كورونا.. الممر الأسود
شهادة ممرض من الخط الأمامي للمواجهة :
◆ نبيل إبراهيمي
لم أكن أتخيل وأنا ألج المدينة، بعد عودتي الاضطرارية، التي أوقفت زيارتي لأسرتي، أنني سأجد نفسي وسط معركة حامية الوطيس، وأنا بين المحاربين للفيروس، كنت أتصور أن مدينة بوجدور بعيدة جدا عن المدن المركزية التي كان الوباء قد بدأ فيها بالتفشي فيها، هكذا ظننت نفسي في جزيرة معزولة في منأى عن الخطر.
لكن كل ذلك تبدد عند وصولي للمستشفى، فقد تغير كليا وكل الأطقم الطبية كانت على أهبة الاستعداد لمعركة استقبال حالات قد تكون حاملة للفيروس. بعد مرور يومين على تواجدي بالمدينة.. لا جديد يذكر. فجأة نادى المنادي، فوجدت نفسي في الصفوف الأمامية لكتيبة مواجهة غزو الفيروس، فيلقُنا أطلق عليه : “لائحة إلزامية الكوڤيد19”، وهي مخصصة للأطقم الطبية والتمريضية المكلفة بتشخيص المرض لدى الأفراد. أحسست بشعور يختلج في دواخلي، وهو مزيج بين الفرح والفخر، إذ كنت أخاطب نفسي قائلا: “لا شيء يمكن أن يضرني مادام دعاء والدتي و رضا والدي يحيطاني، كأنهما جنديان مرابطان لحمايتي”.
تلقيت أول اتصال من إدارة المستشفى مفاده أن حالتين مشكوك في إصابتها بالمرض اللعين تتواجدان بالعزل الصحي، يجب أن تخضعا للفحص بالأشعة كمرحلة من مراحل تشخيص المرض، أنهيت المكالمة، أطفأت سيجارتي بعُجالة ثم اتصلت بزميلي المكلف معي بالمهمة. ولجنا المستشفى وكانت الساعة تشير إلى التاسعة مساء، هدوء تام في كل الأرجاء، فراغ في المستعجلات التي هجرها الناس بفعل الفزع الرائج في الميديا، وهي التي كانت وإلى وقت قريب تكتظ بالمرضى، اليوم الكل مختبئ في بيته خوفا من الفيروس. كان المرور إجباريا عبر الممرضة المكلفة بالعزل، حيث أخبرتني بأن اللباس المخصص موجود أمام باب مصلحة الأشعة، فتحت باب المصلحة، حملت بين يدي اللباس ثم طلبت من زميلي أن يقوم بتشغيل الأجهزة ريثما يتم إحضار المريضين، علمت أن عملية إحضارهما قد تتأخر بعض الشيء، اتجهت نحو ساحة في المستشفى أشعلت سيجارتي دخنتها بٍنَهَم تم عدت. ساعدني زميلي في ارتداء اللباس المخصص للعملية بعد التعقيم، ودب في جسدي شعور بفخر الواجب المهني، عندما لمحت المريضة قادمة من ممر ضوءه خافت، مرتدية قناعا وخلفها الممرضة التي تقوم بدفع الكرسي المتحرك، تحول الشعور بالفخر والسعادة إلى نوع من الخوف ويداي ترتجفان، لم أشعر بهكذا خوف حتى وأنا في بداية مساري المهني، بل وحتى وأنا أقوم بالفحص بالأشعة لحالات مستعجلة وجد خطيرة.. هاته المرة فعلا شعرت بخوف من نوع غريب جدا. لوهلة جاء في مخيلتي أن المصاب في يوم من الأيام قد يكون والدي المصاب بالسرطان أو والدتي المصابة بالسكري، أو ربما أنا بعد أن تنتقل إلي العدوى من أحد المرضى. اختلطت الأفكار في رأسي، هي ثوان فقط استغرقها دخول المريضة إلى قاعة الفحص، لكنها مرت كالساعات. أحسست أنني بحاجة إلى سيجارة ثانية لكي أهدأ، لكن حالة المريضة واللباس الذي أرتديه والتعقيم المسبق يحولان دون ذلك، تمالكت نفسي وفي لحظة استعدت كل مهارتي ورباطة جأشي، أنجزت الفحص للمريضة الأولى بعد أن هدأت من روعها، وتكلف زميلي بإخراج الصورة. انتظرت أمام باب المصلحة المريض الثاني جاء هو الآخر من ذلك الممر المخيف، ممر يشبه ذلك الذي يمر به السجين وهو يدخل زنزانته. هاته المرة الشعور بالخوف كان بدرجة أخف، ربما أنني قد بدأت أتأقلم مع الحالات المصابة، وبدأت أتعايش مع الخطر.
أنهينا عملنا، قمت بإزالة تلك الملابس الحربية وعملية التعقيم الثانية، اتجهت نحو باب المستشفى، أشعلت سيجارتي دخنتها بشراهة شبقية، كتلك التي كنت أدخنها خلسة من والداي قبل اكتشاف أمري. ألقيت نظرة على ذلك الممر المخيف ثم أيقنت أن الحرب ضد الجائحة تحد صعب لكننا يقينا سنربحه، وفي النهاية ستكون هاته المرحلة ذكريات مليئة بالفخر، سأرويها لوالداي عند عودتي إليهما سالما.