كورونا وانهيار نظرية الكوخ و القصر

◆ عبد الحكيم برنوص

اليوم‭ ‬يصغر‭ ‬العالم‭  ‬وينكمش،‭ ‬حتى‭ ‬عاد‭ ‬بالفعل‭ ‬أصغر‭ ‬من‭ ‬قرية‭ ‬صغيرة،‭ ‬بل‭ ‬أضيق‭ ‬من‭ ‬جُحر‭ (‬والحَجْر‭ ‬جُحرٌ‭). ‬وقبل‭ ‬ذلك‭  ‬سعى‭ ‬البشر‭ ‬إلى‭ ‬تقليص‭ ‬الحجوم‭ ‬والمسافات‭ ‬والأمكنة‭ ‬والأزمنة‭ ‬وتشابكوا‭ ‬واشتبكوا،‭ ‬واستنكروا‭ ‬الحدود‭ ‬والأسيجة،‭ ‬ووضعوا‭ ‬لأنفسهم‭ ‬طرقا‭ ‬سيارة‭ ‬يُسيّرون‭ ‬ويتداولون‭ ‬فيها‭ ‬كل‭ ‬شيء،‭ ‬سلعا‭ ‬ومعلومات‭ ‬وقيما‭…‬ودعَوْا‭ ‬إلى‭ ‬الفتْح،‭ ‬فتح‭ ‬الأبواب‭ ‬والهُويات‭ ‬على‭ ‬مصاريعها‭ ‬ومطاراتها‭ ‬وموانئها،‭ ‬وصنّعوا‭ ‬لكل‭ ‬ذلك‭ ‬قيما‭ ‬جديدة،‭ ‬أنتجوها‭ ‬سلعا‭ ‬وعلبا‭ ‬في‭ ‬المصانع‭ ‬ومراكز‭ ‬الدراسات‭ ‬المعروفة‭ ‬والمجهولة،‭ ‬والويل‭ ‬لمن‭ ‬يدعي‭ ‬ممانعة‭ ‬أو‭ ‬اختلافا‭ ‬أو‭ ‬مقاومة‭.‬

اليوم‭ ‬يسود‭ ‬قانون‭ “‬لامساس‭”‬،‭ ‬وآن‭ ‬لكل‭ ‬دولة‭ ‬أن‭ ‬تقبض‭ “‬رِجليها‭”‬،‭ ‬وغدا‭ ‬موقف‭ ‬النأي‭ ‬بالنفس‭ ‬الموقف‭ ‬الأقرب‭ ‬إلى‭ ‬أرواح‭ ‬الناس‭ ‬وحيواتهم‭.‬

‭ ‬في‭ ‬هذه‭ ‬الأيام‭ ‬العصيبة‭ ‬تتفقدّ‭ ‬الدول‭ “‬جوانبها‭” ‬لترى‭ ‬إن‭ ‬كان‭ ‬هناك‭ ‬من‭ ‬طِبٍ‭ ‬يدفع،‭ ‬أو‭ ‬تعليم‭ ‬ينفع،‭ ‬أو‭ ‬أمن‭ ‬يمنع‭. ‬فحاجة‭ ‬الحكومات‭ ‬في‭ ‬هذه‭ ‬الأيام‭ ‬أشد‭ ‬إلى‭ ‬بُناتها‭ ‬الحقيقيين؛‭ ‬الذين‭ ‬بهم‭ ‬تقوم‭ ‬الدول،‭ ‬هؤلاء‭ ‬المغموط‭ ‬حقّهم،‭ ‬المُلتفَت‭ ‬دونهم‭ ‬إلى‭ ‬غيرهم،‭ ‬ممن‭ ‬يحاط‭ ‬بالحظوة‭ ‬والتكريم‭.‬

إن‭ ‬الناس‭ ‬الذين‭ ‬يُطلب‭ ‬منهم،‭ ‬وعلى‭ ‬حين‭ ‬غرّة،‭ ‬أن‭ ‬يلزموا‭ ‬مساكنهم،‭ ‬وأن‭ ‬يتحلّوْا‭ ‬بقدرٍ‭ ‬عال‭ ‬من‭ ‬الانضباط،‭ ‬ومستوى‭ ‬كبير‭ ‬من‭ ‬المسؤولية،‭ ‬همُ‭ ‬الناس‭ ‬الذين‭ ‬ـ‭  ‬وحتى‭ ‬أمس‭ ‬ـ‭  ‬يتعرضون‭ ‬إلى‭ ‬جرعات‭ ‬كبيرة‭ ‬وأسواط‭ ‬غليظة‭ ‬من‭ ‬التجهيل‭ ‬والتتفيه‭ ‬والفدامة،‭ ‬تنهال‭ ‬عليهم‭ ‬حتى‭ ‬أدمنوها‭ ‬وغدوْا‭ ‬مريديها‭. ‬فقد‭ ‬حيل‭ ‬بينهم‭ ‬وبين‭ ‬معلّميهم‭ ‬الحقيقيين،‭ ‬فلم‭ ‬يراعوا‭ ‬لهم‭ ‬قدرا،‭ ‬ولا‭ ‬قدّروا‭ ‬لهم‭ ‬شأنا‭.‬

آن‭ ‬الأوان‭ ‬أن‭ ‬يُصالح‭  ‬المجتمع‭ ‬أبناءه‭ ‬الحقيقيين،‭ ‬وأن‭ ‬يطوي‭ ‬كشحا‭ ‬عن‭ ‬ثلة‭ ‬من‭ ‬التافهين‭ (‬ولعله‭ ‬الوصف‭ ‬الذي‭ ‬يليق‭ ‬بهم‭ ‬من‭ ‬غير‭ ‬شطط‭)‬،‭ ‬الذين‭ ‬ملؤوا‭ ‬الدنيا‭ ‬صخبا‭ ‬ورداءة‭ (‬مرحى‭ ‬للفن‭ ‬الجميل‭ ‬الهادف‭). ‬وحان‭ ‬الوقت‭ ‬أن‭ ‬تعترف‭ ‬الحكومات‭ ‬بِبُناتها،‭ ‬الذين‭ ‬طالما‭ ‬عدّتهم‭ ‬ربائبها‭ ‬غير‭ ‬المرغوب‭ ‬فيهم‭. ‬

فعلى‭ ‬حين‭ ‬غرّة‭ ‬تتحسس‭ ‬الحكومات‭ ‬أطباءها‭ ‬وممرّضيها‭ ‬وأسرّتها‭ ‬ومستشفياتها،‭ ‬تدفع‭ ‬بهذا‭ ‬الطاقم‭ ‬الأعزل‭ ‬كلّه‭ ‬إلى‭ ‬الخطوط‭ ‬الأمامية‭ ‬للمعركة،‭ ‬وتضعهم‭ ‬في‭ ‬مرمى‭ ‬النار‭ ‬والعدوى‭. ‬تنتظر‭ ‬منهم‭ ‬أن‭ ‬يُحرزوا‭ ‬النصر،‭ ‬وهي‭ ‬التي‭ ‬ما‭ ‬فتئت‭ ‬تتبرأ‭ ‬منهم‭ ‬وتبيعهم‭ ‬واحدا‭ ‬تلو‭ ‬الآخر‭ ( ‬الحديث‭ ‬عن‭ ‬الأطباء‭ ‬العموميين،‭ ‬الذين‭ ‬آثروا‭ ‬خدمة‭ ‬الناس‭ ‬على‭ ‬متاع‭ ‬دنيوي‭ ‬مفلس‭)‬،‭ ‬الحكومات‭ ‬التي‭ ‬جعلت‭ ‬الطبّ‭ ‬قسمين‭ ‬واحد‭ “‬للأفاضل‭” ‬والأخر‭ “‬للأراذل‭”.‬

في‭ ‬أجواء‭ ‬الوباء‭ ‬تنهار‭ ‬أكذوبة‭ ‬التطبيب‭ ‬الفردي،‭ ‬وتفلس‭ ‬أثَرَتُه‭ ‬أيما‭ ‬إفلاس،‭ ‬ويلوذ‭ ‬الخاص‭ ‬بالعمومي‭ ‬مزاحما،‭ ‬وتتلاشى‭ ‬أحلام‭ ‬أصحاب‭ ‬ملاجئ‭ ‬النجاة‭ ‬الفردية،‭ ‬والفراديس‭ ‬البعيدة‭ ‬والأرصدة‭ ‬الاحتياطية‭ ‬يُعدونها‭ ‬ويطمئنون‭ ‬إليها‭ ‬تحسبا‭ ‬لأي‭ ‬طارئ‭. (‬لم‭ ‬يكن‭ ‬ليخطر‭ ‬على‭ ‬بال‭ ‬أحد،‭ ‬هذا‭ ‬الغزو‭ ‬الفجائي‭ ‬لهذا‭ ‬الوباء‭).‬

‭ ‬فلا‭ ‬منجاة‭ ‬اليوم‭ ‬من‭ ‬المستشفيات‭ ‬العمومية،‭ ‬ولا‭ ‬مفرّ‭ ‬من‭ ‬التدبير‭ ‬الصحّي‭ ‬الوطني،‭ ‬ولن‭ ‬تُجدي‭ ‬كل‭ ‬محاولة‭ ‬فردية‭ ‬توثر‭ ‬أنفسها‭ ‬على‭ ‬الناس،‭ ‬مُعتنقةً‭ ‬المنطق‭ ‬المتخابث‭ ” ‬أنا‭ ‬ومن‭ ‬بعدي‭ ‬الوباء‭”. ‬فالجسد‭ ‬واحدٌ‭ ‬والسفينة‭ ‬واحدة،‭ ‬فلو‭ ‬تُرك‭ ‬الناس‭ ‬وما‭ ‬يفعلون‭ (‬وما‭ ‬يُفعل‭ ‬بهم‭) ‬لغرق‭ ‬المركب‭ ‬كله‭. (‬لو‭ ‬كان‭ ‬الترياق‭ ‬ممكنا‭ ‬وخيالي‭ ‬الثمن‭ ‬وبيد‭ ‬الخواص‭!! )…‬

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى