أحفاد أبقراط.. أيقونة لعصر الوباء
بقلم : عبد اللطيف أبو الصفاء
إننا نرثي لأفضل المنظومات الصحية العربية التي كانت تضمنها الدولة الوطنية في سوريا، والتي دمرت بشكل مقصود على مدى تسع سنوات من الحرب على الإرهاب.. و أرثي للفلسطينيين الرازحين تحت نير احتلال عنصري المعادي لقيم التعايش الإنساني السلمي، وقد نبغ منهم أمهر الأطباء، أننا نبكي بحرقة هجرة أدمغتنا الطبية بلفظهم من الدولة واحتضانهم بأرقى مستشفيات العالم..
أما بالنسبة لنا كمغاربة وهذا موقع الرؤية، فالسنة الماضية فقط، تم تسجيل هجرة حوالي خمسمائة طبيب مغربي إلى أوربا، كعنوان على التبخيس الحاصل لدى الدولة للأطر والكفاءات الحقيقية.. وهاهم اليوم صاروا العملة الصعبة الأكثر طلبا من أي شيء آخر.. ولطالما نبهنا إلى أن تفريط الدولة في سيادتها الرمزية على مستوى الصحة والتربية والتعليم هو ما سيقوض مضمونها الوطني، والذي سيصبح مقصورا على الأمن والدفاع والأحوال الشخصية إذا لم تجد من تبيع له مجال التوثيق.. إنها تتحول لدولة تلعب فقط دور الشرطي.
و لأن غريزة الحفاظ على النوع المرافقة للكوارث والمآسي هي ما يعيدنا بالرغم من عنادنا الوحشي إلى الرشد، فنحن لا نتوحد إلا حين الإحساس بالخطر المشترك، لكن التوحد المتضامن كان دوما رهين الإحساس الواعي بالخطر، إذ أن هذا الوعي وحده ما يوجه الانفعال الأولي إلى “الماينبغي أن يكون” للمحافظة على الحياة ضمن أفضل المتاح.. لهذا فالترسبات التي يخلفها الوباء الذي يستشري بيننا باطراد ستتزايد كذاكرة جماعية، وستخترق سلوكاتنا عاداتنا لسنوات، ولهذا فما بعد “كورونا” لن يكون أبدا كما قبلها.. فاقتصاديا نصف الأسرة الحاكمة في مملكة النفط بالعربية السعودية التي تقود منظمة أوبك أصيبت بالوباء و غادر الملك وابنه إلى جزيرة آمنة من خطر الوباء.. أمير قطر رائدة الغاز المسال، و280 من حاشيته غادروا إلى إحدى جزر “السيشل”.. حتى تنتهي غربلة الوباء لمن تنتقيهم شروط الحياة في بلادهم للاستمرار في عداد الأحياء،
الأمريكيون أيضا سيكونون مجبرين في النهاية على منع التنقل بين المدن وليس بين الولايات فقط. لهذا سيمنحون أي شيء مقابل العلاج ، محطات الوقود ستغلق أبوابها بكل تأكيد. الصينيون وحدهم خرجوا من التجربة شبه آمنين في انتظار ما يتقرر في واحد من الاحتمالات القادمة، فهم يحملون باعتزاز عملي مفيد ذاكرتهم الثقافية من تراكمات تاريخ عرفوا فيه الكوارث والحروب.. نحن إذن في حاجة إلى اقتصاد تربوي، فزمن ما بعد “الفيروس المتوج” ليس كما قبله، ووحده الغبي من يتمادى في خطئه، كما قال القديس سان أوغسطين في القرن الرابع الميلادي..
لهذا فصدقا نأمل الخروج من هذه الجائحة بأقل الخسائر.. وهذا مأمول كل انتماء يتجاوز حالة الاستعباد في شرط الاستهلاكية القاتلة التي تقف اليوم وراء مضاعفة شروط الخطر.
وبتتبع الوضع الصحي فالذين تشافوا من الفيروس هم تقريبا نفس عدد الذين قضوا نحبهم بسببه في وطننا السعيد ببؤسه و مآسيه، والتي تتلملم الآن بتظافر إرادة الحياة التي تعيد منتميه إلى مربع التاريخ الثلاثي الأبعاد، فالحالة أنه تعوزنا الحيلة لدرء الموت عن الذين يتساقطون صرعى هنا و هناك، ولأن الإحساس بالموت هو دوما إحساس ذاتي، فالذوات السليمة دوما تتحسسه بالأقرب فالأقرب، ونصيبنا من الألم هو ثمن سندفعه لتسديد فاتورة الغباء والجهل والأمية وتبخيس الأطر والكفاءات وابتذال شهادات التخرج الجامعي، تسييدا لميز طبقي يتحدد بموجبه توزيع لائحة الضحايا في كل الكوارث و كل الحروب. ولهذا فأغنياء الغفلة أو برجوازيو “الهمزة” كما سماهم محمد جسوس رحمه الله، لاذوا بمنتجعات آمنة، منهم من فاء ببعض الفتات ينتظر بَدَله أضعافا مضاعفة من الامتيازات والتبييض الإعلامي المدفوع الأجر بكل تأكيد، تكفيرا عما مضى وفتحا مبينا على ما بعد الكارثة، ومتى كان للرأسمال يوما وطن؟ لذلك فما استثمرناه في الإنسان هو ما يحمل شكل الوطن.
في سياق الخوف المؤلم من الموت مرضا، مع ما استفاق من جشع الرأسمالية القديم تزامننا مع مستجَد الوباء، صار أحفاد أبقراط في كل العالم أيقونة المواجهة التي تخوضها الحياة في مواجهة الموت المعولم، موزعا بالجملة وبالتقسيط ومعلبا على مقاس تبعية مستدامة، وبمنسوب ما ننتج من جهل وأمية قابلة للصرف الربحي، فصارت اليوم تتحول إلى صرف صحي يتنقل من خلاله الوباء المعدي والقاتل لأعز الأقربين، فيفرض علينا الابتعاد عن كل قريب لنتعلم القرب منه على بعد. ونستحضر رمزية الحفاظ على الحياة في السلوك والممارسة. لهذا فأحفاد أبقراط يستعيدون اعتبارية البطل في معركة اليوم ضد الفيروس التاجي المستجد، وينضاف إلى ذلك عودة الثقافة الصحية كسلوك منقح تم تكريره سلوكيا لضرورته، ومجرد التداول الدائم لكلمة “نظافة” يفتح الباب على ذاكرة رمزية تسمو بالتكرير التربوي من نظافة الجسد إلى نظافة الذمة ونظافة اليد بمدلولاتها الأخلاقية الفاعلة في توازن العلاقات الاجتماعية السوية، والتي تستمر باستمرار الإحساس بالخطر الوشيك أو استعادة شروطه السابقة. لأجل هذا فالذين يستمرون بعد الكوارث ينقحون أخطاء السابقين..
سنرى بكل تأكيد الدولة باعتبارها مركز التدبير المؤسسي لإرادة الحياة تعمد إلى انتشال الصحة العامة من خوصصة لم تنتج في كياننا غير عوارض مزمنة تستديم انتفاع الخواص من ديمومة الأمراض، لهذه الأسباب علينا معيرة المستقبل بما تفرضه التحديات، فاستنزاف الديمغرافية البشرية الذي انتقلت إليه رأسمالية النظام العالمي الجديد، حتم على صانعي السياسات الهيمنية زيادة استنزاف المقدرات بدون زحمة المطالب الاجتماعية المتزايدة لدى الشعوب. لذا فأمام هذا الوضع المركب، يطرح سؤال : هل سنستعيد وطنيتنا في مضمون سيادي مستدام؟ أم أن مفهوم الأمن الذي طالما ضمن للجشع أمان شفط المقدرات سيظل معدوما من مضمونه الصحي والتربوي، فلقد غاب بظل “مقاولاتيتنا” في تدبير حرية السوق أن نستحضر أمننا الصحي في المالتوسية الغذائية التي تتغذى منها رساميل لا تعترف بولاء لغير الربح ومراكمة الثروة. فما موقعها الوطني المتضامن اليوم في حضرة الفيروس المتوج سلطانا على أبشع كوابيس الجشعين المحليين الصغار؟
هي دعوة لنتدبر أمرنا بوحدة المصير الذي تقرره الحكمة التي تستمر، وفي ذلكم عبرة لأولي الألباب لعلهم يتفكرون.