فيلم: عطر – قصة قاتل (السلطة وجنون العظمة)

◆ جهاد الكنوني

يعد فيلم le parfum ( عطر: قصة قاتل ) من الأعمال السينمائية الناجحة في تاريخ السينما العالمية، حيث تجاوزت إيراداته 135,000,000 دولارا أمريكيا. وهو إنتاج ألماني- فرنسي – إسباني مشترك صدر سنة 2006، من إخراج توم تايكور ومن بطولة بن ويشا، آلان ريكمان، ريتشيل هيرد وود وداستين هوفمان. الفيلم مقتبس من رواية العطر لـباتريك زوسكيند التي صدرت سنة 1985. تدور احداث الفيلم حول جان باتيست جرونوي عبقري حاسة الشم وعن سعيه لإيجاد العطر الكامل لكي يسحر العالم ويسيطر عليه.
تتمركز الحبكة الحكائية للفيلم في اكتشاف البطل حرونوي وجود فتاة ذات عطر قوي وأخاذ، وهي لورا ريشي ابنة أحد أعيان المدينة فلا يزيده هذا الاكتشاف إلا مثابرة في التعلم لإيجاد طريقة تمكنه من استخلاص روائح الكائنات الحية. وهكذا يبدأ جرونوي في تنفيذ جرائم قتل متتالية بغرض استخلاص العطور الطبيعية من اجساد أجمل فتيات المدينة العذارى.
بعد افتضاح أمره يلقى القبض عليه ليحكم عليه بالإعدام، وقبيل اقتياده لساحة المدينة لتنفيذ الحكم تحت أنظار الآلاف من سكان المدينة يتعطر جرونوي بعطره السحري ليفقد آلاف الحاضرين صوابهم ويدخلوا في مجون وعربدة جماعيين. عند عودته لباريس يتجه لاشعورياً إلى مكان ولادته وهو سوق السمك. هناك يفرغ قارورة عطره السحري فوق جسده مما يحوله إلى ملاك في أعين العشرات من الأشخاص المتواجدين في نفس المكان، والذين أغلبهم من العاهرات والسكارى والمتشردين. ينجذب اليه هؤلاء لدرجة نهشهم لجسده، في الصباح التالي لم يبق لجان باتيست جرونوي وجود عدا ملابسه وقارورة عطره الفارغة التي سقط منها آخر قطرة.

يعتبر هذا الفيلم من أهم الأفلام التي ناقشت قضية السلطة والسيادة والقيادة عند الإنسان، بحكم أن الإنسان دائمُ التطلع لأن يكون سيدا ومتلهفٌ على الدوام للسيطرة والحصول على السلطة، لتحقيق المجد. وعندما نتحدث على السلطة نشير إليها بمعناها الواسع الذي يتجلى في كيفية التأثير في الآخرين بشدة وليس بمعناها الضيق الذي ينحصر في الممارسة السياسية.نجاح الفيلم كان من نجاح الفكرة القابعة داخل كل واحد منا: فكرة كون الإنسان يعشق القوة والنفوذ والقيادة عكس الحيوانات التي تجدها غالبا ضمن القطيع وخاضعة بشكل غريزي وتلقائي لقائد قطيعها، كما أنها تشعر بالحماية والأمان داخل السرب (مع وجود الاستثناء طبعا)، ومع تعمق البلادة والجهل يصعب تحقيق هذه السلطة بطرق تحترم مميزات وخصائص الإنسان وملكاته بما فيها العقل والذكاء وطاقاته الابداعية والفاعلية.
الخروج عن القطيع والانفصال عنه يترجمان عند شريحة كبيرة من الناس بخلق التميز عن طريق فكرة النبوة وادعاء الالوهية (سوبر هيرو) لتحقيق التفوق على الذات وعلى الآخر كشخصيات خارقة تحمل المعجزات وتقدمها للعامة. هذه الفكرة التي تم تشخيصها في علم النفس بالاضطرابات النفسية وأنها أعراض دالة على مرض نفسي أو عقلي كالانفصام فالشخصية والبارانويا (جنون العظمة). للأسف ومع كل أشكال التأخر والتخلف عند بعض الشعوب وفي العديد المجتمعات الاهتمام بالمرض النفسي يعد أمرا ثانويا وغير قابل للاعتراف به أساسا لذلك يصبح المضطرب حرا طليقا يتواصل مع كل قنوات المجتمع في مناخ عادي جدا و يؤثر بشكل سلبي طبعا في الاخرين.
المجتمعات التي تهتم بمعاناة الإنسان العضوية والنفسية والذهنية تحاول دائما تشخيص هذه المعاناة وهذه المأساة تشخيصا علميا يخضع للصرامة العلمية والموضوعية وتتم دراستها والبحث لها عن علاج ملائم لخصوصية الحالات مع عدم اقصائها أو نبذها، بل إعادة إدماجها داخل المجتمع لكي يصبح الأفراد الذين يعانون من هذه الحالة منتجين من جديد، ولا تكتفي بهذا فقط بل تحولهم الى طاقات ابداعية بجعلها شخصيات سينيمائية او كتعبيرات فنية تشكيلية على لوحات فنية او مقطوعات غنائية.
هنا تستوقفنا مقولة “نيتشه”: “لاشيء يجعلنا عظماء كالألم ” (الألم النفسي والفكري) .. من الألم نصنع العظمة والتفوق والابداع، ومن من رحم الألم ننتج الفن ونعبر عنه. للألم مكانة كبيرة جدا في الوجود ويدخل في تكوينه وبنائه وتبلوره.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى