الدولة خططت لتدمير المراكز الاستشفائية الكبرى للمغاربة
مستشفى بن صميم بإفران ـ سبيطار الرية بابن أحمد ـ مستشفى دار بن قريش بتطوان
تعيش البشرية اليوم على إيقاع انتشار كبير لانتشار فيروس كورونا المستجد، وعلى وتيرة مقاومة المنظومات الصحية للدول له، فقد جعلت هذه الأزمة العالمية الجميع دون استثناء يستشعر مدى أهمية وجود مستشفيات عامة ومصحات متخصصة عمومية متطورة بتجهيزاتها وخبراتها والتي تكون قادرة على حفظ الأمن الصحي لعموم المواطنين، فلماذا دمرت الدولة المعالم الاستشفائية الكبرى التي كانت مفخرة لكل المغاربة: مستشفى بن صميم بأفران ـ “سبيطار الرية” بابن أحمد ـ مستشفى دار بن قريش بتطوان.
بقلم : ساجي عبد الرحمان.
في هذا السياق وجب الوقوف على بعض الأمور المهمة ومن ضمنها القول بأن توصيف البعض لكورونا بالعدو الخفي هو توصيف فيه شيء من الحيف والتجني، لأن هذا العدو المفترى عليه تبين أنه كشاف للأزمات الحقيقية : أزمة الفشل الأخلاقي الذي يطبع عقول النظام الرأسمالي، وقد تابع الجميع كيف فضل ترامب سقوط الأرواح البشرية عوض سقوط الاقتصاد الأميركي، وكيف واعد ماكرون الفرنسيين (من خلال خطاب يوم 13 ابريل المتعلق بإعلان تمديد حالة الطوارئ) بإعادة الحياة إلى مجاريها بعد 11 مايو قائلا بالحرف: « La situation actuelle creuse les inégalités »،الوضع الحالي يزيد من تعميق الفوارق؛ ولم يشعر الرئيس أنه بجملته هذه قد اعترف ضمنيا بالوجود الأصلي للفوارق الاجتماعية والاقتصادية بين الفرنسيين، إن أزمة كورونا ما هي إلا محطة من محطات الحقيقة.. محطة تاريخية فاضحة للأزمات الحقيقية لانهيار القيم الذي لازم تنظيرات وممارسة الرأسمالية.
وفي درجة ثانية فضحت أزمة كورونا تهالك وفشل السياسات الصحية لمعظم الدول إذ أن جلها تولي معظم الاهتمام لقطاعات الربح المادي الاقتصادي، وتعتبر قطاع الصحة دون فائدة ربحية، رغم أن نجاعة حفظ الأمن الصحي للإنسان الآن أصبح هو مقياس التقدم الحضاري، ويحيلنا هذا على أمر بالغ الأهمية، فقد أصبحت رابطة المواطن بدولته في هذا السياق الدقيق تحددها تقاس بمقدار ثقته في المنظومة الصحية، لأن الأمر يرتبط بشكل مباشر بتقييمه لاحتمال بقائه على قيد الحياة من عدمه.
تتصارع اليوم جل دول وشعوب العالم “متخلفة كانت أو متقدمة” وما زالت حسب طاقاتها مع فيروس كوفيدـ19 بأدوات مختلفة، أهمها التكنولوجيا والمجموعات العلمية الباحثة التي تحاول إيجاد لقاحات وأدوية، و بالعامل البشري المدرب من الأطقم الطبية والتمريضية والتقنية التي توجد في الصفوف الأمامية للمواجهة، وقد سقطت أعداد منها شهيدة في خدمة الإنسان والواجب..
وبالرجوع إلى المغرب فقد شرعت الدولة قوانين وأخذت قرارات وإجراءات مرتبطة بمواجهة الوباء أغلبها لاقت استحسان الجميع ولها الفضل على الأقل في التحكم في درجة انتشاره ولا يمكن أن نكون ضدها. وعلى الرغم من ذلك نلاحظ استمرار ارتفاع عدد الوفيات بالمقارنة مع العدد الإجمالي للحالات المصابة، الذي يعد صغيرا مقارنة مع دول أخرى، ويفسر هذا الارتفاع دون أدنى شك باختلالات المنظومة الصحية العميقة والمتراكمة ذات الأوجه المتعددة، وهي نفسها التي تعرقل فعالية نجاح سياسة الدولة في محاربة ارتفاع عدد الوفيات جراء الإصابة ب “كوفيد 19”.
تحدث الكثيرون عن أوجه اختلالات المنظومة الصحية بالمغرب، وتابعنا رعونة التعنت الواضح للفرق البرلمانية لأحزاب الائتلاف الحكومي وأحزاب المعارضة الشكلية في عرقلة مختلف مقترحات فيدرالية اليسار الديمقراطي، هاته الأخيرة التي سعت دائما وتسعى من خلالها إلى إعطاء المزيد من الاهتمام بقطاع الصحة من خلال الرفع من مخصصاته المالية لتأهيل المستشفيات المتهرئة وبناء وحدات ومركبات استشفائية جديدة وتوظيف المزيد من العاملين في مجال الصحة.
وهنا لابد من الوقوف على خطئ جسيم من أخطاء الدولة في تدبير الشأن الصحي للبلاد، والمتمثل في إغلاق أهم المستشفيات العريقة المتخصصة في علاج الأمراض الصدرية والتنفسية في فترات سابقة عوض تأهيلها والحفاظ على دورها الصحي وصيتها القاري والعالمي.
غلق مستشفى بن صميم جريمة في حق صحة المغاربة
نذكر على سبيل المثال لا الحصر مستشفى بن صميم للأمراض الصدرية الواقع بين أزور و إفران، والمقام من طرف فرنسا سنة 1948 على مساحة 80 هكتارا في منطقة غابوية جبلية تتميز بصفاء جوها وخلوه من التلوث، وقد تأسس بناء على طلب “موريس بونجان” الذي لم تنجح المستشفيات الفرنسية في تخليصه من داء السل وشفي في المغرب أثناء زيارته للمنطقة المذكورة بالنظر لخصوصيتها البيئية المساعدة على الشفاء من الأمراض الصدرية، كان يتألف المستشفى إبان اشتغاله من 8 طوابق بطاقة استيعابية من 400 سرير وطاقم طبي متخصص يتكون من 4 أطباء متخصصين في علاج الأمراض الصدرية والتنفسية، تحت إشراف طبيب رئيسي، ويساعدهم 32 ممرضا يستقرون في بنايات محيطة بالمستشفى، وكانت أيضا توجد فيه مرافق مختلفة رياضية ودينية وثقافية (قاعات رياضية وقاعة للمسرح والسينما ومسجد وكنيسة…)، وقد كان وجهة للمغاربة ومواطنين من جنسيات مختلفة ثبت شفاؤهم به.
اشتغل المستشفى تحت إدارة فرنسا منذ 1954 حتى 1965 وبعد هذه الفترة مع “استقلال” المغرب أمسكت وزارة الصحة المغربية بزمام أموره إلى حدود سنة 1973، وهي سنة إغلاقه، وقد عرفت هذه المرحلة الثانية سوء التدبير والإهمال، مما أدى إلى تراجعه وإغلاقه رسميا سنة 73، وظل بعدها مهملا بحيث تعرض لعمليات متتالية من السرقة المقصودة والتخريب للمعدات الطبية وكل التجهيزات حتى أصبح مجرد بناية مهجورة تروى حولها قصص من العالم الآخر عالم الجن والأشباح، وللمصادفة الغريبة أن المرحلة اللاحقة عرفت توسع أخطبوط المصحات الخاصة وتغول الرأسمال المتوحش في قطاع الصحة.
الدولة مسؤولة عن دفع “سبيطار الرية” بابن أحمد لإغلاق أبوابه
نفس الوضع المأساوي تقريبا شهه مستشفى الأمراض الصدرية بمدينة ابن احمد المعروف بالدارجة المغربية ب “اسبيطار الرية” الذي شيده الفرنسيون سنة 1941 وظل يقدم خدماته الاستشفائية منذ 1945 إلى حدود سنة 2004 التي أغلق فيها دون سبب مقنع، ويقع هذا المستشفى في مكان يتفرد بمناخ أصغري (Microclimat) دون باقي مناطق الجهة مما ييسر عملية الاستشفاء، يتكون من 4 طوابق بطاقة استيعابية تبلغ 300 سرير وطاقم طبي كان يتكون آنذاك من أكثر من 24 عنصرا ويتشكل من أطباء مختصين وممرضين وإداريين وتقنيين ومساعدين.
الدولة مهدت لغلق “مستشفى دار بن قريش” بتطوان بتركه للإهمال
وهي نفس الخطة الدرامية لإغلاق مستشفى محمد الخامس لعلاج الأمراض الصدرية وداء السل بتطوان المعروف ب “مستشفى دار بن قريش” الذي شيد سنة 1946 إبان مرحلة “الحماية الإسبانية” وكان مبناه يتكون من 3 طوابق بطاقة استيعابية من 314 سريرا، وكان يتميز – قبل إتلافه – بمرافقه الكثيرة وحدائقه.. ظل مستشفى دار بن قريش يعاني إهمال وزارة الصحة، بحيث ظلت هذه الأخيرة ترفض ترميمه وإصلاح مرافقه وصيانة تجهيزاته حتى أتلفت وفسدت قنوات الصرف الصحي والماء الشروب، أما موارده البشرية التي كانت جلها من الراهبات الإسبانيات المتطوعات فقد تقلصت شيئا فشيئا إلى أن قررت اخر ثلاث راهبات إسبانيات مغادرة هذا الصرح الصحي الجميل (سنة 2015) بسبب تعرضهن للإحباط وعدم قدرتهن على الاستمرار في العمل في تلك الظروف الحاطة بكرامتهن وبكرامة المرضى.
لقد كانت المستشفيات المذكورة كلها تلعب أدوارا صحية مهمة في مناطقها محليا ووطنيا، أهمها دور العزل الصحي بعيدا عن التجمعات السكنية للمرضى، وبالتالي حماية الأهالي من العدوى، تخيلوا معي لو تم تأهيلها عوض التخلص منها، ألم تكن لتنفعنا في هذه الأيام الموبوءة؟
لقد تذرع وزير الصحة، أنس الدكالي بتاريخ 03 فبراير 2019، في جواب له على سؤال كتابي قدمه أحد النواب حول الأسباب الكامنة وراء إغلاق مستشفى بن صميم ب “مغالطات منطقية” من قبيل انخراط المغرب في استراتيجية منظمة الصحة العالمية للوقاية ومحاربة داء السل التي مفادها أن تطور وفعالية المضادات الحيوية واعتماد مقاربة علاجية مقيدة أو غير سالبة للحرية تقتضي إغلاق مستشفيات الأمراض الصدرية والتنفسية،..
فحـتى وإن تحدثنا يا سعادة الوزير عن الملائمة مع الاستراتيجية المذكورة في مجال الأمراض الصدرية، فهذا لا يبرر إغلاق هاته المؤسسات الاستشفائية الضخمة، والتي يفتقر إليها نظامنا الصحي وتسقط العديد من الأرواح سنويا بسبب رداءته.
إن تخلفنا الذي يظهر جليا في حالة قطاعاتنا الحيوية الاجتماعية، في مقدمتها الصحة والتعليم لا يمكن أن تبرره أية أسطورة من الأساطير المؤسسة لسياسة المخزن، فذريعة نقص الإمكانات المادية مثلا هي ذريعة مخالفة للحقيقة، لقد شاهدتم كيف تم إيداع مليارات الدراهم في وقت قياسي بصندوق تدبير جائحة كورونا، و ماهي إلا فتحات مجهرية في جيوب “المخزن الاقتصادي”. إن تقدم المنظومة الصحية بالمغرب وأي تقدم أخر هو مسألة إرادة سياسية وقرار سياسي، ولا شيء غير ذلك من الأسباب غير الموضوعية التي تؤبد حالة التخلف، وهي اختيارات للدولة ترمي تأبيد هيمنة الطبقة المنتفعة من الريع المخزني وهيمنتها على الثروة وترك بقية فئات المجتمع فريسة للتفقير والمرض والإهمال الممنهج.
إن الوقت قد حان، للضغط من أجل امتلاك استراتيجية عمومية لتأهيل المستشفيات المغلقة وإعادة بريقها ومعه بريق أمل المغاربة في منظومتهم الصحية، لقد أخلفت مستشفيات بن صميم وبن احمد وبن قريش الموعد مع كوفيد 2019، بفعل فاعل دمر معالم تاريخية صحية للاستشفاء العمومي، كانت مفخرة لكل المغاربة، وذلك عن قصد، فأعيدوها كي لا تخلفه مع “كوفيد المقبل“.