يوم المقصلة

منعم وحتي

يوم‭ ‬لن‭ ‬يمحى‭ ‬أبدا‭ ‬من‭ ‬مخيلتي،‭ ‬كنت‭ ‬في‭ ‬نهاية‭ ‬السنة‭ ‬الخامسة‭ ‬من‭ ‬عمري،‭ ‬كان‭ ‬اللعب‭ ‬والشغب‭ ‬مسألة‭ ‬جدية‭ ‬جدا‭ ‬في‭ ‬برنامجي‭ ‬اليومي،‭ ‬أحرث‭ ‬الحواري‭ ‬والأزقة‭ ‬الضيقة‭ ‬ركضا،‭ ‬لم‭ ‬نكن‭ ‬في‭ ‬الغالب‭ ‬نشتري‭ ‬لعبنا‭ ‬اليومية،‭ ‬فلا‭ ‬بد‭ ‬أن‭ ‬نصنعها‭ ‬ونهيئها‭ ‬بأنفسنا،‭ ‬ونصنع‭ ‬فضاءها،‭ ‬حتى‭ ‬تكتمل‭ ‬شروط‭ ‬اللعب،‭ ‬والمواد‭ ‬الاساس‭ ‬عموما،‭ ‬أسلاك‭ ‬وقصب‭ ‬ومتلاشيات‭ ‬خشبية‭ ‬ومسامير‭ ‬وأحجار،‭ ‬كنا‭ ‬في‭ ‬غاية‭ ‬البدائية،‭ ‬لكن‭ ‬المتعة‭ ‬كل‭ ‬المتعة‭ ‬أن‭ ‬نشوة‭ ‬اللعبة‭ ‬في‭ ‬مهارة‭ ‬صناعتها،‭ ‬وتقاسم‭ ‬أعباء‭ ‬إحضار‭ ‬موادها،‭ ‬ولو‭ ‬دعت‭ ‬الضرورة‭ ‬لإخفائها‭ ‬تحت‭ ‬ثيابنا‭ ‬مخافة‭ ‬أو‭ ‬تجنبا‭ ‬لتقريع‭ ‬وصراخ‭ ‬الأهل،‭ ‬إن‭ ‬كان‭ ‬ذلك‭ ‬ضد‭ ‬رغبتهم،‭ ‬وهو‭ ‬كذلك‭ ‬في‭ ‬الأعم،‭ ‬فعالم‭ ‬المتلاشيات‭ ‬يستحيل‭ ‬تحت‭ ‬براعة‭ ‬أناملنا‭ ‬لسيارات‭ ‬ودراجات‭ ‬ومراجيح‭ ‬و‭ ‬بنادق‭ ‬وكائنات‭ ‬خرافية‭.‬

كان‭ ‬عالمي‭ ‬السري،‭ ‬مليئا‭ ‬بالمتعة‭ ‬والمغامرات‭ ‬المثيرة،‭ ‬حتى‭ ‬إحدى‭ ‬المساءات‭ ‬غير‭ ‬الاعتيادية‭ ‬بالمطلق،‭ ‬حين‭ ‬دخل‭ ‬والدي‭ ‬للبيت،‭ ‬وأخبرني،‭ ‬غدا‭ ‬ستذهب‭ ‬للمدرسة‭…! ‬لا‭ ‬أعرف‭ ‬أي‭ ‬مدفعية‭ ‬أصابتني،‭ ‬ذهول‭ ‬وارتباك،‭ ‬أحسست‭ ‬أنني‭ ‬سأفقد‭ ‬مملكتي،‭ ‬ومجالي‭ ‬الحيوي‭ ‬لتوحش‭ ‬طفولتي،‭ ‬كأنني‭ ‬سأدخل‭ ‬لعالم‭ ‬القيود‭ ‬والانضباط،‭ ‬بكل‭ ‬بساطة‭ ‬ستستوعبني‭ ‬حياة‭ ‬الجندية‭ ‬المقيتة،‭ ‬ونظام‭ ‬قسوة‭ ‬المدرسين‭ ‬وعصا‭ ‬الطاعة،‭…‬

لم‭ ‬أنم‭ ‬تلك‭ ‬الليلة،‭ ‬فالكوابيس،‭ ‬وصور‭ ‬الجلد‭ ‬و‭ ‬صراخ‭ ‬الصبية‭ ‬كانت‭ ‬المشاهد‭ ‬التي‭ ‬ملأت‭ ‬أحلام‭ ‬تلك‭ ‬الليلة‭ ‬السوداء‭. ‬لم‭ ‬تكن‭ ‬مدرسة‭ ‬بالمعنى‭ ‬الكامل‭ ‬للكلمة،‭ ‬غرفة‭ ‬مظلمة‭ ‬تحت‭ ‬مباني‭ ‬سكن‭ ‬العمال،‭ ‬على‭ ‬مرمى‭ ‬البصر‭ ‬من‭ ‬منزلنا،‭ ‬ما‭ ‬هي‭ ‬بالمسيد،‭ ‬ولا‭ ‬هي‭ ‬بالمسجد‭ ‬ولا‭ ‬هي‭ ‬بدار‭ ‬الأيتام‭ ‬ولا‭ ‬بالحمام‭ ‬ولا‭ ‬هي‭ ‬بالمنزل‭ ‬ولا‭ ‬بالمرحاض‭ ‬ولا‭ ‬بساحات‭ ‬الوغى‭ ‬التي‭ ‬كنا‭ ‬نركض‭ ‬فيها،‭…. ‬اختلطت‭ ‬علي‭ ‬الأمور‭ ‬ذلك‭ ‬الصباح‭ ‬الأول‭ ‬حين‭ ‬توجهي‭ ‬صوب‭ ‬ذلك‭ ‬الشيء‭ ‬الغريب،‭ ‬الذي‭ ‬كان‭ ‬يسميه‭ ‬معشر‭ ‬الصبية‭ : “‬النادي‭”‬،‭ ‬رجلاي‭ ‬متثاقلتان،‭ ‬خطوة‭ ‬إلى‭ ‬الأمام‭ ‬واثنتان‭ ‬إلى‭ ‬الوراء،‭ ‬والخشية‭ ‬كل‭ ‬الخشية‭ ‬أن‭ ‬أفقد‭ ‬عذرية‭ ‬توحش‭ ‬مملكة‭ ‬اللعب‭…‬

كانت‭ ‬السعدية،‭ ‬امرأة‭ ‬قاسية‭ ‬جدا،‭ ‬تسمع‭ ‬صراخها‭ ‬على‭ ‬بعد‭ ‬سنوات‭ ‬ضوئية،‭ ‬فهي‭ ‬كائن‭ ‬آت‭ ‬من‭ ‬فضاءات‭ ‬أخرى‭ ‬لمهاجمة‭ ‬عوالم‭ ‬الصغار،‭ ‬هكذا‭ ‬كانت‭ ‬مخيلتي‭ ‬تصور‭ ‬لي‭ ‬معاركي‭ ‬الجديدة،‭… ‬دخلنا‭ ‬لجحيم‭ ‬تلك‭ ‬الحجرة‭ ‬صفوفا‭ ‬والارتجاف‭ ‬يغزو‭ ‬أطرافي،‭ ‬السعدية‭ ‬تفتحصنا‭ ‬بنظراتها‭ ‬المكفهرة‭ ‬والمزمجرة،‭ ‬بصعوبة‭ ‬أمسكت‭ ‬نفسي‭ ‬من‭ ‬التبول،‭ ‬وهي‭ ‬الحالة‭ ‬الاعتيادية‭ ‬عند‭ ‬الصبية‭ ‬حين‭ ‬تعلو‭ ‬هيستيرية‭ ‬السيدة‭ ‬القاسية،‭ …. ‬أخذنا‭ ‬أماكننا‭ ‬وأنا‭ ‬كالتائه‭ ‬وسط‭ ‬عالم‭ ‬ليس‭ ‬عالمي،‭.. ‬فجأة‭ ‬بدأ‭ ‬الصبي‭ ‬الذي‭ ‬بجانبي‭ ‬يغط‭ ‬في‭ ‬نومه‭ ‬وسمفونية‭ ‬شخيره‭ ‬تلامس‭ ‬مسامعي،‭ ‬السعدية‭ ‬ليست‭ ‬هنا،‭ ‬متنفس‭ ‬ملائم‭ ‬جدا‭ ‬لاسترداد‭ ‬عالمي‭ ‬الغرائبي،‭ ‬بدأت‭ ‬في‭ ‬برم‭ ‬أطراف‭ ‬صغيرة‭ ‬من‭ ‬الورق،‭ ‬حتى‭ ‬تحولت‭ ‬إلى‭ ‬كويرات‭ ‬صغيرات،‭ ‬وبدأت‭ ‬في‭ ‬حشوها‭ ‬في‭ ‬أٌذن‭ ‬زميلي،‭ ‬تكوير‭…‬حشو‭ ‬ثم‭ ‬تكوير‭ ‬فحشو،‭ ‬علا‭ ‬صراخه‭ ‬بشكل‭ ‬جنوني‭ ‬والفوضى‭ ‬عمت‭ ‬المكان،‭ ‬وزعيمة‭ ‬المكان‭ ‬تضرب‭ ‬الكل‭ ‬والفوضى‭ ‬تزداد‭ ‬وأنا‭ ‬أقفز‭ ‬فوق‭ ‬الكراسي‭ ‬والعالم‭ ‬يصبح‭ ‬أجمل،‭ ‬فعالم‭ ‬اللعب،‭ ‬عالمي،‭ ‬يعود‭ ‬وبشكل‭ ‬أروع،‭ ‬والقهقهات‭ ‬هنا‭ ‬وهناك،‭ ‬وحدها‭ ‬السعدية‭ ‬من‭ ‬فقدت‭ ‬أعصابها‭ ‬وعلا‭ ‬عويلها‭ ‬ولم‭ ‬تستطع‭ ‬حتى‭ ‬تبين‭ ‬ما‭ ‬وقع‭.‬

هدأت‭ ‬العاصفة،‭ ‬وبدأت‭ ‬ملامح‭ ‬الجريمة‭ ‬تتضح،‭ ‬والزاوية‭ ‬تضيق‭ ‬بي،‭ ‬والأنظار‭ ‬تتجه‭ ‬صوبي،‭ ‬وأصبحت‭ ‬وجها‭ ‬لوجه‭ ‬أمام‭ ‬السعدية،‭ ‬ذقت‭ ‬مرارا‭ ‬صنوفا‭ ‬من‭ ‬العقاب،‭ ‬لكن‭ ‬ذلك‭ ‬الصباح‭ ‬كان‭ ‬مقصلة‭ ‬حقيقية،‭ ‬صبت‭ ‬السعدية‭ ‬جام‭ ‬غضبها‭ ‬على‭ ‬ذلك‭ ‬الصبي‭ ‬الذي‭ ‬كنته،‭ ‬وأكلت‭ ‬ما‭ ‬أكل‭ ‬الطبل‭ ‬ليلة‭ ‬عاشوراء،‭.. ‬انفلت‭ ‬بصعوبة‭ ‬من‭ ‬حجرة‭ ‬التعذيب،‭ ‬ولم‭ ‬أدر‭ ‬كيف‭ ‬وجدت‭ ‬نفسي‭ ‬خارج‭ ‬المسلخ،‭ ‬وقد‭ ‬غمرتني‭ ‬أشعة‭ ‬الشمس،‭ ‬فقد‭ ‬عدت‭ ‬لمملكتي،‭ ‬تخيلت‭ ‬نفسي‭ ‬وسط‭ ‬المعركة،‭ ‬والمنجنيق‭ ‬في‭ ‬حوزتي،‭ ‬تساقطت‭ ‬الأحجار‭ ‬على‭ ‬الحجرة‭ ‬كالمطر‭ ‬تحت‭ ‬استغراب‭ ‬الجميع،‭ ‬فلن‭ ‬أدع‭ ‬ثأري‭ ‬يمر‭ ‬ببساطة،‭ ‬فقد‭ ‬كنت‭ ‬ألعب‭ ‬مع‭ ‬زميلي‭… ‬فما‭ ‬دخل‭ ‬تلك‭ ‬الغريبة‭ ‬في‭ ‬كل‭ ‬هذا‭ ‬؟‭!!.‬

لم‭ ‬تكن‭ ‬السعدية،‭ ‬بهاته‭ ‬القساوة،‭ ‬امرأة‭ ‬ناضجة،‭ ‬بشعر‭ ‬أسود‭ ‬فاحم،‭ ‬وخالة‭ ‬مثيرة‭ ‬على‭ ‬خذها‭ ‬الأيمن،‭ ‬تعلو‭ ‬ضحكاتها‭ ‬المكان‭ ‬حين‭ ‬يزورنا‭ ‬آباء‭ ‬الصبية،‭ ‬وكنت‭ ‬أرمقها‭ ‬بعين‭ ‬الريبة‭ ‬حين‭ ‬تطيل‭ ‬الحديث‭ ‬الهامس‭ ‬مع‭ ‬الممرض‭ ‬الذي‭ ‬تجاور‭ ‬حجرة‭ ‬مستوصفه‭ ‬حجرتنا،‭ ‬لكنه‭ ‬كان‭ ‬صديقي‭ ‬ومقربا‭ ‬إلى‭ ‬عالمي،‭ ‬لأنه‭ ‬كان‭ ‬ينجينا‭ ‬من‭ ‬سطوتها،‭ ‬حين‭ ‬يخرجها‭ ‬من‭ ‬جحرنا،‭ ‬ولا‭ ‬ادري‭ ‬ما‭ ‬كان‭ ‬يقول‭ ‬لها‭ ‬بصوت‭ ‬خافت‭ ‬حتى‭ ‬يستطيع‭ ‬انتزاع‭ ‬ضحكتها‭ ‬النادرة‭ ‬والمليئة‭ ‬بالغنج‭.‬

كم‭ ‬حزنت‭ ‬كثيرا،‭ ‬لما‭ ‬بلغ‭ ‬إلى‭ ‬علمي‭ ‬وفاة‭ ‬المدرسة‭ ‬السعدية،‭ ‬بعد‭ ‬طول‭ ‬عمر،‭ ‬وقد‭ ‬غادرتنا‭ ‬دون‭ ‬أن‭ ‬تتاح‭ ‬لي‭ ‬الفرصة‭ ‬لأن‭ ‬أضعها‭ ‬في‭ ‬صورة‭ ‬متخيل‭ ‬ذلك‭ ‬الطفل،‭ ‬وعوالمه‭ ‬السرية‭ ‬المليئة‭ ‬بسراديب‭ ‬اللعب‭ ‬وشغب‭ ‬الصبى،‭  ‬ولأسألها‭ ‬عن‭ ‬الممرض‭ ‬وتداخل‭ ‬عوالمنا‭.‬

مقالات ذات صلة

تعليق واحد

  1. أخذتني إلى عالمك الطفولي و الى ذكرياتك المليئة بالبراءة و الصفاء . لروح المعلمة السعدية السلام .

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى