رسالة عمالية في زمن كورونا

◆ أحمد عارف

رفيقي‭  ‬جعفر،‭ ‬

‭ ‬أكتب‭ ‬إليك‭ ‬بعمق‭ ‬استثنائي‭ ‬هذه‭ ‬السنة،‭ ‬إنها‭ ‬أول‭ ‬مرة‭ ‬مند‭ ‬ما‭ ‬يقارب‭ ‬ربع‭ ‬قرن‭ ‬لم‭ ‬نتمكن‭ ‬من‭ ‬السير‭ ‬سويا‭ ‬وسط‭ “‬كرنفال‭” ‬فاتح‭ ‬ماي،‭ ‬نردد‭ ‬غضبنا‭ ‬بحناجر‭ ‬اغتالتها‭ ‬فصول‭ ‬الأحلام،‭ ‬عندما‭ ‬ترتفع‭ ‬الأصوات‭ ‬والشعارات‭ ‬لا‭ ‬أستطيع‭ ‬أن‭ ‬أصغي‭ ‬الى‭ ‬فضولك‭ ‬المتكرر‭ ‬وأنت‭ ‬تسألني‭ ‬حول‭ ‬المغزى‭ ‬والمضمون‭ ‬والحوار‭ ‬والحصيلة‭ ‬والتعددية‭ ‬والانتخابات‭ ‬والمخطط‭ ‬الأخضر‭..‬،‭ ‬تزعجني‭ ‬كثيرا‭ ‬طوال‭ ‬المسيرة،‭ ‬لكني‭ ‬أحب‭ ‬فيك‭ ‬جرأتك‭ ‬وعفويتك‭ .‬

أنت‭ ‬القادم‭ / ‬الهارب‭ ‬من‭ ‬تضاريس‭ ‬البادية‭  ‬والقبيلة‭ ‬باحثا‭ ‬عن‭ ‬الشغل‭ ‬في‭ ‬عالم‭ ‬موحش‭ ‬غارق‭ ‬في‭ ‬الأغلال،‭ ‬عرفت‭ ‬أنك‭ ‬لم‭ ‬تتمكن‭ ‬من‭ ‬إتمام‭ ‬دراستك‭ ‬الإعدادية،‭ ‬لأنك‭ ‬كنت‭ ‬مجبرا‭ ‬على‭ ‬إعالة‭ ‬أسرتك‭ ‬الفقيرة‭ ‬بعد‭ ‬ان‭ ‬سقط‭ ‬والدك‭ ‬برصاصة‭ “‬طائشة‭” ‬من‭ ‬أحد‭ ‬العملاء‭ ‬وهو‭ ‬في‭ ‬ميدان‭ ‬الشرف،‭ ‬ذلك‭ ‬كان‭ ‬في‭ ‬بدايات‭ ‬الاحتلال‭ ‬الأجنبي،‭ ‬لكنك‭ ‬مدمن‭ ‬على‭ ‬قراءة‭ ‬الروايات‭ ‬والجرائد‭ ‬كلما‭ ‬استطعت‭ ‬إلى‭ ‬ذلك‭ ‬سبيلا،‭ ‬تطرح‭ ‬الأسئلة‭ ‬حول‭ ‬كل‭ ‬شيء،‭ ‬تريد‭ ‬أن‭ ‬تعرف‭ ‬ماذا‭ ‬وقع‭ ‬وكيف،‭ ‬ولماذا‭ ‬أنت‭ ‬هنا‭ ‬في‭ ‬هذه‭ ‬المدينة‭ ‬العملاقة‭ ‬المخيفة،‭ ‬تشتغل‭ ‬في‭ ‬ظروف‭ ‬أكثر‭ ‬بشاعة‭ ‬وقبحا‭ ‬من‭ ‬التي‭ ‬كانت‭ ‬سببا‭ ‬في‭ ‬رميك‭ ‬خارج‭ ‬طقوس‭ ‬العشيرة‭ ‬؟‭!‬

أتذكر‭ ‬عندما‭ ‬تعرضت‭ ‬للطرد‭ ‬للمرة‭ ‬الخامسة‭ ‬بسبب‭ ‬انتمائك‭ ‬النقابي‭ ‬أنك‭ ‬كنت‭ ‬حائرا‭ ‬في‭ “‬عيد‭ ‬العمال‭” ‬لأنك‭ ‬لم‭ ‬تجد‭ ‬من‭ ‬بين‭ ‬كل‭ ‬ما‭ ‬كتب‭ ‬على‭ ‬اللافتات‭ ‬ما‭ ‬يتناسب‭ ‬مع‭ ‬وضعية‭ “‬مطرود‭”‬،‭ ‬فقلت‭ ‬لك‭ ‬يومها‭ ‬بأن‭ ‬كل‭ ‬هؤلاء‭ ‬مطرودون‭ ‬مع‭ ‬وقف‭ ‬التنفيذ،‭ ‬تنفست‭ ‬الصعداء‭ ‬قليلا‭ ‬وواصلنا‭ ‬المسار،‭ ‬وأنت‭ ‬تختبئ‭ ‬بين‭ ‬دفئ‭ ‬ابتسامتك‭ ‬الأصيلة‭ ‬الصادقة‭ ‬والإحساس‭ ‬بأن‭ ‬خطواتك‭ ‬تقذف‭ ‬بك‭ ‬إلى‭ ‬مواصلة‭ ‬الطريق‭..‬

ذات‭ ‬فاتح‭ ‬ماي،‭ ‬شرحت‭ ‬لي‭ ‬بأن‭ ‬أولى‭ ‬حلقات‭ ‬طردك‭ ‬من‭ ‬العمل‭ ‬كانت‭ ‬بمسقط‭ ‬رأسك‭ ‬الذي‭ ‬هاجرته‭ ‬مرغما،‭ ‬عندما‭ ‬باغتك‭ “‬ابن‭ ‬البلد‭” ‬المسؤول‭ ‬في‭ ‬ضيعة‭ ‬فلاحية،‭ ‬كانت‭ ‬هي‭ ‬نصيبه‭ ‬بعد‭ ‬خروج‭ ‬المعمر،‭ ‬وأنت‭ ‬تتحدث‭ ‬عن‭ ‬الكرامة‭ ‬والأجر‭ ‬مقابل‭ ‬ساعات‭ ‬العمل‭..‬،‭ ‬وبعدها‭ ‬اتهموك‭ ‬بأنك‭ ‬تهدد‭ ‬الاستقرار‭ ‬وحرضوا‭ ‬ضدك‭ ‬أصدقاءك‭ ‬وبعضا‭ ‬من‭ ‬أهلك‭ ‬حتى‭ ‬أجبروك‭ ‬على‭ ‬النزوح‭ ‬بدون‭ ‬أي‭ ‬تعويضات،‭ ‬رغم‭ ‬كل‭ ‬السنوات‭ ‬التي‭ ‬اشتغلت‭ ‬فيها‭ ‬مع‭ ‬الفرنسيس‭..‬

رغم‭ ‬شدة‭ ‬الحرارة‭ ‬كنت‭ ‬في‭ ‬الموعد‭ ‬هذا‭ ‬الصباح‭ ‬أيضا،‭ ‬لكن‭ ‬هذا‭ ‬الأول‭ ‬من‭ ‬مايو‭ ‬بطعم‭ ‬المرارة،‭ ‬لأنك‭ ‬توقفت‭ ‬عن‭ ‬العمل‭ ‬مند‭ ‬ستة‭ ‬أشهر،‭ ‬مطرود‭ ‬كالعادة‭.‬

‭ – ‬بماذا‭ ‬ستحتفل‭ ‬يا‭ ‬جعفر؟‭ ‬ألا‭ ‬تستطيع‭ ‬أن‭ ‬تتوقف‭ ‬قليلا‭ ‬عن‭ ‬رفضك‭ ‬وتمردك‭ ‬واحتجاجاتك‭ ‬؟‭ 

‭- ‬لا‭ ‬أستطيع،‭ ‬أشعر‭ ‬بالظلم‭ ‬و‭ ‬بالاغتراب‭ !‬

‭- ‬أنت‭ ‬مندوب‭ ‬العمال‭ ‬فعلا،‭ ‬لكن‭ ‬مطالبك‭ ‬يجب‭ ‬تأطيرها‭ ‬من‭ ‬طرف‭ ‬الجهاز‭ ‬النقابي‭..‬

‭- ‬الجو‭ ‬جميل‭ ‬رغم‭ ‬شدة‭ ‬الحرارة‭.‬

كل‭ ‬شبر‭ ‬في‭ ‬فلسطين‭ ‬يتعرض‭ ‬للقصف‭ ‬والعدوان‭ ‬من‭ ‬كل‭ ‬الجهات‭ ‬وهذا‭ ‬ما‭ ‬جعل‭ ‬العمال‭ ‬هذه‭ ‬السنة‭ ‬يتغنون‭ ‬باللون‭ ‬الأخضر‭ ‬والأحمر‭ ‬ويرفعون‭ ‬الأبيض‭ ‬والأسود،‭ ‬طوال‭ ‬المسيرة‭ ‬لم‭ ‬يتوقف‭ ‬جعفر‭: ‬لماذا‭ ‬السعودية‭ ‬ولماذا‭ ‬الأردن‭ ‬ومصر‭ ‬وما‭ ‬هو‭ ‬دور‭ ‬لجنة‭ ‬القدس،‭ ‬ما‭ ‬معنى‭ ‬أن‭ ‬يحمل‭ ‬ياسر‭ ‬عرفات‭ ‬غصن‭ ‬الزيتون‭ ‬والبندقية‭ ‬في‭ ‬آن‭ ‬واحد،‭ ‬ما‭ ‬لمقصود‭ ‬بالتطبيع‭..‬

إنها‭ ‬فلسطين‭ ‬يا‭ ‬جعفر،‭ ‬أبناؤها‭ ‬يعرفون‭ ‬كل‭ ‬الحقيقة،‭ ‬يؤمنون‭ ‬بوجودهم‭ ‬وصلابة‭ ‬عهدهم‭ ‬للأرض‭  ‬والأسرى‭. ‬

انطلقت‭ ‬الأناشيد‭ ‬وازدحمت‭ ‬القطاعات‭ ‬في‭ ‬استعداد‭ ‬للاحتفال‭ ‬بعيدها‭ ‬الأممي،‭ ‬أما‭ ‬جعفر‭ ‬فقد‭ ‬حضر‭ ‬متأخرا‭ ‬على‭ ‬غير‭ ‬عادته،‭ ‬وعندما‭ ‬سألته‭ ‬شرح‭ ‬لي‭ ‬بأنه‭ ‬كان‭ ‬يقرأ‭ ‬ما‭ ‬كتب‭ ‬على‭ ‬اللافتات،‭ ‬واندهش‭ ‬كثيرا‭ ‬عندما‭ ‬عثر‭ ‬على‭ ‬لافتات‭ ‬لم‭ ‬تتغير‭ ‬مند‭ ‬عقدين‭ ‬من‭ ‬الزمن،‭ ‬وكأن‭ ‬الحكومات‭ ‬تردد‭ ‬نفس‭ ‬الكلام‭ ‬والنقابات‭ ‬تعيد‭ ‬كتابة‭ ‬نفس‭ ‬الانتظارات،‭ ‬ثم‭ ‬أطلق‭ ‬العنان‭ ‬لوابل‭ ‬من‭ ‬الأسئلة‭ ‬يرتلها‭ ‬في‭ ‬غضب‭ ‬شديد‭ ‬طوال‭ ‬المسيرة‭ : ‬ما‭ ‬الفائدة‭ ‬من‭ ‬الحوار‭ ‬الاجتماعي‭ ‬إذا‭ ‬كانت‭ ‬الدولة‭ ‬لا‭ ‬تحترم‭ ‬التزاماتها‭ ‬في‭ ‬ميادين‭ ‬التشريع‭ ‬وحقوق‭ ‬الانسان‭ ‬؟‭  ‬من‭ ‬له‭ ‬المصلحة‭ ‬في‭ ‬تعدد‭ ‬النقابات،‭ ‬وتشتيت‭ ‬العمال‭ ‬؟‭  ‬لماذا‭ ‬كثرة‭ ‬الاضرابات‭ ‬والاحتجاجات‭ ‬وقلة‭ ‬النتائج‭ ‬؟

لم‭ ‬أتمكن‭ ‬من‭ ‬حصر‭ ‬هذا‭ ‬السيل‭ ‬الجارف‭ ‬من‭ ‬الأسئلة‭ ‬أو‭ ‬ترتيب‭ ‬الإجابات‭ ‬بشكل‭ ‬قادر‭ ‬على‭ ‬اشباع‭ ‬فضول‭ ‬جعفر،‭ ‬حاولت‭ ‬أن‭ ‬أختصر‭ ‬المسافات‭ ‬والقراءات‭ ‬عندما‭ ‬أكدت‭ ‬له‭ ‬بأن‭ ‬تاريخ‭ ‬الطبقة‭ ‬العاملة‭ ‬المغربية‭ ‬والحركة‭ ‬النقابية‭ ‬لا‭ ‬يمكن‭ ‬استيعاب‭ ‬تفاصيله‭ ‬في‭ ‬الكفاح‭ ‬وفي‭ ‬الألم،‭ ‬في‭ ‬الإصرار‭ ‬والانكسارات،‭ ‬دون‭ ‬قراءته‭ ‬في‭ ‬أزمنته‭ ‬المتداخلة‭ ‬سياسيا،‭ ‬اجتماعيا‭ ‬وفكريا‭  ‬من‭ ‬أجل‭ :‬

‭- ‬معرفة‭ ‬طبيعة‭ ‬الاقتصاد‭ ‬المغربي‭ ‬وتشكيلاته‭ ‬الاجتماعية‭ .‬

‭- ‬نوعية‭ ‬الوداديات‭ ‬والتعاضديات‭ ‬والجمعيات‭ ‬المهنية‭ ‬والتكتلات‭ ‬العمالية‭ ‬التي‭ ‬عرفتها‭ ‬الحركة‭ ‬النقابية‭ ‬قبل‭ ‬الاستقلال،‭ ‬وذلك‭ ‬تحت‭ ‬إشراف‭ ‬الفرنسيين‭ ‬في‭ ‬الكثير‭ ‬من‭ ‬الأحيان،‭ ‬والتي‭ ‬قال‭ ‬عنها‭ ‬المؤرخ‭ ‬ألبير‭ ‬عياش‭ “‬تبدو‭ ‬الحركة‭ ‬النقابية‭ ‬بالمغرب‭ ‬عند‭ ‬بدايتها‭ ‬–‭ ‬وستظل‭ ‬حالها‭ ‬كذلك‭ ‬لمدة‭ ‬طويلة‭ ‬–‭ ‬كامتداد‭ ‬للحركة‭ ‬النقابية‭ ‬الفرنسية،‭ ‬مع‭ ‬بعض‭ ‬الخصوصيات‭ ‬المترتبة‭ ‬عن‭ ‬الطبيعة‭ ‬الاستعمارية‭ ‬للبلاد‭”.‬

‭- ‬تأثير‭ ‬التوجهات‭ ‬النقابية‭ ‬الفرنسية‭ ‬على‭ ‬المسار‭ ‬التنظيمي‭ ‬للحركة‭ ‬النقابية‭ ‬المغربية‭  ‬بعد‭ ‬الاستقلال،‭ ‬خاصة‭ ‬في‭ ‬المناجم‭ ‬والقطاعات‭ ‬الشبه‭ ‬عمومية‭ ‬كالفوسفاط‭ ‬والطاقة‭ ‬والمعادن‭..‬

‭- ‬المخاض‭ ‬العسير‭ ‬لميلاد‭ ‬الحركة‭ ‬النقابية‭ ‬المغربية‭ ‬والرهانات‭ ‬والتناقضات‭ ‬والصراعات‭ ‬التي‭ ‬لازمت‭ ‬الظاهرة‭ ‬النقابية‭ ‬بالمغرب‭ ‬والأدوار‭ ‬التي‭ ‬لعبتها‭ ‬–‭ ‬وتلعبها‭ ‬–‭ ‬الدولة‭ ‬من‭ ‬أجل‭ ‬التحكم‭ ‬في‭ ‬نضالاتها‭ ‬وأفقها‭ ‬السياسي‭ ‬وتحييدها‭ ‬عن‭ ‬الصراع‭ ‬الاجتماعي‭ ‬بمفهومه‭ ‬الشامل‭..‬

وفي‭ ‬الأخير،‭ ‬أكتب‭ ‬إليك‭ ‬رفيقي‭ ‬المطرود‭ ‬على‭ ‬الدوام‭ ‬في‭ ‬زمن‭ ‬وباء‭ ‬منع‭ ‬عنا‭ ‬لحظات‭ ‬كنا‭ ‬سنجوب‭ ‬فيها‭ ‬الشارع‭ ‬ونتساءل‭ ‬عن‭ ‬المستقبل‭ ‬وعن‭ ‬ما‭ ‬تبقى‭ ‬من‭ ‬الأسئلة‭ ‬والإجابات‭ ‬المؤجلة،‭ ‬عن‭ ‬رحيل‭ ‬المثقفين،‭ ‬عن‭ ‬حكومات‭ ‬من‭ ‬ورق،‭ ‬عن‭ ‬الصدقة‭ ‬التي‭ ‬تتقاضاها‭ ‬الآن‭ ‬وأنت‭ ‬متقاعد،‭ ‬عن‭ ‬رقعة‭ ‬الفساد‭ ‬التي‭ ‬أصبحت‭ ‬لا‭ ‬حدود‭ ‬لها،‭ ‬عن‭ ‬مصادرة‭ ‬الحق‭ ‬في‭ ‬الكلام‭..‬

‭ ‬لقد‭ ‬أسقطت‭ ‬كورونا‭ ‬كل‭ ‬الأقنعة‭ ‬يا‭ ‬رفيقي،‭ ‬لكن‭ ‬ابتسامتك‭ ‬عندما‭ ‬تكون‭ ‬وسط‭ ‬رفاقك‭ ‬في‭ ‬فاتح‭ ‬ماي‭ ‬وفي‭ ‬الأمسيات‭ ‬الفلسطينية‭  ‬والوقفات‭ ‬الاحتجاجية‭  ‬ومعاناتك‭ ‬وصمودك‭ ‬في‭ ‬وجه‭ ‬المستغلين‭ ‬ستتكسر‭ ‬عليها‭ ‬كل‭ ‬الأوبئة‭ .‬

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى