ ‬الذات‭ ‬وتجاوز‭ ‬الآخرين‭ ‬وتتم‭ ‬مأسستها‭ ‬وتطبيقها‭ ‬على‭ ‬أرض‭ ‬الواقع‭.‬

فالإستبداد‭ ‬الرياضي،‭ ‬هو‭ ‬طغيان‭ ‬واستبداد‭ ‬بدون‭ ‬مستبدين،‭ ‬هو‭ ‬عبودية‭ ‬إرادية،‭ ‬التي‭ ‬تفرز‭ ‬عدد‭ ‬كبيرا‭ ‬من‭ ‬القطعان‭ ‬عبر‭ ‬العالم‭ ‬بدون‭ ‬قمع‭ ‬ظاهر‭ ‬و‭ ‬بادي‭ ‬للعيان‭. ‬فبروم‭ ‬وأتباعه‭ ‬يعتبرون‭ ‬أن‭ ‬مجتمعا‭ ‬يسيطر‭ ‬عليه‭ ‬التفاعل‭ ‬والولع‭ ‬بالرياضة‭ ‬التنافسية‭ ‬هو‭ ‬مجتمع‭ ‬منخور‭ ‬بالفراغ‭ ‬والملل،‭ ‬والإستلاب‭ ‬والخبل‭ ‬الشعبوي‭.‬

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

زر الذهاب إلى الأعلى