الهيمنة الأمريكية والفشل في تخطي الفكر العنصري
◆ سفيان جناتي
إن ما يحدث في الولايات المتحدة الأمريكية والمنظومة الرأسمالية عموما ليس غريبا وليست صدفة، بل هي تراكمات مطمورة تحت لواء الديموقراطية، فالمتتبع والمتقصي لتاريخ أمريكا ونشأتها وبنية نظامها السياسي، يدرك سريعا أن هذه الأحداث والانتفاضات ليست بشيء جديد، ولها جذور في التاريخ الأمريكي سواء بالنسبة للعنصرية أو الأوضاع الاجتماعية والحقوقية تجاه الأمريكان من أصول إفريقية، صحيح أن الأحداث مشابهة لانتفاضات سابقة، إلا أن الشروط القائمة حاليا أصبحت أكثر تطوراً من أي وقت كان، فأمريكا تعيش في الآونة الأخيرة على إيقاع ساخن والذي يجد جذوره في الأزمة البنيوية التي تغلغلت في قلب المراكز التاريخية للرأسمال، وابرز عناوين هذا الإيقاع الأزمة الاقتصادية العالمية، ومستقبل البطالة الذي يزداد مع فيروس كورونا، ونضالات الأمريكان الإفريقيين ضد العنصرية، والأزمة الصحية، وكذا الأخطاء القاتلة للرئيس الأمريكي تجاه المؤسسات السياسية الأمريكية من جهة أخرى، إلى درجة أن وصفته مجلة “ذي أتلانتيك” بأنه أسوأ رئيس حكم الولايات المتحدة الأمريكية، كل ذلك تناقضات أمريكية غير مسبوقة داخليا وخارجيا.
العنصرية ظاهرة متأصلة في العالم الرأسمالي:
الأزمة الاقتصادية شروطها تختلف عن كل ما سبق من الأزمات، والنضال ضد العنصرية وكفاح الأمريكان الأفريقيون اليوم يختلف عن سابقه، وله جذور عميقة وارتباط وثيق بالأزمة الاقتصادية وانعكاسها عليهم خصوصا، وحتى لا نقول إن أمريكا وحدها من تعرف مظاهر العنصرية، فحتى أوروبا تعرف تنامي الفكر العنصري واليميني، والذي يشهد صعودا ملحوظ في كل بقاع أوربا، وحتى المنطقة العربية لا تخلو من هذه المظاهر، لكن حديث اليوم سيقتصر على العنصرية الأوروبية بشكل عام وعلى العنصرية في مركزها التاريخي (أمريكا) بشكل خاص. ونعلم”علم اليقين”أن المركز الرأسمالي يحتقر شعوب الأطراف ويمارس عليهم عنصرية مقيتة منذ زمن طويل، عبر نهب خيراتها ومقدراتها الوطنية، فالعنصرية تنمو وتتجذر في أحضان النظام الرأسمالي، وهو طابع من طبائعه ويعمل بشكل دائم على إنتاج العنصرية والتفرقة والتمييز، فالأفارقة في عقلية المركز الاستعماري هم منجم ومصدر ثروة وحقل للتجارب بجميع أنواعها، وما الدعم الذي تقدمه الولايات المتحدة الأمريكية للجماعات الإسلامية المتطرفة ودعمها للكيان الإسرائيلي القاعدة المتقدمة لرأسمال في الشرق الأوسط ، إلا تعبير عن الرابط بين العنصرية في أمريكا والهيمنة الاستعمارية، فالتراث الرأسمالي له باع طويل في العنصرية والتمييز العرقي، فما إن ظهرت للوجود الأزمة الصحية (فيروس كورونا) حتى انكشفت هذه المنظومة أكثر فأكثر، وتبين مدى أنانية وعنصرية هذه الدول حتى فيما بينها، في البداية رأينا القرصنة في واضحة النهار من فرنسا تجاه ايطاليا والسويد تجاه اسبانيا وأمريكا تجاه ألمانيا، عبر سرقة المساعدات الطبية والأدوات الصحية القادمة من الصين، ومن جهة ثانية شهد العالم كيف حاول ترامب سرقة الأبحاث العلمية لشركة الدواء الألمانية عبر تقديم رشوة لإدارة الشركة، وقال ترامب آنذاك أمريكا أولا (أليس هذا القول نابع من العنصرية نفسها)، ورأينا كيف امتنعت دول الاتحاد الأوروبي خصوصا فرنسا وألمانيا عن تصدير المستلزمات الطبية إلى جيرانها وشركائها في أوج الوباء. وزيادة على هذا وفي الوقت الذي كانت الشعوب بحاجة ماسة للمساعدات قامت الولايات المتحدة بتشديد العقوبات الاقتصادية على فنزويلا، إيران، سوريا..، وينضاف إلى هذا تصريحات الأطباء الفرنسيين وعلى مرأى ومسمع من العالم قال “جون بول ميرا” رئيس طوارئ مستشفى كوشان في باريس بأن إفريقيا مكان مناسب لاختبار لقاح فيروس كورونا، كل هذا يبين عنصرية نظام متعفن قاد العالم لزمن طويل، ومن جهة ثانية يبين أن الرأسمالي لم ولن يغادره العقل الاستعماري العنصري.
فبنية العنصرية متأصلة ولا تنفصل عن التطور الاقتصادي لرأس المال، إذن فمسألة العرق لها ارتباط وثيق بالاستغلال الطبقي، وبينها تلازم وتكامل، أي بين الاستغلال الطبقي والاضطهاد العنصري، و يقول في هذا الصدد المناضل الغاني “كوامي نكروما” وحده القضاء على الرأسمالية الاستعمارية، والاستعمار الجديد عالميا، سيوفر الشروط التي يمكن من خلالها إلغاء المسألة العرقية والقضاء عليها للأبد.
ومن المعلوم أن الولايات المتحدة الأمريكية هي المرتع التاريخي للعنصرية، وفي تاريخها أحداث دموية مند النشأة بإبادة السكان الأصليين الهنود، كان أخرها حينما ظهر مقطع فيديو يبين أقصى درجات العنصرية وفي أبشع أشكالها تجاه أمريكي من أصول افريقية تم قتله يوم 25/05/2020 ويسمى “جورج فلويد” بعمر الأربعين سنة في مدينة “مينيابولس، مينيسوتا”، حدث هذا في “قدوة” العالم التي تدعي الحضارة والتقدم والديمقراطية والدفاع عن حقوق الإنسان، هذا الفيديو أثار غضبا عارما حول العالم، حيث قُتل الرجل وهو ينطق لا “أستطيع التنفس”، تحت جسم شرطي عنصري ومعه ثلاثة آخرون يستمتعون بالمشاهدة، هذا يوضح عمق العنصرية المتراكمة في أمريكا، وفي الوقت الذي كان ينتظر العالم ومعه الأمريكيون الإفريقيون في كل بقاع الأرض العدالة “لجورج فلويد”، قام القضاء الأمريكي باعتقال الأربعة لكنه صنف الجريمة من درجة ثانية، كما تعود تاريخيا في الإعفاء على أصحاب هذه الجرائم، فظهر الجشع ترامب بمواقفه العنصرية وأفكاره اليمينية وهو يتهم الجماهير بالبلطجية، وكان قريبا من إدعاء أن الانتفاضة هي مؤامرة صينية، لكنه لم يجد سبيلا لذلك، حيث وجد أمامه حشودا كبيرة من البيض والسود، وجه لهم أبشع النعوت وقام بتهديدهم بإنزال الجيش والكلاب البوليسية إلى الشوارع، حيث قال أمام العالم مقولة لها معنى بليغا وجذورا تاريخية “حين يبدأ النهب سيبدأ إطلاق النار”، وهذه الجملة تعود لسنة 1967 ولها حمولة عنصرية وفاشية، قالها قائد شرطة ولاية ميامي، واتهم حركة ”أنتيفا” بالإرهاب والتي هي حركة ضد العنصرية والفاشية، فموقفه وتصريحاته الهوجاء زادت الطين بله، حيث تشكل انقسام داخل أمريكا وخارجها، وهو ما أجج الغضب الجماهيري، فامتدت نضالاتهم إلى اليوم، لتتسع رقعتها إلى أوروبا (بريطانيا فرنسا وإيطاليا وألمانيا واليونان…)، كل هذا جعل الانتقاد ينهال على ترامب من كل أنحاء العام. ورأينا كيف انتقده وزير الداخلية السابق، وكذلك قيادة الجيش الأمريكي، بعدها استمرت أضحوكة ترامب بالبيت الأمريكي حينما ذهب إلى الكنيسة ورفع الكتاب المقدس، حيث فسرت هذه الحادثة بتفسيرات مختلفة، لكن من المؤكد أن هذه العملية نوع من مغازلة للقوميين المسحيين القاعدة الانتخابية الواسعة.
والجديد في الأمر هو التطور التكنولوجي الذي جعل الكل ينقل الأحداث إعلاميا بواسطة الهواتف الذكية، وأصبحت هذه الجرائم توثق، وتبرز على الساحة، بحيث أن الإعتدائات والمضايقات من قبل الشرطة هي ممارسة يومية بحق المواطنين من أصول أفريقية في الكثير من المدن الأمريكية، ومسألة العنصرية مرتبطة بما يقع اقتصاديا، وخروج الجماهير الآن رغم شعاراتها ضد العنصرية إلا أن الأوضاع الاقتصادية هي السبب الخفي وراء هذا، والأرقام وحدها توضح ذلك، وبنظرة بسيطة على أوضاع المواطنين من أصول إفريقية نفهم ضمنيا الاضطرابات المشتعلة الآن.
أرقام الميز العنصري بحمولة اقتصادية:
فوفيات كورونا في صفوف الأمريكيين من أصول افريقية أكثر من البيض، مثلا في ولاية ايلينوي يمثل السود 14 في المائة من السكان، لكنهم يمثلون 42 المائة من الوفيات، وفي شيكاغو كان 72 في المائة من إجمالي الوفيات منهم .
أزيد من 7,3 مليون إنسان خارج السجن بشروط، ويقبع في السجن أزيد من 2.3 مليون إنسان في السجون، ويتم تشغيل السجناء كالعبيد، وأزيد من مليون اعتقال في السنة بسبب حيازة المخدرات. 46 في المائة من الأحكام تتعلق بالمخدرات، 7,5 في المائة بسبب التجاوزات على قوانين الهجرة، 77 في المائة يعودون إلى السجن لأنه ليس لهم فرصة للشغل بعد دخولهم السجن الذي يقلل فرصهم في الحصول على الوظيفة مما يجعلهم يقعون في براثن الجريمة، واحتمالية إطلاق النار من الشرطة على المواطنين من أصول أفريقية أكبر ب21 مرة من احتمال إطلاق النار على البيض، وتعتبر أمريكا إن السجون بازار مربح جدا، بحيث يتم صرف أزيد من ثمانين مليار دولار سنويا على إدارة السجون، لذا فإن حرب الشرطة على الأقليات والفقراء والمهاجرين والمشردين لم ينقطع يوما بحجة الحرب على الجريمة والمخدرات. لهذا فأمريكا تسجل أعلى معدل جريمة في العالم بنسبة ستة أضعاف عن أوروبا، ويصل عدد المواطنين من أصول إفريقية إلى 43 مليون نسمة أي تقريبا 12,7 في المائة من سكان أمريكا، لكن موقعهم السياسي وأوضاعهم الاقتصادية تبين عكس ما تروج له إمبراطورية الشر، فعدد الرؤساء في التاريخ الأمريكي من السود 1 من أصل 45، ونسبتهم في مجلس الشيوخ لا تتعدى واحد في المائة، وبمجلس النواب 9,5 في المائة. وفي حكام الولايات صفر في المائة. أما على المستوى الاقتصادي يمثل دخل الأسود 48 في المائة من إجمالي دخل الأبيض، و20,8 في المائة من المواطنين من أصول أفريقية يعشون دون مستوى الفقر، مقابل 8,1 في المائة من البيض تحت هذه العتبة. و اجتماعيا يصل عدد سجناء السود حاليا 38 في المائة من مجموع السجناء (مليون و مائتين وتسعة وأربعون ألف سجين)، ونسبة من يحملون مؤهلات علمية هي أقل ب 50 في المائة مقارنة بالبيض، وحسب إحصائيات 2018 فإن متوسط الدخل الأسبوعي للأمريكيين من أصول أمريكية وصل إلى 664 دولار، مقابل 916 دولار للبيض، ووفقا لمسح قام بيه مركز “بيول” سنة 2019 فإن ثمانية من كل عشرة متعلمين تعرضوا للتمييز بسبب عرقهم، وبالنسبة للمسكن فإن 41 في المائة من أصحاب البشرة السوداء لهم شقق أو منازل مقابل 72 في المائة من البيض. وفي معمعان فيروس كورونا فقد حوالي 40 مليون شخص وظيفتهم ليصل معدل البطالة إلى 14,7 في المائة، وهي الأعلى مند أزمة الخميس الأسود. والمثير هنا هو أن السود كان لهم النصيب الأكبر من التسريحات 17 في المائة مقابل 14,2 في المائة من البيض.
الجذور التاريخية للعنصرية الأمريكية:
كما أشرنا سابقا أن العنصرية لها أصول تاريخية وتتخطى ترامب ومن معه وترسخت في البيض، وأصبحت نزعة الاستعلاء مترسخة بأنهم أفضل من السود. وهذا ممتد في تاريخها الطويل ونستعرض هنا أهم المحطات وملخصا للكفاح والنضالات الطويلة التي خاضها السود.
مع بداية تجارة العبيد الأوروبية نحو أمريكا، تم تنظيم العديد من الرحلات المحملة بالعبيد، وعرفت سنة 1691 نقل أول حمولة وصلت إلى فرجينيا، ومع تطور الحاجة للعبيد ازداد الطلب عليهم، وفي سنة 1793 تقوى استعمالهم من أجل أعمال السخرة وبنيت على أكتافهم المعامل والضيعات الزراعية، وفي نفس السنة سنت الحكومة قانون العبيد والذي ينص على إعادة العبيد الهاربين، ومن إن حلت سنة 1800 حتى ظهر “جابريل بروس” والذي حاول تنظيم ثورة العبيد، لكن تم إفشال مخططاته، وتم إعدامه هو ورفاقه، وتلتها موجة من التضييق وتشديد القوانين التي تخص السود، وبين 1808 ولغاية 1820 منع الكونجرس جلب العبيد من أفريقيا، وسنة 1822 اشترى “دانمارك” حريته، وهو نجار من أصول إفريقيا خطط لثورة العبيد بحصار مدينة “شارلشون” في جنوب “كارولينا”، لكن المحاولة باءت بالفشل، وتم إعدامه هو وأربعة وثلاثون من رفاقه، ولم تقف المحاولة هنا فسنة 1831 قام “نات ترنر” والذي قاد أهم حراك ثوري في أمريكا، بحيث أعلن هو وفرقته تمردا دمويا في “ساوثمينون” وتم قمع هذا التمرد بأشكال وحشية ليتم إعدامه هو الأخر، في سنة 1846 تم تقديم وثيقة “ويلموت” حيث حاول فيها دافيد ويلموت عن الديمقراطيين منع الرق في المقاطعات المستحوذ عليها في حرب المكسيك، لكن تم رفضها، وسنة1861 تم إلغاء تجارة العبيد في واشنطن، وأثناء الحرب الأهلية مآلاتها أصدر الرئيس “لينكولن” إعلان تحرير العبيد داخل الكونفدرالية، ليتم تحرير ما يزيد عن ثلاثة ملايين عبدا، وضم إلى جيش الإتحاد نحو 186 ألف جنديا أسودا، قتل منهم في الحرب ما يزيد عن 38000 جندي، بحيث عرفت تلك الحرب مقتل 620000 من 35 مليون نسمة آنذاك، ومع نهاية الحرب تم اغتيال “لنكلون”، وفي 1870 تم تعديل الدستور الخامس عشر، والذي أقر بحق الانتخاب للجميع، ويمكن اعتبار هذه الفترة من المراحل الحافلة في تاريخ نضالات السود، بحيث بدؤوا يكتسحون مقاعد الانتخابات محليا وفدراليا، وعمل في هذه الفترة 16 نائبا منهم داخل الكونغرس، هذا الأمر أغضب الولايات الجنوبية، ومع بداية 1885 أقرت قوانين عنصرية تفصل بين البيض والسود في المدارس والحافلات، وسرعان ما فصلت المحكمة العليا وأقرت المواطنة الكاملة بنفس المعيار للكل، وفي هذا المناخ أدرك السود أن السبيل هو التعليم للارتقاء وبناء المستقبل، وظهرت العديد من الأسماء والكتاب “كابكر واشنطن” الذي أصدر رواية سنة 1900.
في سنة 1905 تم إنشاء حركة “نياغرا” والتي طالبت بالمساواة في كل أنحاء أمريكا، وسنة 1909 تأسست الجمعية الوطنية للنهوض بالملونين، وهي منظمة حقوق مدنية للأمريكان ذوي الأصول الأفريقية، ومن مؤسسها “مور فيلد ستوري” و” ماري وايت” و “دوبويز” و كانوا يؤكدون على أهمية التعليم العالي، ويمكن اعتبار هذه الجمعية الأكثر تأثيرا في مجال حقوق الأفارقة في أمريكا، ومع تطور المجتمع أصبحت الأفكار تتسع فأسس “ماركوس جارفي” الرابطة العالمية لتحسين أحوال الزنوج وتعمل على تعزيز روح الفخر العرقي و إنشاء الإحساس بالوحدة بين جميع السود في العالم، وبين سنة 1920 حتى 1930 تصاعدت مرحلة نهضة “هارلم” وهي نهضة ثقافية في الأدب والفنون الأفروأمريكية سيكون لها دور بارز في تشكيل وبلورة ثقافة وهوية السود في أمريكا، وبالوصول إلى الحرب العالمية شارك أكثر من ثلاث ملايين أمريكي من أصل إفريقي في الحرب، وكانوا منفصلين عن البيض، ولكن الملفت للنظر أن هذه المشاركة لم تكون رسمية إلا بعد نهاية الحرب العالمية الثانية، حينما أصدر الرئيس” هاري ترومان” قرارا بدمج السود في الجيش، وبعدها سيصبح “مالكوم إكس” ذا نفوذ واسع بين الأمريكيين السود، وبعدها بسنتين أصدرت المحكمة العليا حكمها بالإعلان أن الفصل العنصري في المدارس غير دستوري، وسنة 1955 وقعت حادثة بشعة انضافت إلى التاريخ العنصري في أمريكا، حينما رفضت سيدة أمريكية من أصول إفريقية طلب السائق بأن تعطي مكانها لرجل أبيض، وتم اعتقالها بأشكال مخزية، وللإشارة فقد نجحت على إثرها حملة مقاطعة الباصات لمدة عام، وفي نفس السنة تم قتل شاب أسود بعدما قال بعضهم أنه قام بالتصفير على امرأة بيضاء في “الميسيسبي”، وتم تبرئة المجرمين من القتل، وسنة 1962 التحق أول طالب أسود بالجامعة الميسيسبي وتم رفضه من طرف حاكم الولاية “روس بارت”، على إثر هذا الحدث كانت احتجاجات واسعة تم قمعها من طرف الرئيس “جون كندي”، الذي أرسل ما يزيد عن خمسة ألاف جندي لهذه المهمة. وفي سنة 1963 سار نحو مليون شخص بواشنطن (بيض وسود) في أكبر تظاهرة، وخطب العديد من القادة وكان “لوثر كنك” أيقونة هذا الحراك وشكلت كلمته “لدي حلم” وخطابه أساسا متينا للحراك، وكان سببا وراء إطلاق جون كندي وعدا بإقرار الحريات المدنية في حملته الانتخابية، وفي 15 سبتمبر وقعت حادثة مأسوية تمثلت في قتل أربع فتيات في انفجار الكنيسة، هاته الجريمة استفزت مشاعر الكل، وانطلقت انتفاضة واسعة مرة أخرى، وبعدها قام الرئيس “جونسون”سنة 1944 بتوقيع الحقوق المدنية، وفي يوليو من نفس السنة أقدم شرطي على قتل شاب أسود في عمر خمسة عشر سنة، فاشتعلت انتفاضة من جديد بعد أسبوعين من اعتماد الحقوق المدنية، وبعدها جاءت حركة احتجاجية سنة 1965 على واقعة اعتداء الشرطة على شاب من أصول افريقية، استمرت لما يزيد عن خمسة أيام، فتم إلقاء القبض على 4000 شخص، وقتل 34 من السود، وفي نفس السنة عرف العالم اغتيال الزعيم “مالكوم اكس”، وفي 04 أبريل 1968 اهتز العالم على واقعة اغتيال مارتن لوثر كينك بالرصاص في غرفته، وكان لهذه الحادثة أثار بالغة، وهو ما أحدث شرخا من جديد بين البيض والسود، بحيث شهدت أزيد من مئة مدينة أمريكية أعمال الشغب والحرق والتدمير، مما ساهم في نمو كبير للحركات المدافعة عن السود كحركة القوة السوداء، “وحزب بلاك بانتر”، وأهم ما ميز السنوات بين 1972 وسنة 1984 هو ظهور أول مرشحة للرئاسة من أصول إفريقية، كانت تريد تسليط الضوء على قضايا المرأة وقضايا السود عموما، إضافة إلى ظهور مرشح جديد اسمه جاكسون كان يتعاطف مع حركة لوثر لكنه لم ينجح مرتين، وسنة 1986 عرفت بطفرة “الأوبرا وينفري” و منصات الإعلام بحيث ساهم مسلسل بلكوسي الكوميدي في إعادة تركيب صورة جديدة حول الطبقة الوسطى من السود، وتم تأسيس جمعية الترفيه التلفزيوني للسود على يد رجل الأعمال روبرت جونسون، ليشهد بعدها العالم ظاهرة الأوبرا ونفري، وساهمت في ترويج الكثير من الكتابات مثل أليس وواكر وطوني مورسون…
في سنة 1989 فيرجينيا تنتخب دوغلاس أول حاكم أسود، وسنة 1992 انتخاب أول سيدة سوداء في تاريخ مجلس الشيوخ، وفي نفس السنة كان السود على موعد أخر بالخروج للشوارع على إثر مطاردة رجل أسود يسمى “رودتي كينك” وهو يحاول مقاومة الاعتقال بلوس أنجلس، وبعد إطلاق صراح الضباط وتبرئتهم من سوء استخدام السلطة، شهدت لوس أنجلس مظاهرات واسعة لمدة أربعة أيام، توفي على إثرها حوالي خمسة وخمسين شخص وجرح أكثر من ثلاثة ألاف، وتم حرق أكثر من ألف مبنى وقدرت الخسائر بمليار دولار.
ومع بداية القرن الحالي، كان” كولن باول” أول وزير خارجية أسود عينه جورج بوش، ليصبح أول أمريكي من أصول افريقية يمثل أبرز دور ديبلوماسي، وكان وراء الحشد لحرب العراق وفي 23 يونيو 2003 كان الحكم في دعوة “جوتير” ضد ” بوللنجير”، وقامت المحكمة العليا بتأييد سياسة مدرسة القانون في “ميتشغان” والتي تقضي بأن اللون والعرق من أساسيات المدرسة، وسنة 2006 حكمت المحكمة على برنامج “سياتل” و”ولويزفيل” والذي يضع التنوع العرقي معيارا لاختيار الطلاب، بأنهما غير دستورين.
وقبل أن يصل “باراك أوباما”إلى سدة الحكم كان الأمريكيون من أصول أفريقية قد قطعوا أشواطا في نضالهم، وقدموا تضحيات جسيمة، وكتبوا تاريخا بالدماء في سبيل قضيتهم، لكن صعوده وهو من أصول افريقية أعطاهم أملا، لكن سرعان ما تحطمت هذه الصورة ببساطة لأن القضية تتجاوز أوباما وترامب معا، وهي مرتبطة ارتباطا وثيقا بالمنظومة، ورغم خروج أوباما اليوم حول مقتل فلوي،د فالغاية ليست قضية الملونين، بقدر ما هو تهيئ الشروط لزوجته مستقبلا للوصول إلى منصب الحكم.
وبعد 2013 حدث أخر يضاف إلى سلسلة الأحداث، ويتمثل في مقتل شاب “ترايفون مارتين” على يد حارس أبيض، اشتعلت على إثرها مظاهرات في أغلب الولايات، لتكون بداية استعمال العبارة الشهيرة “حياة السود مهمة” من قبل الناشطة “أليساي غارزا”، وتشكلت “حركة حياة السود مهمة” ومطالبها هي القضاء على سيادة البيض وبناء سلطة محلية.
وفي 19 أبريل 2015 مات شاب أخر حينما أصيب بكسور على مستوى العنق عند نقله في سيارة الشرطة، بسبب نظراته التي لم تعجبهم، فخرجت جماهير واسعة في “بالتيمور”، وقد عرفت هذه المدينة شغبا وتدمير العديد من المنشئات، وبعدها بسنة شهدت كارولينا الشمالية مظاهرات بعد قتل “لمونت سكوت”، وفي ولاية ” لويزيانا” “توفي التون ستير لينغ” وفي “وفليياندو كاسيل” وفي ولاية “مينسيوتا” اشتعلت احتجاجات في خمسة عشر ولاية مات فيها خمسة عناصر شرطة في دالاس، وثلاثة في “باتون روج”، وسنة 2017 اندلعت احتجاجات في ولاية سان لويس، بعد تبرئة شرطي متهم بقتل شاب “انطوني لامار سميث” سنة 2011، وتم اعتقال ما يزيد عن ثمانين شخص في هاته الحوادث، وصولا إلى 2020 والتي سجلت فيها ثلاث أحداث عنصرية، لا تليق إطلاقا ولا تتناسب مع ادعاءات أمريكا.
كان هذا ملخصا لأبرز الأحداث العنصرية ونضالات الملونين في أمريكا، وهو ما يظهر مدى تغلغل الفكر العنصري للبيض وكذا جشاعة الرأسمالية، خصوصا في تعاطي النظام مع الأحداث، والتي تزداد يوميا تأزما، وإلى حدود اللحظة هناك ما يزيد عن مئات المعتقلين، من البيض والسود، وكذلك تجاوزات خطيرة في حق الصحافة والتي سجلت ما يزيد عن مئتي تجاوز، حسب تقرير صحافي قدمته “أو آرتي أولاين” وكذلك أوضح هذا الحدث عنصرية ترامب، والذي له سوابق في هذا الاتجاه، بعدما استهدف أربع نائبات من السود، وعلى رأسهن “الكسندرا كورتيس” و إلهام عمر من أصول صومالية، ورشيدة طليب، واللواتي استهدفهن بقوله أكثر من مرة “من يكره البلد و أوضاعها عليه بالعودة من حيث أتى”، هذا التميز والقمع الكثيف للاحتجاجات يكشف ازدواجية التعاطي مع معايير حقوق الإنسان، وهو تعبير واضح على تخوف ترامب ومن معه أن تتحول الإنتفاضة إلى ما هو اجتماعي، خصوصا في هذه الظرفية الحرجة التي يعيشها الاقتصاد الأمريكي، وبالرغم من هذه الأزمات تجد رأسماليين يسعون لاستثمار الأزمات لصالحهم، وهذا ما يحدث مع الديمقراطيين الذين يحاولون استغلال قضية جورج فلويد لصالحهم في الإنتخابات، ورأينا كيف اتسعت شعبية “جون بايدن” في الأيام السابقة رغم أنه متهم بقضايا الفساد.
من هنا تتضح صحة مقولة ماركس حينما قال ” لا يمكن للرأسماليين حل الأزمة في المجتمع إلا بتمهيد الطريق لأزمات أكثر شمولية وأكثر تدميرا، وتقليص الوسائل التي توقف الأزمة والبدء في استغلال الأزمات لصالحهم”، ويستوقفنا السؤال التالي: هل عني كارل ماركس والاشتراكية بنضالات السود؟
الأكيد أن كارل ماركس لم يتطرق لكل جوانب الحياة، لكنه يعطي إشارات حول القضايا التي لم يسعفه الوقت بدراستها، أو أتممها رفيقه أنجلز، فالحركة الاشتراكية مند القرن 19م تعتبر قضية المضطهدين السود من قضاياها الأولى، ونذكر هنا مشاركة “جوزيف ودماير” رفيق ماركس في عصبة العمال الأمريكيين في “شيكاغو”، وقد كان من مناصري الأممية الأولى المرتبطين بماركس في نضالهم ضد اضطهاد السود، بين 1860 و 1870، وكانوا يرون بوضوح كيف تستخدم الرأسمالية الأمريكية التفرقة والتميز العنصري، وزيادة استغلال العمال، ومن أهم الوثائق في هذا السياق هي رسالة جمعية الأممية للعمال للرئيس “لنكولن” التي كتبها كارل ماركس، أما القائد الصيني “ماو” فله رسالة يدعم فيها كفاح الأفارقة الأمريكيين ضد القمع في 16 أبريل ،1968 ويقول في إحدى فقرات هذا البيان “إن التمييز العنصري في أمريكا هو نتاج النظام الاستعماري الإمبريالي، والتناقض بين الجماهير الإفريقية والزمرة المهيمنة في هذا البلد هو تناقض طبقي، ومن خلال الإطاحة بالهيمنة الرجعية للبرجوازيين وتدمير النظام الاستعماري فقط سيتحقق للأفارقة الأمريكيين التحرر الكامل”، وهناك العديد من الأحداث ومساهمات الماركسيين في القرن العشرين والواحد والعشرين لا يتسع المجال لذكرها هنا.
خلاصة:
يمكن القول إن ترامب وضع نفسه في مأزق لا يحسد عليه، سواء تصاعدت الاحتجاجات أو تراجعت، خصوصا بعد نتائج الأزمة الصحية، وكذلك موجات الاحتجاجات التي تعم أوروبا وأمريكا، حتى أصبح العدو والصديق ينتقده بما فيهم الابن البار بريطانيا التي أصدرت بيانا حول قمع الاحتجاجات.
وأمام تطور هذه الأحداث، ظهرت العديد من الآراء، وأصبح “راي توفلر” مثلا هو الأقرب إلى الواقع الملموس، بخصوص الحرب الأهلية وانقسام أمريكا، حيث إن مسألة الحرب الأهلية تأخذ اليوم المساحة الأكبر في المقالات واستطلاعات الرأي والدراسات العلمية، نقدم لكم بعض المعطيات التي يستند لها رأي الحرب الأهلية، بحيث أن 67 في المائة من الأمريكيين لا يستبعدون الحرب الأهلية، وهذا الاستطلاع كان قبل كورونا والانتفاضة.
+ فسياسة ترامب أدت إلى اضطراب داخلي، بعدم استقرار الإدارة والمجتمع إقليميا وعالميا، في العلاقة مع أمريكا اللاتينية، الصين، روسيا، إيران، الاتحاد الأوروبي والشرق الأوسط.
+ كذا اقتصاديا؛ مع تداعيات كورونا وارتفاع نسبة البطالة بحوالي 40 مليون عامل، وتزايد حالات الإفلاس بين الشركات وقطاعات الإنتاج التي وصلت إلى 25 ألف منشأة اقتصادية.
+ ارتفاع هوة التفاوت الطبقي؛ فحسب مؤشر جيني سجلت الولايات المتحدة 41,6 نقطة طبقا للبنك الدولي، وبهذا تحتل المرتبة الأولى بين الدول الصناعية في حجم الهوة الطبقية وسوء توزيع الثروة.
+ تصاعد مهول للعنف العنصري؛ وتحتل فيه المرتبة الأولى بين الدول الصناعية.
+ وجود 165 مليشيا مسلحة تنتشر في أغلب الولايات، وهي يمينية متطرفة، وتعج بمجموعة من أنصار ترامب من الأثرياء.
+ وحسب إحصائيات “إف.ب.آي” فإن 41 في المئة من العائلات الأمريكية تمتلك الأسلحة (حوالي 300 مليون قطعة سلاح).
تعتبر أمريكا هي صاحبة أعلى معدل تدخل عسكري عالميا، فمجموع تدخلاتها منذ الحرب العالمية الثانية بلغت 283 تدخلا، وهناك ملامح ومؤشرات أخرى أشد خطورة عن هذا الانهيار العام.