شهادة من زمن الحجر الصحي

غدا، سيستيقظ الإنسان من هذه الصدمة، وسيجد أن " عالمه" قد اختفى إلى الأبد.

◆ عائشة البصري

  ‬لم‭ ‬يغير‭ ‬الحجر‭ ‬المنزلي‭ ‬الكثير‭ ‬في‭ ‬إيقاعي‭ ‬اليومي‭. ‬فانا‭ ‬لا‭ ‬أغادر‭ ‬البيت‭ ‬كثيرا‭ ‬في‭ ‬الأيام‭ ‬العادية‭. ‬واظبت‭ ‬على‭ ‬إيقاعي‭ ‬اليومي‭ ‬استيقظ‭ ‬باكرا‭ ‬أشتغل‭ ‬الأربع‭ ‬ساعات‭ ‬الأولى‭ ‬من‭ ‬اليوم‭ ‬في‭ ‬الكتابة‭ ‬وباقي‭ ‬اليوم‭ ‬في‭ ‬القراءة‭ ‬والترتيبات‭ ‬المنزلية‭. ‬السادسة‭ ‬مساء‭ ‬أجلس‭ ‬بانضباط‭ ‬لمتابعة‭ ‬النشرة‭ ‬الإحصائية‭ ‬لانتشار‭ ‬الوباء‭ ‬في‭ ‬المغرب‭ ‬وفي‭ ‬العالم‭. ‬في‭ ‬آخر‭ ‬المساء‭ ‬أشاهد‭ ‬فيلما‭ ‬سينمائيا،‭ ‬وقد‭ ‬ركزت‭ ‬مؤخرا‭ ‬على‭ ‬الأفلام‭ ‬القيامية‭.‬

    ‬رغم‭ ‬رعب‭ ‬اللحظة،‭ ‬قد‭ ‬يكون‭ ‬الحجر‭ ‬المنزلي‭ ‬نعمة‭ ‬للكتاب‭ ‬وفرصة‭ ‬لإتمام‭ ‬مشاريع‭ ‬مفتوحة،‭ ‬قراءات‭ ‬مؤجلة،‭ ‬ترتيب‭ ‬مكتبة‭ ‬مهملة‭. ‬قراءة‭ ‬أو‭ ‬إعادة‭ ‬قراءة‭ ‬كتاب‭ ‬عالميون‭ ‬كتبوا‭ ‬عن‭ ‬الوباء‭. ‬

    ‬بحكم‭ ‬سياق‭ ‬الرواية‭ ‬التي‭ ‬اشتغل‭ ‬عليها‭ ‬أعدت‭ ‬قراءة‭ ‬رواية‭ “‬الطاعون‭” ‬تتخيل‭ ‬وباء‭ ‬أصاب‭ ‬مدينة‭ ‬وهران‭ ‬الجزائرية‭ ‬للكاتب‭ ‬الفرنسي‭ ‬ألبير‭ ‬كامو‭.  ‬ورواية‭ “‬القلعة‭ ‬البيضاء‭” ‬التي‭ ‬تتحدث‭ ‬في‭ ‬فصول‭ ‬منها‭ ‬عن‭ ‬وباء‭ ‬اجتاح‭ ‬إسطنبول‭. ‬رواية‭ “‬العمى‭”  ‬لجوزيه‭ ‬سراماغو‭.. ‬

شخصيا،‭ ‬و‭ ‬منذ‭ ‬الأسبوع‭ ‬الأول‭ ‬للحجر‭ ‬المنزلي،‭ ‬وقَّفت‭ ‬كتابة‭ ‬رواية‭ ‬كنت‭ ‬أشتغل‭ ‬عليها‭ ‬لأدخل‭ ‬رواية‭ ‬جديدة‭ ‬تدور‭ ‬أحداثها‭ ‬في‭ ‬زمن‭ ‬كورونا‭.. ‬ليس‭ ‬من‭ ‬عادتي‭ ‬أن‭ ‬أكتب‭ ‬عن‭ ‬موضوع‭ ‬آني،‭ ‬أجد‭ ‬أنه‭ ‬من‭ ‬التسرع‭ ‬الكتابة‭ ‬عن‭ ‬ظاهرة‭ ‬لم‭ ‬تتضح‭ ‬بعد‭ ‬أو‭ ‬حالة‭ ‬في‭ ‬طور‭ ‬التكوين‭. ‬لكن‭ ‬تحت‭ ‬تأثير‭ ‬أجواء‭ ‬الموت‭ ‬والعزلة‭ ‬والأخبار‭ ‬التي‭ ‬تصلنا‭ ‬كل‭ ‬يوم‭ ‬عبر‭ ‬القنوات‭ ‬الفضائية،‭ ‬وحتى‭ ‬الشك‭ ‬في‭ ‬الغد،‭ ‬لم‭ ‬أستطع‭ ‬تجاهل‭ ‬ما‭ ‬يحدث‭ ‬في‭ ‬العالم‭ ‬و‭ ‬مقاومة‭ ‬الكتابة‭ ‬على‭ ‬التداعيات‭ ‬النفسية‭  ‬للجائحة‭ ‬عليّ‭ ‬وعلى‭ ‬الآخرين،‭ ‬كالخوف‭ ‬من‭ ‬العدوى‭ ‬ومن‭ ‬الموت‭. ‬إذ‭ “‬لا‭ ‬يبقى‭ ‬كلُّ‭ ‬شيء‭ ‬على‭ ‬حاله،‭ ‬فيما‭ ‬كلُّ‭ ‬ما‭ ‬يحيط‭ ‬بك‭ ‬هو‭ ‬الموت‭”. ‬

هكذا‭ ‬وجدتني‭ ‬أقود‭ ‬شخصية‭ ‬روائية‭ ‬إلى‭ ‬عوالم‭ ‬الموت‭ ‬والصراع‭ ‬مع‭ ‬وباء‭ ‬كورونا‭.‬

استغراقي‭ ‬في‭ ‬رواية‭ ‬اشتغل‭ ‬عليها‭ ‬منذ‭ ‬سنتين،‭ ‬لم‭ ‬يردعني‭ ‬عن‭ ‬ترك‭ ‬شخصية‭ ‬دونجوان‭ ‬في‭ ‬شرفة‭ ‬مقهى‭ ‬باريسي‭ ‬يشرب‭ ‬الكابوتشينو‭ ‬ويستمتع‭ ‬بأشعة‭ ‬شمس‭ ‬ربيعية‭ ‬ومرافقة‭ ‬شخصية‭ (‬امرأة‭ ) ‬إلى‭  ‬موتها‭. ‬فتحت‭ ‬باب‭ ‬الموت‭ ‬على‭ ‬مصراعيه‭ ‬ودخلت،‭ ‬دون‭ ‬سابق‭ ‬نية،‭ ‬عوالم‭ ‬رواية‭ ‬جديدة‭. ‬

الرواية‭ ‬التي‭ ‬أنهيتها‭ ‬منذ‭ ‬أسابيع،‭ ‬وهي‭ ‬الآن‭ ‬في‭ ‬دار‭ ‬النشر،‭ ‬تحت‭ ‬عنوان‭ “‬كجثة‭ ‬في‭ ‬رواية‭ ‬بوليسية‭” ‬،‭ ‬تعتمد‭ ‬حكيا‭ ‬كرونولوجيا‭ ‬يتطلب‭ ‬متابعة‭ ‬الأخبار‭ ‬اليومية‭ ‬عن‭ ‬انتشار‭ ‬وباء‭ ‬كورونا‭.  

قد‭ ‬تكون‭ ‬هذه‭ ‬الرواية‭ ‬هي‭ ‬الجزء‭ ‬الثاني‭ ‬من‭ ‬روايتي‭ ‬الأولى‭ “‬ليالي‭ ‬الحرير‭” ‬التي‭ ‬نشرت‭ ‬سنة‭ ‬2012‭. ‬بعد‭ ‬عشر‭ ‬سنوات‭ ‬تعود‭ ‬الساردة‭ ‬إلى‭ ‬النفق،‭ ‬الذي‭ ‬دخلته‭ ‬بموتها‭ ‬الإكلينيكي‭ ‬في‭ ‬الرواية‭ ‬السابقة،‭ ‬هذه‭ ‬المرة‭ ‬تدخله‭ ‬من‭ ‬باب‭ ‬الموت‭ ‬الوبائي‭ ‬في‭ ‬زمن‭ ‬كورونا‭.. ‬

  “‬كجثة‭ ‬في‭ ‬رواية‭ ‬بوليسية‭” ‬رواية‭ ‬يقترن‭ ‬فيها‭ ‬مصير‭ ‬الرَّاوية‭ ‬ومصير‭ ‬الشخصية‭ ‬الرئيسية،‭ ‬في‭ ‬سباق‭ ‬مع‭ ‬الزمن‭ ‬وصراع‭ ‬ضد‭ ‬الموت‭.‬

    ‬هل‭ ‬ستعيش‭ ‬الرَّاوية‭ ‬لإنهاء‭ ‬الحكاية؟‭ ‬وهل‭ ‬ستُعطى‭ ‬الساردة‭ ‬فرصة‭ ‬حياة‭ ‬أخرى؟

بصفة‭ ‬عامة،‭ ‬فجائحة‭ ‬كورونا،‭ ‬وما‭ ‬نتج‭ ‬عنها‭ ‬من‭ ‬حجر‭ ‬منزلي،‭ ‬هي‭ ‬لحظة‭ ‬تأمل‭ ‬في‭ ‬الآتي‭.. ‬غدا،‭ ‬سيستيقظ‭ ‬الإنسان‭ ‬من‭ ‬هذه‭ ‬الصدمة،‭ ‬وسيجد‭ ‬أن‭ ‬العالم‭ ” ‬عالمه‭” ‬قد‭ ‬اختفى‭ ‬إلى‭ ‬الأبد‭. ‬وعليه‭ ‬أن‭ ‬يبني‭ ‬عالما‭ ‬آخر‭ ‬أكثر‭ ‬إيجابية‭. ‬عالم‭ ‬يتعايش‭ ‬فيه‭ ‬الإنسان‭ ‬والحيوان‭ ‬في‭ ‬كنف‭ ‬الطبيعة،‭ ‬بأمن‭ ‬وسلام‭.‬‭ ‬وسيكون‭ ‬على‭ ‬الكتاب‭ ‬أن‭ ‬يساهموا‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬البناء‭. ‬الأكيد‭ ‬أن‭ ‬الكلمة‭ ‬التي‭ ‬سيطلقها‭ ‬كاتب‭ ‬لن‭ ‬تدمر‭ ‬ذلك‭ ‬الكائن‭ ‬المجهري‭ ‬الصغير،‭ ‬لكنها‭ ‬ستسجل‭ ‬اللحظة‭ ‬وأثر‭ ‬الكارثة،‭ ‬عسى‭ ‬أن‭ ‬لا‭ ‬ينسى‭ ‬العالم‭ ‬أن‭ ‬كوفيد‭-‬19‭ ‬مر‭ ‬من‭ ‬هنا‭.‬

◆‭ ‬عائشة‭ ‬البصري

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى