العقلانية والدين

◆ حميد المصباحي

العقلانية،‭ ‬ليست‭ ‬إجراءات‭ ‬اقتصادية‭ ‬أو‭ ‬مجرد‭ ‬شعارات‭ ‬سياسية،‭ ‬أو‭ ‬حتى‭ ‬منطلقاته‭ ‬إيديولوجية،‭  ‬للمزايدة‭ ‬على‭ ‬الحركات‭ ‬المحافظة‭ ‬وتأزيمها‭ ‬سياسيا‭ ‬في‭ ‬المواجهات‭ ‬الجدالية،‭   ‬التي‭ ‬انطلقت‭ ‬في‭ ‬العالم‭ ‬العربي‭ ‬بعد‭ ‬تراجع‭ ‬الفكر‭ ‬الاشتراكي،‭  ‬الدي‭ ‬ترك‭ ‬مكانه‭ ‬للحركات‭ ‬الأصولية،‭   ‬ذات‭ ‬المنحى‭ ‬السلفي‭ ‬أو‭ ‬الجهادي‭ ‬التكفيري‭ ‬بل‭ ‬إن‭ ‬العقلانية،‭  ‬إقرار‭ ‬بأن‭ ‬العقل‭ ‬هو‭ ‬مصدر‭ ‬المعرفة،‭ ‬سواء‭ ‬كانت‭ ‬علمية‭ ‬دقيقة‭ ‬كالطبيعيات‭ ‬والفيزياء‭ ‬والكمياء،‭ ‬أو‭ ‬حتى‭ ‬الرياضيات،‭  ‬أو‭ ‬أنها‭ ‬مجمل‭ ‬المعارف‭ ‬حول‭ ‬طبيعة‭ ‬الإنسان‭ ‬الجسدية‭ ‬والفكرية،‭ ‬ومعنى‭ ‬دلك‭ ‬أن‭ ‬الواقعين‭ ‬الطبيعي‭ ‬والإنساني‭ ‬قابلان‭ ‬للعقلنة،‭ ‬بفهمهما‭ ‬وإدراكهما،‭  ‬وربما‭ ‬في‭ ‬نواح‭ ‬أخرى‭ ‬يمكن‭ ‬الاستعانة‭ ‬بالتجربة،‭ ‬واعتمادها‭ ‬في‭ ‬اختيار‭ ‬المفاهيم‭ ‬المناسبة‭ ‬أو‭ ‬التحقق‭ ‬العلمي‭ ‬مما‭ ‬توصل‭ ‬إليه‭ ‬العقل،‭  ‬أما‭ ‬الإقرار‭ ‬الثاني‭ ‬في‭ ‬العقلانية،‭  ‬فهو‭ ‬اعتبار‭ ‬العقل‭ ‬أيضا‭ ‬مصدرا‭ ‬لتشريع‭ ‬القوانين‭ ‬المنظمة‭ ‬للحياة‭ ‬الاجتماعية‭ ‬والسياسية،‭ ‬فمنه‭ ‬تستمد‭ ‬آليات‭ ‬الحكم‭ ‬لتدبير‭ ‬شؤون‭ ‬الناس‭ ‬وتنظيم‭ ‬صراعاتهم‭ ‬السياسية‭ ‬كمواطنين‭ ‬يختلفون‭ ‬عن‭ ‬بعضهم‭ ‬في‭ ‬تصوراتهم‭ ‬للحياة‭ ‬وكيفيات‭ ‬الحكم‭ ‬والتسيير‭ ‬لمجتمعهم‭ ‬وحضارتهم،‭ ‬وهي‭ ‬آليات‭ ‬وموضوع‭ ‬خلاف‭ ‬قابل‭ ‬لتطوير‭ ‬الفكر‭ ‬والممارسة‭ ‬السياسية،‭ ‬وبه‭ ‬أيضا‭ ‬تتطور‭ ‬الدولة‭ ‬نفسها،‭ ‬كسلطة‭ ‬تحتاج‭ ‬لدعم‭ ‬نفسها‭ ‬خارج‭ ‬خطابات‭ ‬المقدس‭ ‬الدينية‭ ‬أو‭ ‬العرقية،‭  ‬فالسياسة‭ ‬في‭ ‬التصور‭ ‬العقلاني‭ ‬ليست‭ ‬تدبيرا‭ ‬لما‭ ‬هو‭ ‬غيبي‭ ‬أخروي،‭  ‬وإنما‭ ‬هي‭ ‬توجيه‭ ‬للدنيوي‭ ‬في‭ ‬رهاناته‭ ‬الآنية‭ ‬والبعيدة،‭ ‬وهي‭ ‬تعترف‭ ‬بدور‭ ‬التجربة‭ ‬في‭ ‬تطوير‭ ‬العقل‭ ‬السياسي‭ ‬والعلمي‭ ‬وانفتاح‭ ‬الحضارة‭ ‬الإنسانية‭ ‬عن‭ ‬غيرها‭ ‬من‭ ‬الحضارات‭ ‬حتى‭ ‬تلك‭ ‬المختلفة‭ ‬عنها،‭  ‬وهنا‭ ‬يبرز‭ ‬في‭ ‬العقلانية‭ ‬مبدأ‭ ‬أساس‭ ‬وهو‭ ‬أن‭ ‬الإنسان‭ ‬هو‭ ‬مركز‭ ‬الوجود‭ ‬ومقياس‭ ‬لكل‭ ‬القيم‭ ‬والحقائق،‭  ‬التي‭ ‬لا‭ ‬يمكن‭ ‬إلا‭ ‬للإنسان‭ ‬إبداعها‭ ‬والتفكير‭ ‬فيها،‭  ‬وهنا‭ ‬يظهر‭ ‬الإقرار‭ ‬الثالث‭ ‬للعقلانية،‭  ‬وهو‭ ‬أن‭ ‬العقل‭ ‬نفسه‭ ‬هو‭ ‬مصدر‭ ‬الأخلاق،‭  ‬وهو‭ ‬ما‭ ‬يوجبها،‭  ‬بدون‭ ‬أي‭ ‬حافز‭ ‬جزائي،‭  ‬دنيوي‭ ‬كان‭ ‬أو‭ ‬أخروي‭ ‬ما‭ ‬دامت‭ ‬مستمدة‭ ‬من‭ ‬العقل‭ ‬فهي‭ ‬مفروضة‭ ‬على‭ ‬كل‭ ‬الكائنات‭ ‬العاقلة‭ ‬ولأنها‭ ‬كدلك‭ ‬فهي‭ ‬مرغمة‭ ‬على‭ ‬اتباع‭ ‬ما‭ ‬يشرعه‭ ‬العقل‭ ‬دون‭ ‬أن‭ ‬تفقد‭ ‬حقها‭ ‬في‭ ‬الاختيار‭ ‬الحر‭ ‬قبولا‭ ‬أو‭ ‬رفضا،‭  ‬دون‭ ‬أن‭  ‬تفرض‭ ‬عليها‭ ‬عقوبات‭ ‬ما‭ ‬دامت‭ ‬مواقفها‭ ‬في‭ ‬حدود‭ ‬التفكير‭ ‬والتعبير‭ ‬عن‭ ‬الرأي‭ ‬والموقف،‭   ‬فالعقلانية‭ ‬كانت‭ ‬هي‭ ‬صوت‭ ‬العلم‭ ‬الفلسفي،‭  ‬أو‭ ‬هي‭ ‬تعبيره‭ ‬العملي‭ ‬في‭ ‬الأخلاق‭ ‬والسياسة،‭   ‬فبعد‭ ‬أن‭ ‬اكتشفت‭ ‬العلوم‭ ‬قانون‭ ‬الطبيعة‭ ‬باعتماد‭ ‬العقل،‭  ‬كان‭ ‬على‭ ‬الفلاسفة‭ ‬اكتشاف‭ ‬قواعد‭ ‬العقل‭ ‬الأخلاقية‭ ‬في‭ ‬العلاقات‭ ‬البشرية،‭  ‬سواء‭ ‬كانت‭ ‬مدنية‭ ‬أو‭ ‬سياسية،‭  ‬وبتراجع‭ ‬الكنيسة‭ ‬عن‭ ‬السلطة‭ ‬المعرفية‭ ‬واحتكار‭ ‬العلم،‭  ‬كان‭ ‬عليها‭ ‬أيضا‭ ‬الابتعاد‭ ‬عن‭ ‬الأخلاق‭ ‬التي‭ ‬طالما‭ ‬اعتبرت‭ ‬نفسها‭ ‬وصية‭ ‬عليها،‭   ‬ونتاجا‭ ‬لذلك‭ ‬كان‭ ‬على‭ ‬الدولة‭ ‬البحث‭ ‬عن‭ ‬الشرعية‭ ‬من‭ ‬داخل‭ ‬المجتمع‭ ‬وليس‭ ‬من‭ ‬خارجه‭.   ‬العقلانية‭ ‬تحرر‭ ‬من‭ ‬كل‭ ‬آليات‭ ‬الحظر‭ ‬والمنع‭ ‬والرقابة،‭  ‬اعتراف‭ ‬بأولوية‭ ‬العقل‭ ‬على‭ ‬ما‭ ‬دونه‭ ‬من‭ ‬مصادر‭ ‬المعرفة‭ ‬التي‭ ‬راكمتها‭ ‬الحضارات‭ ‬الإنسانية‭ ‬في‭ ‬تاريخها‭ ‬الطويل‭ ‬ونضالها‭ ‬ضد‭ ‬الجهل‭ ‬والجهالة،‭  ‬وهنا‭ ‬الجانب‭ ‬المحرج‭ ‬للحضارة‭ ‬العربية‭ ‬الإسلامية،‭  ‬التي‭ ‬تعتبر‭ ‬الوحي‭ ‬مصدرا‭ ‬للمعرفة،‭  ‬وإن‭ ‬كانت‭ ‬هذه‭ ‬المعرفة‭ ‬غيبية‭ ‬أو‭ ‬دينية،‭  ‬ينضاف‭ ‬إليها‭ ‬ما‭ ‬اجتهد‭ ‬فيه‭ ‬المسلمون‭ ‬من‭ ‬تصورات‭ ‬تدافع‭ ‬عن‭ ‬الرؤيا‭ ‬وأحقيتها‭ ‬في‭ ‬اكتشاف‭ ‬المعارف‭ ‬الخفية‭ ‬التي‭ ‬لا‭ ‬يستطيع‭ ‬العقل‭ ‬التوصل،‭  ‬إضافة‭ ‬إلى‭ ‬الحدوس‭ ‬الصوفية‭ ‬وغيرها‭ ‬من‭ ‬وسائل‭ ‬الكشف‭ ‬التي‭ ‬كانت‭ ‬في‭ ‬مجتمعات‭ ‬بشرية‭ ‬أخرى‭ ‬وصنفت‭ ‬من‭ ‬طرف‭ ‬الفكر‭ ‬الغربي‭ ‬فيما‭ ‬عرف‭ ‬بالأساطير‭ ‬التكهنية‭ ‬بمصير‭ ‬العالم‭ ‬والإنسان‭ ‬فيه،‭ ‬كما‭ ‬أن‭ ‬الحضارة‭ ‬العربية‭ ‬الإسلامية‭ ‬سعت‭ ‬بدورها‭ ‬إلى‭ ‬الخوض‭ ‬في‭ ‬مثل‭ ‬هده‭ ‬النقاشات،‭  ‬حول‭ ‬معرفة‭ ‬الله‭ ‬هل‭ ‬هي‭ ‬كلية‭ ‬أم‭ ‬جزئية،‭  ‬ومعنى‭ ‬الفعالية‭ ‬البشرية،‭  ‬التي‭ ‬يمكن‭ ‬أن‭ ‬تثبت‭ ‬الحرية،‭  ‬وتعمق‭ ‬النقاش‭ ‬ممتدا‭ ‬في‭ ‬الفكر‭ ‬الإسلامي،‭  ‬لكنه‭ ‬بقي‭ ‬رهين‭ ‬التأويل‭ ‬العقلاني‭ ‬للنصوص‭ ‬الدينية‭ ‬الإسلامية،‭  ‬ومع‭ ‬الجمود‭ ‬الدي‭ ‬عرفه‭ ‬عالمنا‭ ‬العربي‭ ‬الإسلامي‭ ‬بعد‭ ‬نهاية‭ ‬القرن‭ ‬الثاني‭ ‬عشر‭ ‬الميلادي،‭  ‬عاشت‭ ‬حضارتنا‭ ‬نكسة‭ ‬فكرية‭ ‬توجت‭ ‬بسيطرة‭ ‬الفكر‭ ‬الغيبي،‭  ‬وهيمنة‭ ‬آليات‭ ‬التفكير‭ ‬الفقهي،‭ ‬الذي‭ ‬حنط‭ ‬النصوص‭ ‬الدينية‭ ‬واحتكر‭ ‬التأويل‭ ‬النصي‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬تقعيد‭ ‬اللغة‭ ‬العربية‭ ‬ووضعها‭ ‬في‭ ‬قوالب‭ ‬نحوية‭ ‬تخدم‭ ‬العقل‭ ‬القياسي‭ ‬المنغلق،‭ ‬والرافض‭ ‬لأي‭ ‬اجتهاد‭ ‬خارج‭ ‬السند‭ ‬التفسيري‭ ‬وقف‭ ‬أسباب‭ ‬النزول‭ ‬والغايات‭ ‬السامية‭ ‬للعقيدة‭ ‬وما‭ ‬تلا‭ ‬هذه‭ ‬التحديدات‭ ‬من‭ ‬حفظ‭ ‬للموروث‭ ‬وتداول‭ ‬جامد‭ ‬له‭ ‬لحمايته‭ ‬من‭ ‬إعادة‭ ‬القراءة‭ ‬والمساءلة‭ ‬والفحص‭ ‬العقلي‭ ‬لمحتوياته‭ ‬وأبعاده‭ ‬الفكرية‭ ‬والروحية‭ ‬والقيمية،‭  ‬وما‭ ‬تزال‭ ‬هذه‭ ‬التوقفات‭ ‬قائمة‭ ‬لحدود‭ ‬اليوم،‭ ‬وزادها‭ ‬رسوخا‭ ‬عزوف‭ ‬الكثير‭ ‬من‭ ‬المثقفين‭ ‬العرب‭ ‬عن‭ ‬الخوض‭ ‬في‭ ‬طابوهات‭ ‬الفكر‭ ‬الإسلامي،‭  ‬وصمتهم‭ ‬أيضا‭ ‬عن‭ ‬لوازم‭ ‬العقلانية‭ ‬الغربية،‭  ‬خصوصا‭ ‬المحرج‭ ‬منها‭ ‬لبنية‭ ‬الحضارة‭ ‬العربية‭ ‬الإسلامية‭ ‬في‭ ‬بعدها‭ ‬الديني‭ ‬والسياسي،‭  ‬مما‭ ‬ولد‭ ‬فكرة‭ ‬التعامل‭ ‬الانتقائي‭ ‬مع‭ ‬العقلانية‭ ‬الأروبية،‭  ‬لإعادة‭ ‬التجربة‭ ‬التي‭ ‬عاشها‭ ‬القدامى،‭  ‬والمتمثلة‭ ‬في‭ ‬التوفيق‭ ‬بين‭ ‬التراث‭ ‬اليوناني‭ ‬العقلاني‭ ‬والفكر‭ ‬الفقهي‭ ‬المحتكر‭ ‬لتأويل‭ ‬الإسلام‭ ‬وفق‭ ‬رؤيته‭ ‬التي‭ ‬أعاقت‭ ‬التفاعل‭ ‬الثقافي‭ ‬بين‭ ‬الحضارات،‭  ‬وهو‭ ‬ما‭ ‬يمارسه‭ ‬بعض‭ ‬المثقفين‭ ‬العرب‭ ‬حاليا،‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬محاولاتهم‭ ‬أسلمة‭ ‬الإنجازات‭ ‬العقلانية‭ ‬للغرب‭ ‬الأوروبي،‭  ‬لتصير‭ ‬مقبولة‭ ‬حضاريا‭ ‬على‭ ‬حساب‭ ‬العقل،‭ ‬‭ ‬ذي‭ ‬البعد‭ ‬الكوني‭ ‬في‭ ‬بعض‭ ‬محتوياته‭ ‬وقيمه،‭  ‬القابلة‭ ‬طبعا‭ ‬للتطوير‭ ‬وليس‭ ‬التطويع‭ ‬القسري‭ ‬كما‭ ‬يحدث‭ ‬عندنا‭.‬

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى