اليد الخفية لأدم سميت تصاب بالشلل
◆ عادل رضى
يستمر وباء الفيروس التاجي في التفشي بسرعة تصاعدية، لتصل الأزمة لمستويات عالمية ذات أبعاد تاريخية، فبينما يسيطر المرض الخبيث على العالم ويحكم قبضته على البشرية، فإن المعالجة الكارثية لتفشي المرض في الولايات المتحدة وأوروبا تسلط الضوء أيضاً على نقاط الضعف الهيكلية في التكوينات السياسية والاقتصادية للعالم الغربي. وهذا يوضح بشكل لا لبس فيها التعامل اللاأخلاقي والمنافي للقيم الإنسانية الذي أقدمت عليه الأنظمة الرأسمالية، التي أثبتت عدم جاهزيتها لمعالجة طوارئ من هذا النطاق والكثافة.
هناك على الأقل ثلاثة جوانب مرتبطة بالأزمة الحالية، وكلها تكشف عن انهيارات أساسية في قلب النظام الرأسمالي :
البعد الصحي:
اكتست حالة الطوارئ الصحية معضلة عامة، بعد ارتفاع حجم الإصابة على شكل زيادة أسِّيَّة في عدد الحالات المكتشفة، وفي عدد المرضى في المستشفيات وكذا عدد الوفيات. ففي الولايات المتحدة والعديد من الدول الأوروبية، عرى التدفق المفاجئ للمرضى على أقسام الرعاية المركزة، والذين يعانون من أمراض خطيرة وحرجة ترهل وانهيار أنظمة الرعاية الصحية العامة، والتي كشف الوباء أنها تفتقر إلى التمويل الكافي، وأنها لا يمكن أن تحمل نفقات الصحة العمومية بشكل مباشر. لذا انصبت الأولوية الفورية للحكومات بشكل متأخر على المدى القصير، على درء الكارثة الإنسانية القادمة بأقل الخسائر، وإنقاذ أكبر عدد ممكن من الأرواح. ومع ذلك، أصبح من الواضح أن السيطرة على هذا الوباء المستعصي، يتطلب أكثر من التدخل البراغماتي للمسؤولين الحكوميين، بل أيضا دفع المواطنين نحو التغييرات السلوكية. هذه الاستراتيجية، التي تسعى في عمقها لخصخصة تكاليف الأزمة عن طريق وضع عبء التكيف الكامل مع الحالة الوبائية على عاتق الأفراد والأسر، وهو النهج المطابق مع توحش السوق. وبالطبع فقد أظهر تذبذب العديد من الحكومات الغربية على مدى الأسابيع الماضية، أن الحملة العامة لغسل اليدين، والعطس، ومسافة التباعد الاجتماعي، لن تكون كافية لوقف ارتفاع معدل الإصابة، إنها فقط مساحيق تجميل لإخفاء بشاعة فردانية الرأسمالية.
وبحسب منظمة الصحة العالمية، فإن كبح الوباء سيتطلب إجراءات حكومية جذرية، ليس فقط الإغلاق القسري والحجر الصحي، بل تدخلات بعيدة المدى في مجال الصحة العامة. وهو ما سيتطلب إجراءات هيكلية، بتدخل مباشر للدولة في المجال الصحي، بالرفع من مستوى سعة المستشفيات، وجهدًا هائلاً لإنتاج أجهزة التنفس الصناعي ومعدات الحماية وغيرها من الإمدادات الطبية، وهذا ما سيجبر معظم الحكومات الغربية المتغولة ليبراليا، على تجاوز المحددات الأساسية التي انبنت عليها الرأسمالية، والتي انبنت منذ فترة طويلة على منطق “دعه يسرق، دعه ينهب، دعه يربح..
ومن الواضح أيضًا أن بعض تدخلات الدولة في مجال الصحة العامة ستكون باهظة التكلفة، وهاته الخلاصة بدورها، تسلط الضوء على البعد الثاني للأزمة الحالية اقتصاديا.
البعد الاقتصادي:
بينما يواصل الفيروس انتشاره السريع، تجد الدول الرأسمالية نفسها فجأة في وضع استثنائي، يضطرها إلى تجاوز مصالحها التجارية والربحية اضطراريان وإغلاق جميع أماكن العمل غير الضرورية، وإيصاد أجواء النقل الجوي، وتمكين سكانها العاملين من البقاء في منازلهم. وهي مقارة ربحية أيضا تجنبا لإنفاق مهول للدولة على الصحة العمومية.
والمؤكد أن ما ستؤول إليه الأمور ستكون له نتائج كارثية على أرباح أرباب المعامل والشركات المتعددة الجنسية، خصوصا مع التوقف المفاجئ في النشاط الإنتاجي والتجاري. فالتداعيات الاقتصادية ستكون مدوية، ويشكل تهديدًا وجوديًا للاقتصاد العالمي المثقل بالديون، والنظام المالي العالمي الذي انهارت كل توازناته.
وقد تهافتت الحكومات الغربية والبنوك المركزية لإنقاذ النظام القائم من الانهيار، لقد تردد الرأسمال المتوحش في الحفاظ على صحة عامة الناس، لكنه تحرك بسرعة للحفاظ على صحة الأسواق. ففي غضون أسابيع فقط، تعهد المسؤولون بعدد من الحُزم لمنع سقوط منظومة السوق. مع تسجيل أن اليابان ومنطقة اليورو والمملكة المتحدة وأمريكا عرفت في نفس الوقت أسوأ الانخفاضات في نشاط الأعمال المسجلة.
ففي ظل انعدام إجراءات جذرية من قبل الدولة، فإن الكساد الاقتصادي القادم سيغذي حتمًا حالة طوارئ متزامنة، ستمس كل مناحي الحياة، وخصوصا الاجتماعية.
البعد الاجتماعي:
إن أزمة اجتماعية شديدة لا مثيل لها، تلوح في الأفق، مع توقف الاقتصادات التي تقود العالم فجأة، وسيفقد مئات الملايين من الناس حول العالم وظائفهم وسبل عيشهم. فقد حذر مجلس الاحتياطي الاتحادي من أن البطالة في الولايات المتحدة يمكن أن ترتفع إلى مستويات قياسية ستصل لنسبة 30 في المائة، بحلول الربع الثاني من عام 2020. وعلى سبيل المقارنة، فخلال فترة الكساد الكبير في ثلاثينيات القرن الماضي، استغرق الأمر أربع سنوات حتى وصلت البطالة إلى ذروتها البالغة 25 في المائة.
فمن الواضح أن هذا الوضع غير المسبوق يستدعي اتخاذ تدابير غير مسبوقة. من المداخل التي يطرحها الاقتصاديون لمنع الكارثة الثلاثية لوباء مدمر، واقتصاد عالمي متدهور، ونظام اجتماعي آيل للسقوط، للخروج من أزمة خارجة عن السيطرة تمامًا. هو الدفع بحكومات وحدة وطنية في جميع أنحاء العالم، لتتضافر الجهود بشكل منسق، في التعامل بشكل حاسم مع حالة الطوارئ العالمية، ودعم الصحة العامة، وتدخل الدولة بالسيطرة على الأجزاء الاستراتيجية والحيوية من الاقتصاد، وضمان استمرار إنتاج السلع الأساسية وفقًا للقدرات وتوزيعها بشكل عادل على أساس الحاجة. فلا يمكن السماح بإلقاء تكاليف الأزمة فقط على عاتق من هم أقل قدرة على تحمل العبء، من العمال والمسنين والفقراء والنساء..
كل هذا سيتطلب التخلي عن الأسس النيوليبرالية القديمة والمتوحشة حول قدسية السوق، والقيام بجهد جماعي للدفاع عن الصحة العامة والعدالة الاقتصادية والتضامن الاجتماعي. ويجب تحمل الطبقات المالكة لوسائل الإنتاج تبعات الأزمة لأنها حصدت سابقا كل أرباح مرحلة السلم، بما يستوجب ذلك من وقف فوري لجميع مدفوعات الإيجار والديون والرهن العقاري، لإبقاء الناس في منازلهم طوال فترة الوباء ، وسيتعين على الحكومات والدول التدخل لضمان جميع الرواتب وتوفير أجر مضمون لأولئك الذين ليس لهم عمل منتظم أو ثابت.
وستتطلب هذه الإجراءات الجذرية بدورها زيادة هائلة في الإنفاق الحكومي للدولة، للتعويض عن الدخل المفقود والأضرار الاجتماعية المترتبة عن الوباء. ويمكن تمويل مثل هذا الإنفاق المالي الطموح من خلال ضريبة على الثروة والتحويلات المالية الضخمة. في منطقة اليورو لقد تم طرح مقترح مؤخرا يخص إصدار “سندات كورونا” الجماعية، وهو إجراء طرحته تسع دول أعضاء في منطقة اليورو، لكن ألمانيا وهولندا تعارضه بشدة، رغم أنه من شأنه أن يقلل من تكاليف الاقتراض للدول الأكثر تأثرًا، مما سيمكنها من الحفاظ على بقية القارة آمنة من تكرا ر الإصابة. فمن دون إظهار لتضامن أنساني وأممي بين الدول، في مواجهة هذه الأزمة المشتركة، فإن المشروع الأوروبي للوحدة أيل للزوال، ولمزيد من السياسات الحمائية وانغلاق دول الاتحاد الأوربي على حدودها الضيقة.
من خلال دروس كورونا، فقد أصبح جليا، أن النظام العفوي للسوق تبعثر، وأن اليد الخفية لأدم سميت أصيبت بالشلل، ولا يمكن أن ينقذنا من الطوارئ الطبية والاقتصادية والاجتماعية، إلا اقتصاد المخططات أو على الأقل اقتصاد موجه أكثر من الدولة الاجتماعية، والحاضنة للمواطنات والمواطنات، والتي تأمم القطاعات الحيوية. فالسؤال الإشكالي المطروح يحتمل صيغتين :
ـ هل سيأخذ النموذج الاقتصادي الناشئ شكل “رأسمالية الكوارث”، حيث تصحح أعطابها الداخلية، بالحفاظ على مناخ الأعمال، موجهة قوتها لتغطية استمرار الشركات الكبرى وأنظمة البنوك العالمية، في إطار قومي ويميني، يمكن أن يوصل شوفينية الدول الرأسمالية لسدة الحكم.
ـ أم أن الأزمة ستتخذ شكل “اشتراكية أممية لمواجهة الكارثة، بالعودة لتقوية الدولة الراعية، وتأميم قطاعات الحماية الاجتماعية والصناعات الكبرى، واعتماد اقتصاد موجه، والمخططات الاقتصادية الطويلة الأمد، قوة العمل، والحفاظ على نسيج مجتمعاتنا على أرضية الديمقراطية.
لقد بات من شبه المؤكد أننا نعيش أكبر أزمة في عصرنا. ومهما كانت النتائج، فإنها ستشكل أفقا جديدا، ستحدده قدرتنا على مواجهة الوباء، بل أكثر من ذلك قدرتنا على وضع خطاطة لانهيارات ما بعد كورونا، فهناك حالة طوارئ مناخية يمكن أن تهدد البشرية بالانقراض الجماعي، فعلى ساكنة الأرض استخلاص الدروس قبل فوات الأوان..