مقتل الشاب إلياس الطاهري يخفي غابة من العنصرية بإسبانيا
◆ حسين فاتيش / إسبانيا
شبكات الاتجار بالبشر مرتع لاصطياد القاصرين المغاربة بإسبانيا.
قضية وفاة القاصر المغربي إلياس الطاهري على أيدي حراس أمن تابعين لشركة خاصة، تتولى إدارة مركز إيواء القاصرين التابع لمدينة (ألميريا) بإقليم الأندلس، برغم كل التأكيدات التي تضمنها مقال نشرته جريدة البايس الإسبانية مؤخرا، مفادها أن الهالك لم يمت ميتة طبيعية، في منطقة (أوريا)، بالاستناد إلى تقرير الطبيب الشرعي، إلا انه بالرغم من مرور زهاء سنة على وقوع هذا الحادث المأساوي، لم نر أي تفعيل لمعاقبة المسؤولين عن إزهاق روحه، والأغرب من هذا وذاك أننا لم نشهد قيام أية تحركات احتجاجية تعم مختلف مناطق الأندلس وإسبانيا في بحر شهر يوليوز 2019، تاريخ مقتل إلياس، لا بدعم من طرف أمين عام مجلس الجالية، ولا بدعم من َوزارة الجالية التي تنام في عسلها بالرباط ولا بدعم وزيرة تركت صلاحياتها، ولا بدعوة أو بقيادة من البرلمانيين المقيمين بإسبانيا، المقيمة بإسبانيا، ولا بتنظيم من أي من فصائل فسيفساء “الآلاف المؤلفة” من جمعيات المهاجرين المغاربة، خاصة منها جمعية العمال المغاربة بإسبانيا، بادت وأصبحت أثرا بعد عين، إذ سبق أن اتهمتها السلطات العمومية الإسبانية بعدم تقديم وثائق تثبت مجال صرف أموال عمومية تلقتها في شكل تمويلات، قد يقول قائل، أن يأتي تحركنا في اتجاه المطالبة بالعدالة وفاء لروح إلياس متأخرا بعام، أفضل من أن لا يأتي أبدا ! لكن الأفضل والأفضل كان أن نتفادى الانتظار حتى حدوث جريمة مقتل جورج فلويد العنصرية بالولايات المتحدة، وما تلاها من حدوث تسونامي الاحتجاجات التي عمت جل عواصم العالم، لكي يتم ترطيب ذاكرتنا التي شاخت نوروناتها، ونتذكر أن لنا مثل سود أمريكا ضحايا العنصرية، لنرفع عقيرتنا بالمطالبة بإحياء ملف قضية يرقد في أرشيف المحاكم الاسبانية.
قضية إلياس الطاهري لا يمكن عزلها عن سياق ظاهرة هجرة الأطفال المغاربة أو هروب هؤلاء من جحيم انسداد الآفاق بوطنهم، والذي أصبح مرتعا خصبا لمافيا الاتجار بمآسي العائلات المغربية التي فقرتها السياسات الطبقية القائمة على مبدأ تغييب العدالة الاجتماعية واختلال موازين التوزيع العادل للثروة الوطنية، فأصبحت تعول على تهجير أبنائها كمخرج وحيد من أزماتها السوسيو اقتصادية، وكسبيل لتحسين ظروفها المعيشة، وأصبح الالتحاق بإحدى مناطق الجنوب الاسباني يشكل الحلم الأكبر لأولئك الأطفال، حتى وإن كانت المغامرات ينتهي أغلبها بأحداث مأساوية، تحت عجلات الحافلات أو شاحنات النقل الدولي للبضائع، وفي أحسن الأحوال ينتهي المطاف بالمغامرين، نزلاء بمراكز إيواء الأحداث، حيث يعاملون معاملة الضيف الغير مرغوب فيه، إن لم يسقطوا في قبضة المنظمات الإجرامية الدولية، التي توظفهم في أنشطتها الإجرامية، مثل السرقة بالعنف المسلح وترويج المخدرات َوشبكات دعارة الأطفال أو تصفية الحسابات.
صحيح أن مسار الضحية إلياس الطاهري، مختلف نوعا ما عن مسار الأطفال الحراكا، الذين يصلون إسبانيا عبر ركوب مغامرة ما يسمونه “الريسكي”، فهو دخل إسبانيا بطريقة شرعية وتم تسجيله بإحدى المؤسسات التعليمية بمدينة الجزيرة الخضراء حيث تقطن أسرته، إلا أن حظه العاثر شاء له أن يعاشر رفاق السوء كما قالت أسرته لإحدى الصحف، نتيجة عدم قدرته على مواجهة ظروف حياته المتقلبة وسوء تكيفه مع وضعه الأسروي الجديد (والدته ارتبطت بالزواج مع رجل من جنسية إسبانية ورزقت منه بطفلة هي سادس إخوته)، ومن تم جرفه تيار الانحراف فتلقى أولى العقوبات القضائية التي كانت مدتها قضاء سنة ونصف بمركز الأحداث بمدينة الجزيرة الخضراء، ومن تم قاده القدر ليكون نزيل مراكز القاصرين بكل من مدن قادس وقرطبة، قبل أن يقوده أجله المحتوم نحو مركز القاصرين بألميريا، حيث ضرب له الموت موعدا هناك.
ليس من سخرية القدر في شيء أن يتزامن وصول إلياس الطاهري إلى إقليم الأندلس بدخول حزب اليمين العنصري فوكس معترك المنافسة السياسية بالساحة الإسبانية، وشاء قدر إلياس الماكر أن تكتسح إيديولوجية الكراهية للأجانب جل مناطق أندلسيا، بسبب خطاب الشعبوية الرخيصة لأقطاب فوكس، والذي وصل إلى سدة الحكم بجهة أندلسيا، وهو ما جعل من قضية الأطفال القاصرين المغاربة حصان طروادة في صياغة خطابه العنصري.
أليس حزب فوكس هو من ينظم المسيرات نحو مراكز إيواء القاصرين لتحريض الساكنة على المطالبة بإغلاق تلك المراكز ؟؟
وليس من المستبعد أن تكون هيمنة إيديولوجية اليمين العنصرية على سياسية تدبير إدارة مراكز إيواء القاصرين، هي من حرمت إلياس الطاهري من أن يكون نزيلا بإحدى المشافي النفسية، عوض أن يكون نزيلا بمركز اعتقال القاصرين الجانحين حيث وافته المنية.
معضلة الأطفال القاصرين الغير المرفقين باسبانيا مسؤولية الدولة أم مسؤولية الأسر؟
في منطقة شمال المغرب تتداول كلمة “الخيرية دسبتة” (خيرية سبتة) بشكل لافت وتتناقلها الألسن على نطاق واسع في معظم أوساط الأسر الفقيرة وأصبحت الخيرية ديال سبتة بمثابة الحل السحري والمفتاح لمشاكل معظم الساكنة التي لها أبناء تعجز عن إعالتهم، ليصبح الآباء والأمهات يحلمون بإيجاد وسيلة تمكن أطفالهم من ولوج مدينة سبتة وتحصيل مكان لهم تحت شمس اسبانيا، بمركز من مراكز إيواء القاصرين الغير المرفقين.
مافيا الاتجار بالبشر واعية بحاجة الأسر إلى خدماتها، لذلك تستغل فقرها وقلة ذات يدها كما تستغل الظروف السوسيو اقتصادية المتدهورة السائدة بالمغرب، وإفلاس منظومتي التعليم والصحة وانسداد الآفاق وانعدام فرص الشغل أمام معيلي الأسر، مما يؤدي إلى عجز هؤلاء عن إعالة أطفالهم، وافتقارهم للإمكانيات المادية الكفيلة بضمان مستقبل واعد لهم ببلدهم المغرب، لذلك فإن مافيا الهجرة ترسم لتلك الأسر معالم مستقبل افتراضي زاهر ينتظر أطفالها القاصرين خارج حدود المغرب، إن هي وفرت المقابل المادي الكافي لإدخالهم خلسة إلى سبتة أو مليلية، حيث تنتظرهم فرصة سانحة لمواصلة التسلل نحو الضفة الجنوبية للفردوس الأوروبي.. بل إن مافيا الهجرة التي تقوت هياكلها وتشعبت فروعها بشمال المغرب، أصبحت تدعم أنشطتها بالدعاية الإلكترونية، حيث تروج لتقريب الحريك إلى أكبر جمهور من الأطفال القاصرين، وتوظف لتحقيق هذه الغاية سلسلة من فيديو كليبات الراب على قناة اليوتوب، تنشطها مجموعة من الأطفال القاصرين من بينهم قاصرون نجحوا في الوصول إلى عمق دول الاتحاد الأوروبي عن طريق الريسكي.. هذه الأغاني التي تغرق السوق ويتداولها القاصرون على نطاق واسع، كلها تمجيد للحريك وتغن بحسناته وإشادة بانجازات القاصرين الذين نجحوا هناك في أوروبا، كما تتضمن تلك الأغاني دعوة وتحريضا للأطفال المغاربة لركوب مغامرة الحريك والريسكي (الهجرة بواسطة التسلل إلى البواخر والاختباء تحت هياكل شاحنات النقل الدولي للبضائع والمسافرين..).عوض انتظار الأوهام والذي يأتي ولا يأتي،
غير أن الواقع يكذب مضامين الرسائل التي تسعى دعاية مافيا الاتجار بالبشر إلى إيصالها للأطفال المغاربة، فمعظم الأطفال الذين يصلون إلى مدن سبتة ومليلية ويتم إيواؤهم بمركز حماية الطفولة أو ما يعرف لدي ساكنة مناطق شمال المغرب بالخيرية، سرعان ما يهجرون تلك المراكز المؤطرة بأنظمة متشددة لم يعهدوها من قبل، لتبتدئ لديهم فصول مغامرة ما يسمونه الريسكي، بولوج عالم التسكع في الشوارع حيث يسقط الكثيرون منهم في شراك الإدمان على المخدرات الرخيصة مثل السليسيون والكحول، وما يتطلبه تحصيل هذه المواد علاوة على مصاريف الأكل والشرب، وكذا التعاطي للسرقة وللتسول وأحيانا بالسقوط في شباك المنظمات الإجرامية الدولية التي توظفهم في دعارة الأطفال وتوزيع المخدرات والمشاركة في جرائم تصفية الحسابات بين مختلف أجنحة تلك المنظمات.. والقلة هي التي تفلح في بلوغ شبه الجزيرة الإيبرية عن طريق الريسكي، بعد أن تكون قد جربت حياة أطفال الشوارع أو دخلت عالم الانحراف من بابه الواسع، وهذا ما تعكسه المواد الإعلامية التي تنشرها وسائل إعلام تدور في فلك تيارات اليمين العنصري كالفيديوهات التي تظهر أطفالا قاصرين مغاربة أو مغاربيين يتعاطون لجرائم السرقة بالعنف في واضحة النهار، آو ارتكاب أفعال الاغتصاب الجماعي للنساء..
بالرغم من اتساع رقعة المتعاطين للأفعال الخارجة عن القانون بين الأطفال القاصرين المغاربة، فهذا لا يخفى الصورة المشرفة التي تعكسها حالات كثيرة من أطفال مغاربة وصلوا اسبانيا في وضعية قاصرين وتابعوا دراستهم وكدوا واجتهدوا وكونوا أنفسهم وأصبحوا مضرب الأمثال.