الوثيقة 95

في‭ ‬الـ‭ ‬31‭ ‬من‭ ‬شهر‭ ‬أكتوبر‭ ‬1517‭ ‬م،‭ ‬قام‭ ‬شخص‭ ‬في‭ ‬الصباح‭ ‬الباكر،‭ ‬وعلق‭ ‬على‭ ‬باب‭ ‬الكنيسة‭ ‬وثيقة‭ ‬من‭ ‬95‭ ‬حجة،‭ ‬مفادها‭ ‬أن‭ ‬البابا‭ ‬وقساوسته‭ ‬قد‭ ‬طغوا‭ ‬في‭ ‬الأرض‭ ‬باسم‭ ‬الدين،‭ ‬وأن‭ ‬لا‭ ‬حق‭ ‬لرهبان‭ ‬الكنيسة‭ ‬في‭ ‬بيع‭ ‬صكوك‭ ‬الغفران،‭ ‬حيث‭ ‬كانوا‭ ‬يوهمون‭ ‬أتباعهم‭ ‬بالصفح‭ ‬عن‭ ‬خطاياهم‭ ‬التي‭ ‬ارتكبوها،‭ ‬وقدرة‭ ‬القساوسة‭ ‬على‭ ‬إعفاءهم‭ ‬من‭ ‬العقاب‭ ‬الإلهي‭ ‬بشكلٍ‭ ‬تام،‭ ‬بعد‭ ‬طقوس‭ ‬الاعتراف‭ ‬للكاهن‭ ‬بكلِّ‭ ‬الذنوب‭ ‬والآثام،‭ ‬وتوبتهم‭ ‬أمامه،‭ ‬حيث‭ ‬يتم‭ ‬منحهم‭ ‬وثيقةً‭ ‬خطيَّةً‭ ‬تؤكد‭ ‬الغفران‭ ‬لهم‭ ‬من‭ ‬طرف‭ ‬الكنيسة،‭ ‬مقابل‭ ‬أن‭ ‬يدفعوا‭ ‬مبلغاً‭ ‬من‭ ‬المال‭.‬

لم‭ ‬يكن‭ ‬ذاك‭ ‬الشخص‭ ‬سوى‭ ‬مارتن‭ ‬لوثر،‭ ‬أستاذ‭ ‬الفنون‭ ‬وعلم‭ ‬اللاهوت‭ ‬بجامعة‭ ‬فيتنبرغ‭ ‬الألمانية،‭ ‬صاحب‭ ‬الوثيقة‭ ‬95،‭ ‬والتي‭ ‬كانت‭ ‬الشرارة‭ ‬الأولى‭ ‬للتمرد‭ ‬على‭ ‬طغيان‭ ‬الكنيسة‭ ‬الكاثوليكية،‭ ‬وقد‭ ‬توسع‭ ‬أنصار‭ ‬الوثيقة‭ ‬الجديدة‭ ‬بفضحهم‭ ‬استغلال‭ ‬الكنيسة‭ ‬لسذاجة‭ ‬البسطاء،‭ ‬وفضحهم‭ ‬لتحكم‭ ‬ووساطة‭ ‬الإكليروس‭ ‬في‭ ‬العلاقة‭ ‬بين‭ ‬عامة‭ ‬الناس‭ ‬والله،‭ ‬حيث‭ ‬وصلت‭ ‬الوقاحة‭ ‬بالرهبان،‭ ‬أن‭ ‬أصدروا‭ ‬صكوكا‭ ‬لغفران‭ ‬ذنوب‭ ‬الموتى‭ ‬لزيادة‭ ‬الجبايات‭ ‬من‭ ‬الناس‭ ‬عن‭ ‬أهلهم‭ ‬المتوفين،‭ ‬وتسويق‭ ‬مناديب‭ ‬الكنيسة‭ ‬فكرة‭ ‬بيع‭ ‬قطع‭ ‬أرضية‭ ‬من‭ ‬الجنة‭ ‬مقابل‭ ‬صكوك‭ ‬الغفران‭.‬

فتوسعت‭ ‬دائرة‭ ‬تصدي‭ ‬المصلحين‭ ‬الجدد‭ ‬لدجل‭ ‬رهبان‭ ‬الكنيسة،‭ ‬وفضح‭ ‬المتاجرة‭ ‬بالدين‭ ‬مقابل‭ ‬مصالح‭ ‬مادية‭ ‬من‭ ‬جيوب‭ ‬البسطاء‭ ‬السذج،‭ ‬أمام‭ ‬ازدياد‭ ‬أعداد‭ ‬أنصار‭ ‬مارتن‭ ‬لوثر‭ ‬البروتستانتيين‭ [‬أي‭: ‬المحتجِّين،‭ ‬بالألمانية‭ ‬واللغات‭ ‬اللاتينية‭].‬

يحكي‭ ‬التاريخ،‭ ‬أنه‭ ‬في‭ ‬ليلة‭ ‬من‭ ‬غشت‭ ‬سنة‭ ‬1572م،‭ ‬ارتُكِبَتْ‭ ‬أكبر‭ ‬مذابح‭ ‬التاريخ،‭ ‬فيما‭ ‬يعرف‭ ‬بمجزرة‭ ‬سَانْ‭-‬بَرْتُولِيمِي،‭ ‬حيث‭ ‬قام‭ ‬الجنود‭ ‬الفرنسيون‭ ‬بإيعاز‭ ‬من‭ ‬الكنيسة‭ ‬الكاثوليكية‭ ‬لسان‭ ‬جيرمانوس‭ ‬بمذبحة‭ ‬راح‭ ‬ضحيتها‭ ‬70‭ ‬ألف‭ ‬شخصا‭ ‬كانوا‭ ‬ضد‭ ‬صكوك‭ ‬الغفران‭ ‬وسطوة‭ ‬رجال‭ ‬الدين‭ ‬الكنسيين،‭ ‬أغلبهم‭ ‬من‭ ‬النساء‭ ‬والأطفال‭. ‬والمثير‭ ‬للاشمئزاز‭ ‬أن‭ ‬البابا‭ ‬بيوس‭ ‬الخامس‭ ‬أقام‭ ‬قُدَّاساً‭ ‬لغفران‭ ‬الذنوب‭ ‬كاملة‭ ‬لكل‭ ‬من‭ ‬ارتكبوا‭ ‬مذبحة‭ ‬سَانْ‭-‬بَرْتُولِيمِي‭. ‬

أكيد‭ ‬أن‭ ‬الإسلام‭ ‬أنهى‭ ‬دور‭ ‬القساوسة‭ ‬في‭ ‬علاقة‭ ‬الناس‭ ‬بالله،‭ ‬فلا‭ ‬سماسرة‭ ‬ولا‭ ‬وسطاء‭ ‬هناك،‭ ‬فلماذا‭ ‬يطفو‭ ‬إلى‭ ‬السطح‭ ‬في‭ ‬زمن‭ ‬النوائب‭ ‬والكوارث‭ ‬رهبان‭ ‬متأسلمون،‭ ‬يعيدون‭ ‬بشاعة‭ ‬صكوك‭ ‬الغفران،‭ ‬فأصبحوا‭ ‬يتنصبون‭ ‬ناطقين‭ ‬باسم‭ ‬الدين‭ ‬والقدرة‭ ‬على‭ ‬خلاص‭ ‬الناس‭ ‬وإدخالهم‭ ‬الجنة‭: ‬الرُّقاةُ‭ ‬والدَّجالون‭ ‬وفقهاءُ‭ ‬السوء،‭ ‬ومدعُو‭ ‬النبوءة،‭ ‬وأفَّاقُو‭ ‬العلاجات‭ ‬الخرافية‭..‬

إن‭ ‬تَغَوُّلَ‭ ‬تَشَدُّدِ‭ ‬الوهابية‭ ‬في‭ ‬العالم‭ ‬الإسلامي،‭ ‬وممثليها‭ ‬المتطرفين‭ ‬والغُلاَةِ‭ ‬في‭ ‬بلداننا،‭ ‬يفرضُ‭ ‬على‭ ‬المتنورين‭ ‬والعقلاء‭ ‬إحداثَ‭ ‬ثورةٍ‭ ‬إصلاحيةٍ‭ ‬ضد‭ ‬الدَّجَلِ‭ ‬والمتاجرةِ‭ ‬بالدين،‭ ‬وإعلاءَ‭ ‬قِيَمِ‭ ‬التسامحِ‭ ‬الإنساني‭ ‬والعيش‭ ‬المشترك،‭ ‬فالعقلُ‭ ‬آية‭ ‬الله‭ ‬العظمى‭.‬

نحتاج‭ ‬في‭ ‬عالمنا‭ ‬الإسلامي‭ ‬أيضا‭ ‬لتعليق‭ ‬وثيقة‭ ‬95‭ ‬خاصة‭ ‬بنا،‭ ‬لنفتحَ‭ ‬بابَ‭ ‬التقدمِ‭ ‬والعلم‭ ‬على‭ ‬مصراعيه‭ ‬أمام‭ ‬شعوبنا‭.‬

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى