طريق التنوير

الدين شأنٌ فرديٌّ مَحض

إذا‭ ‬كان‭ ‬خيار‭ ‬احترام‭ ‬التعددية‭ ‬الثقافية‭ ‬والتعددية‭ ‬اللغوية‭ ‬والاقرار‭ ‬بالتعددية‭ ‬الدينية‭ ‬قد‭ ‬فرض‭ ‬نفسه‭ ‬في‭ ‬الغرب‭ ‬أمام‭ ‬الحضور‭ ‬القوي‭ ‬للجماعات‭ ‬الدينية‭ ‬في‭ ‬الفضاء‭ ‬العمومي‭ ‬السياسي،‭ ‬فإن‭ ‬مجتمعاتنا‭ ‬الحالية‭ ‬لم‭ ‬تطرح‭ ‬هذا‭ ‬الخيار‭ ‬حتى،‭ ‬وبالتالي‭ ‬فإن‭ ‬خيار‭ ‬المجتمع‭ ‬ما‭ ‬بعد‭ ‬العلماني،‭ ‬لن‭ ‬يزيدنا‭ ‬إلا‭ ‬تخلفا‭ ‬وعودة‭ ‬إلى‭ ‬الوراء‭. ‬صحيح‭ ‬أن‭ ‬هابرماس‭ ‬لم‭ ‬يخفي‭ ‬دور‭ ‬الرأسمالية‭ ‬والعولمة‭ ‬النيوليبرالية‭ ‬في‭ ‬تنامي‭ ‬الأصولية‭ ‬والتقوقع‭ ‬الديني‭ ‬والطائفي‭ ‬ولكنه‭ ‬في‭ ‬المقآبل‭ ‬لم‭ ‬يذهب‭ ‬إلى‭ ‬أبعد‭ ‬من‭ ‬ذلك،‭ ‬أي‭ ‬إلى‭ ‬نفي‭ ‬سبب‭ ‬الأسباب،‭ ‬بل‭ ‬يكتفي‭ ‬فقط‭ ‬بالبحث‭ ‬عن‭ ‬مخرج‭ ‬للرأسمالية‭ ‬لإخفاء‭ ‬مسؤوليتها‭.‬

إذا‭ ‬كانت‭ ‬العلمانية‭ ‬تعتبر‭ ‬أن‭ ‬الدين‭ ‬شأنٌ‭ ‬فرديٌّ‭ ‬مَحض،‭ ‬فذلك‭ ‬لِكون‭ ‬مجال‭ ‬الحريّة‭ ‬ليس‭ ‬واحداً‭ ‬ولا‭ ‬متماثلاً‭ ‬البتّة‭. ‬فالحرية‭ ‬الجماعيّة‭ ‬في‭ ‬الفضاء‭ ‬العمومي‭ ‬شرطٌ‭ ‬من‭ ‬شروط‭ ‬العلاقات‭ ‬بين‭ ‬الأفراد‭ ‬في‭ ‬المجتمع‭ ‬كشأنٍ‭ ‬عام،‭ ‬في‭ ‬حين‭ ‬أن‭ ‬الحرية‭ ‬الفرديّة‭ ‬في‭ ‬المجال‭ ‬الخاص‭ ‬هي‭ ‬شرطٌ‭ ‬من‭ ‬شروط‭ ‬العلاقة‭ ‬بين‭ ‬الفرد‭ ‬ونفسه‭ ‬كشأنٍ‭ ‬خاص‭. ‬وهذا‭ ‬التضارب‭ ‬المفترض‭ ‬بين‭ ‬المجال‭ ‬العام‭ ‬والمجال‭ ‬الخاص،‭ ‬هو‭ ‬أحد‭ ‬الأُسس‭ ‬التي‭ ‬تقُوم‭ ‬عليها‭ ‬العلمانية‭ ‬لضمان‭ ‬التعايش‭ ‬بين‭ ‬الأفراد‭ ‬المختلفين‭ ‬دينياً‭ ‬وعقدياُ‭ ‬واجتماعياُ،‭ ‬ولكنه‭ ‬في‭ ‬الآن‭ ‬ذاته‭ ‬أساسُ‭ ‬التوازن‭ ‬النفسي‭ ‬والوجداني‭ ‬للفرد‭ ‬الذي‭ ‬يُعتبر‭ ‬قِوام‭ ‬الديمقراطيّة‭ ‬وعماد‭ ‬المجتمع،‭ ‬يتم‭ ‬تمتيعه‭ ‬بالاستقلالية‭ ‬والحرية‭ ‬كأساسٍ‭ ‬من‭ ‬أُسُسِ‭ ‬العقل،‭ ‬لضمان‭ ‬استمراريّة‭ ‬الاجتماع‭ ‬البشري‭…‬

إذا‭ ‬كان‭ ‬هابرماس‭ ‬ينظر‭ ‬إلى‭ ‬الحداثة‭ ‬الغربية‭ ‬على‭ ‬أنها‭ ‬مشروع‭ ‬لم‭ ‬يكتمل‭ ‬بعد،‭ ‬فإن‭ ‬مشروع‭ ‬الحداثة‭ ‬كمشروع‭ ‬تحمله‭ ‬قوى‭ ‬سياسية‭ ‬ومجتمعية‭ ‬وتدافع‭ ‬عنه‭ ‬في‭ ‬مجتمعاتنا‭ ‬لم‭ ‬يولد‭ ‬بعد‭. ‬ولكن‭ ‬رغم‭ ‬ذلك‭ ‬فهناك‭ ‬سيرورة‭ ‬تحديث‭ ‬سياسي‭ ‬واجتماعي‭ – ‬على‭ ‬حساب‭ ‬ملايين‭ ‬الجماهير‭ – ‬تقوده‭ ‬المؤسسات‭ ‬الدولية‭ ‬التي‭ ‬تطمح‭ ‬إلى‭ ‬اظهار‭ ‬الأنظمة‭ ‬السياسية‭ ‬في‭ ‬هذه‭ ‬المجتمعات‭ ‬بمظهر‭ ‬الأنظمة‭ ‬التي‭ ‬تزاوج‭ ‬بين‭ ‬الأصالة‭ ‬والمعاصرة،‭ ‬بين‭ ‬التقليد‭ ‬والتحديث،‭ ‬ولكن‭ ‬هل‭ ‬هي‭ ‬حقا‭ ‬قوى‭ ‬حداثية؟‭ ‬مما‭ ‬لا‭ ‬شك‭ ‬فيه‭ ‬أن‭ ‬الارتكاز‭ ‬على‭ ‬الدين‭ ‬كقوة‭ ‬للحكم‭ ‬وكركيزة‭ ‬للحفاظ‭ ‬على‭ ‬الاستقرار‭ ‬الاجتماعي‭ ‬والسياسي،‭ ‬يمثل‭ ‬بحق‭ ‬العائق‭ ‬الأكبر‭ ‬أمام‭ ‬التحديث،‭ ‬والعائق‭ ‬الأكبر‭ ‬أمام‭ ‬الاندماج‭ ‬في‭ ‬المجتمع‭ ‬العالمي،‭ ‬ومسايرة‭ ‬التطور‭ ‬التاريخي‭ ‬للبشرية‭. ‬

تنامى‭ ‬في‭ ‬العالم‭ ‬العربي‭ ‬في‭ ‬العقود‭ ‬الأخيرة‭ ‬خطاب‭ ‬رنان‭ ‬يتردد‭ ‬على‭ ‬المسامع‭: ‬ما‭ ‬جدوى‭ ‬العلمانية‭ ‬أمام‭ ‬تجاوز‭ ‬الغرب‭ ‬لهذا‭ ‬المفهوم؟‭ ‬ويتوخون‭ ‬من‭ ‬وراء‭ ‬ذلك‭ ‬حجب‭ ‬التسلط‭ ‬الديني‭ ‬و‭ ‬السياسي‭ ‬الذي‭ ‬تمارسه‭ ‬الأنظمة‭ ‬الحاكمة؟

توالت‭ ‬الدعوات‭ ‬إلى‭ ‬ضرورة‭ ‬إعادة‭ ‬النظر‭ ‬في‭ ‬دنونة‭ ‬sécularisation‭ ‬الحياة‭ ‬بمبرر‭ ‬أن‭ ‬الغرب‭ ‬الذي‭ ‬يمثل‭ ‬الأب‭ ‬الشّرعي‭ ‬للعلمانية‭ ‬ينادي‭ ‬بضرورة‭ ‬تجاوزها،‭ ‬وهو‭ ‬مبرر‭ ‬لا‭ ‬سند‭ ‬تاريخي‭ ‬له‭ : ‬بحيث‭ ‬أن‭ ‬الحداثة‭ ‬الغربية‭ ‬في‭ ‬صورتها‭ ‬الليبرالية‭ ‬لم‭ ‬تكن‭ ‬إلا‭ ‬نتيجة‭ ‬مسيرة‭ ‬العلمنة‭ / ‬الدنونة‭ ‬التي‭ ‬دشنها‭ ‬الأنوار‭ ‬منذ‭ ‬القرن‭ ‬السابع‭ ‬عشر‭ ‬والثامن‭ ‬عشر؛‭ ‬وفي‭ ‬الآن‭ ‬ذاته‭ ‬فإن‭ ‬سيرورة‭ ‬العلمنة‭ ‬لا‭ ‬تعني‭ ‬فقط‭ ‬الفصل‭ ‬بين‭ ‬الدولة‭ ‬والكنيسة،‭ ‬وإنما‭ ‬الإقرار‭ ‬بالديمقراطية‭ ‬أولاً‭ ‬وأخيراً‭ ‬عبر‭ ‬بناء‭ ‬المؤسسات‭ ‬السياسية‭ ‬الحديثة‭ ‬التي‭ ‬تضمن‭ ‬حقوق‭ ‬المواطنين‭ ‬الأساسية‭ ‬والثانوية،‭ ‬فكيف‭ ‬لنا‭ ‬أن‭ ‬نختزل‭ ‬عملية‭ ‬التحديث‭ ‬فقط‭ ‬في‭ ‬الفصل‭ ‬بين‭ ‬الدولة‭ ‬والدين؟‭ ‬صحيح‭ ‬أن‭ ‬الاستعمال‭ ‬الأول‭ ‬لمفهوم‭ ‬العلمانية‭ ‬كان‭ ‬في‭ ‬البداية‭ ‬استعمالاَ‭ ‬قانونياً‭ ‬تم‭ ‬بموجبه‭ ‬نقل‭ ‬تركة‭ ‬الكنيسة‭ ‬إلى‭ ‬الدولة،‭ ‬ولكنه‭ ‬توسع‭ ‬ليشمل‭ ‬السلطة‭ ‬السياسية،‭ ‬بحيث‭ ‬لم‭ ‬يعد‭ ‬بموجب‭ ‬الحاكم‭ ‬المنتخب‭ ‬أو‭ ‬غير‭ ‬المنتخب‭ ‬الاستناد‭ ‬إلى‭ ‬سلطة‭ ‬سماوية‭ ‬لإضفاء‭ ‬المشروعية‭ ‬على‭ ‬حكمه‭ ‬أو‭ ‬ممارسته‭ ‬السياسية،‭ ‬وإنما‭ ‬يستند‭ ‬على‭ ‬تصوره‭ ‬للخدمة‭ ‬العمومية‭ ‬وللتسيير‭ ‬المدني‭ ‬لحشد‭ ‬الشّرعية‭ ‬السياسية،‭ ‬رغم‭ ‬أن‭ ‬بعض‭ ‬الحكام‭ ‬حتى‭ ‬في‭ ‬الدول‭ ‬الديمقراطية‭ ‬تجعل‭ ‬من‭ ‬الكنيسة‭ ‬سنداَ‭ ‬لها‭ ‬في‭ ‬تصريف‭ ‬الخطاب‭ ‬السياسي‭ ‬والإيديولوجي‭ ‬وفي‭ ‬الحملات‭ ‬الانتخابية،‭ ‬وفي‭ ‬ضبط‭ ‬الحشود‭ ‬واغوائها،‭ ‬إلا‭ ‬أن‭ ‬هذا‭ ‬لا‭ ‬يمثل‭ ‬بأي‭ ‬حال‭ ‬وضع‭ ‬مجتمعاتنا‭ ‬ما‭ ‬قبل‭ ‬العلمانية‭. ‬فالسلطة‭ ‬السياسية‭ ‬في‭ ‬المجتمعات‭ ‬العربية‭ ‬تحتكر‭ ‬كل‭ ‬المجالات‭ ‬الدينية‭ ‬والسياسية‭ ‬والثقافية،‭ ‬وتستحوذ‭ ‬على‭ ‬قسط‭ ‬كبير‭ ‬من‭ ‬الثروات‭ ‬المادية‭ ‬والرمزية‭ ‬بفضل‭ ‬موقعها‭ ‬السياسي،‭ ‬وتحكم‭ ‬باسم‭ ‬الدين،‭ ‬وحتى‭ ‬بعض‭ ‬الأنظمة‭ ‬التي‭ ‬ارتكزت‭ ‬على‭ ‬السلطة‭ ‬العسكرية‭ ‬والشّرطة‭ ‬بكل‭ ‬أنواعها،‭ ‬إنما‭ ‬تضع‭ ‬لوبيات‭ ‬الدين‭ ‬ومحتكري‭ ‬الخطاب‭ ‬باسم‭ ‬الدين‭ ‬إلى‭ ‬جانبها‭ ‬وتستعملهم‭ ‬في‭ ‬التعمية‭ ‬والتمويه‭ ‬خدمة‭ ‬لمصالحها،‭ ‬هكذا‭ ‬يمثل‭ ‬الدين‭ ‬عندنا‭ ‬ايديولوجية‭ ‬رسمية‭ ‬تجده‭ ‬في‭ ‬وسائل‭ ‬الاعلام‭ ‬وفي‭ ‬جل‭ ‬مؤسسات‭ ‬الدولة‭ ‬حاضراَ‭ ‬بقوة،‭ ‬بالقدر‭ ‬الذي‭ ‬تجده‭ ‬حاضراَ‭ ‬في‭ ‬العلاقات‭ ‬الاجتماعية‭. ‬لذلك‭ ‬يبدو‭ ‬لنا‭ ‬من‭ ‬اللازم‭ ‬ومن‭ ‬الضرورة‭ ‬–‭ ‬ضرورة‭ ‬تاريخية‭ – ‬تفنيد‭ ‬هذا‭ ‬الخطاب‭ ‬الذي‭ ‬يشرعن‭ ‬للاستبداد‭ ‬والقمع‭ ‬خدمة‭ ‬لمصالح‭ ‬كمشة‭ ‬صغيرة‭ ‬من‭ ‬الاغنياء‭ ‬والمستحوذين‭ ‬على‭ ‬ثروات‭ ‬شعوبنا‭.‬

اتجهت‭ ‬النخب‭ ‬الدينية‭ ‬نحو‭ ‬تبرير‭ ‬التسلط‭ ‬والاستبداد‭ ‬السياسي،‭ ‬بمبرر‭ ‬الفرق‭ ‬بين‭ ‬الحضارة‭ ‬الغربية‭ ‬والحضارة‭ ‬العربية‭ ‬–‭ ‬الاسلامية‭ ‬مشرعة‭ ‬لخطاب‭ ‬ماضوي‭ ‬رجعي‭ ‬ينظر‭ ‬إلى‭ ‬الحاضر‭ ‬بعيون‭ ‬الماضي،‭ ‬وليس‭ ‬بعيون‭ ‬المستقبل‭. ‬وهي‭ ‬تبتغي‭ ‬من‭ ‬وراء‭ ‬ذلك‭ ‬بيان‭ ‬أن‭ ‬الماضي‭ ‬الذهبي‭ ‬للحضارة‭ ‬الإسلامية‭ ‬إنما‭ ‬جاء‭ ‬نتيجة‭ ‬الحكم‭ ‬باسم‭ ‬الدين‭. ‬في‭ ‬حين‭ ‬أن‭ ‬الازدهار‭ ‬الثقافي‭ ‬والحضاري‭ ‬للعرب‭ ‬المسلمين‭ ‬في‭ ‬حقبة‭ ‬تاريخية‭ ‬ماضية‭ ‬إنما‭ ‬تم‭ ‬بفضل‭ ‬انفتاحهم‭ ‬على‭ ‬حضارات‭ ‬الغرب‭ ‬والشّرق‭ ‬معاَ‭. ‬فحركة‭ ‬الترجمة‭ ‬والتأليف‭ ‬والتنظير‭ ‬العلمي‭ ‬جعل‭ ‬من‭ ‬هذه‭ ‬الأمة‭ ‬في‭ ‬زمنها‭ ‬الغابر‭ ‬حضارة‭ ‬بما‭ ‬في‭ ‬الكلمة‭ ‬من‭ ‬معنى،‭ ‬ولكنها‭ ‬مشروطة‭ ‬بسياقها‭. ‬فكيف‭ ‬لنا‭ ‬أن‭ ‬نتجاوز‭ ‬ماضينا‭ ‬المنبوذ‭ ‬وحاضرنا‭ ‬المرفوض‭ ‬في‭ ‬سبيل‭ ‬مستقبل‭ ‬ممكن‭ ‬وضروري؟

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى