أخر الأخبار

“اجماعة”.. تاريخ التجربة الجماعية للمغاربة

◆ يوسف رزين

◆ يوسف رزين

تكون‭ ‬المجتمع‭ ‬المغربي‭ ‬منذ‭ ‬القدم،‭ ‬من‭ ‬عدة‭ ‬قبائل‭ ‬حرصت‭ ‬كل‭ ‬واحدة‭ ‬منها‭ ‬على‭ ‬أن‭ ‬تدير‭ ‬شؤونها‭ ‬اعتمادا‭ ‬على‭ ‬مقدراتها‭ ‬الذاتية‭ ‬ومجالها‭ ‬الخاص‭ ‬بها،‭ ‬وفق‭ ‬نظام‭ ‬ديمقراطي‭ ‬يدعى‭ “‬اجماعة‭”. ‬الذي‭ ‬و‭ ‬إن‭ ‬كان‭ ‬يتسم‭ ‬بالكثير‭ ‬من‭ ‬العقلانية‭ ‬و‭ ‬التدبير‭ ‬الرشيد،‭ ‬إلا‭ ‬أنه‭ ‬مع‭ ‬ذلك‭ ‬عانى‭ ‬من‭ ‬أعطاب‭ ‬كثيرة‭ ‬لأسباب‭ ‬ذاتية‭ ‬و‭ ‬موضوعية،‭ ‬أدت‭ ‬في‭ ‬النهاية‭ ‬إلى‭ ‬جموده‭ ‬و‭ ‬انتفاء‭ ‬فاعليته‭. ‬فما‭ ‬هو‭ ‬هذا‭ ‬النظام‭ ‬القبلي‭ ‬و‭ ‬ما‭ ‬مشكلته‭ ‬؟

يوضح‭ ‬روبير‭ ‬مونطاني‭ ‬أن‭ “‬اجماعة‭” ‬كانت‭ ‬هي‭ ‬أساس‭ ‬الحياة‭ ‬القبلية‭ ‬بالمغرب‭. ‬و‭ ‬قد‭ ‬تمثل‭ ‬دورها‭ ‬في‭ ‬الدفاع‭ ‬عن‭ ‬حوزة‭ ‬الارض‭ ‬وإدارة‭ ‬الشؤون‭ ‬اليومية‭ ‬للسكان،‭ ‬بما‭ ‬فيها‭ ‬إصلاح‭ ‬السواقي‭ ‬و‭ ‬تنظيم‭ ‬الأعمال‭ ‬الزراعية‭ ‬والمبادلات،‭ ‬وفق‭ ‬ما‭ ‬تقتضيه‭ ‬أعراف‭ ‬الجماعة‭ ‬ومعاييرها‭. ‬

و‭ ‬يضيف‭ ‬غابرييل‭ ‬كامبس‭ ‬أن‭ ‬سلطة‭ ‬القرار‭ ‬في‭ ‬القرية‭ ‬تعود‭ ‬إلى‭ “‬اجماعة‭”. ‬و‭ ‬هي‭ ‬كما‭ ‬يصفها،‭ ‬تجمع‭ ‬لأهل‭ ‬القبيلة‭ ‬يجتمع‭ ‬في‭ ‬مبنى‭ ‬جماعي،‭ ‬تتقدمه‭ ‬ساحة‭ ‬أشبه‭ ‬ما‭ ‬تكون‭ ‬ب‭” ‬أغورا‭” ‬حقيقية‭ ‬مصغرة‭. ‬و‭ ‬يكون‭ ‬الخلوص‭ ‬إلى‭ ‬القرار‭ ‬في‭ ‬معظم‭ ‬الاحيان‭ ‬إما‭ ‬بالرضا‭ ‬و‭ ‬القبول‭ ‬الفردي،‭ ‬أو‭ ‬بالهتاف‭ ‬التلقائي‭ ‬أو‭ ‬شبه‭ ‬التلقائي‭. ‬و‭ ‬آنذاك‭ ‬تسري‭ ‬قرارات‭ “‬اجماعة‭” ‬على‭ ‬حياة‭ ‬أفراد‭ ‬القبيلة‭ ‬برمتها‭. ‬

و‭ ‬تقوم‭ ‬هنا‭ “‬اجماعة‭” ‬مقام‭ ‬المحكمة‭ ‬العليا‭. ‬فهي‭ ‬تصدر‭ ‬الأحكام‭ ‬وتحدد‭ ‬الغرامات‭ ‬عن‭ ‬كل‭ ‬مخالفة،‭ ‬و‭ ‬تحكم‭ ‬بالإبعاد‭ ‬و‭ ‬تحل‭ ‬النزاعات‭ ‬بين‭ ‬المتخاصمين،‭ ‬و‭ ‬تحدد‭ ‬العلاقات‭ ‬مع‭ ‬الخارج‭ ‬والعلاقات‭ ‬مع‭ ‬القرى‭ ‬الداخلة‭ ‬في‭ ‬القبيلة‭ ‬الواحدة‭ ‬و‭ ‬العلاقات‭ ‬مع‭ ‬الأجانب‭. ‬كما‭ ‬تتكلف‭ ‬باستقبال‭ ‬ضيوف‭ ‬القبيلة‭. ‬

يذكر‭ ‬أن‭ ‬أراضي‭ ‬القبيلة‭ ‬انقسمت‭ ‬إلى‭ ‬ملكيات‭ ‬خاصة‭ ‬وملكيات‭ ‬عامة،‭ ‬لذلك‭ ‬تكلفت‭ ‬مؤسسة‭ “‬اجماعة‭” ‬بالإشراف‭ ‬على‭ ‬تنظيم‭ ‬استغلال‭ ‬هذا‭ ‬الملك‭ ‬العام‭ ‬من‭ ‬طرف‭ ‬أفراد‭ ‬القبيلة،‭ ‬حيث‭ ‬كانت‭ ‬تراقب‭ ‬الانتفاع‭ ‬من‭ ‬الغابات‭ ‬و‭ ‬المراعي‭. ‬كما‭ ‬كانت‭ ‬تقوم‭ ‬بتوزيع‭ ‬مداخيل‭ ‬الأحباس‭ ‬على‭ ‬سكان‭ ‬القبيلة‭ . ‬

و‭ ‬يوضح‭ ‬الباحث‭ ‬عمر‭ ‬بن‭ ‬ميرة‭ ‬أن‭ ‬نظام‭ ‬التملك‭ ‬الجماعي‭ ‬لم‭ ‬يقتصر‭ ‬على‭ ‬الأرض،‭ ‬بل‭ ‬امتد‭ ‬أيضا‭ ‬إلى‭ ‬الماء،‭ ‬حيث‭ ‬إن‭ ‬إقامة‭ ‬السدود‭ ‬ومد‭ ‬القنوات‭ ‬أدى‭ ‬إلى‭ ‬وجود‭ ‬مجموعة‭ ‬من‭ ‬الأعراف‭ ‬لتنظيم‭ ‬السقي‭ ‬و‭ ‬توزيع‭ ‬الحصص‭ ‬بين‭ ‬المزارعين‭.‬

و‭ ‬نجد‭ ‬بالإضافة‭ ‬إلى‭ ‬ما‭ ‬سبق،‭ ‬أن‭ “‬اجماعة‭” ‬اهتمت‭ ‬أيضا‭ ‬بالعمل‭ ‬التضامني‭ ‬حيث‭ ‬يذكر‭ ‬الباحث‭ ‬نور‭ ‬الدين‭ ‬امعيط‭ ‬أنها‭ ‬كانت‭ ‬تقوم‭ ‬بتنظيم‭ ‬عملية‭ “‬التويزة‭”. ‬و‭ ‬هو‭ ‬عمل‭ ‬تضامني‭ ‬من‭ ‬طرف‭ ‬أفراد‭ ‬القبيلة‭ ‬يقتضي‭ ‬الاشتراك‭ ‬بشكل‭ ‬تطوعي‭ ‬في‭ ‬العمل‭ ‬في‭ ‬حقل‭ ‬أحد‭ ‬الاشخاص،‭ ‬حيث‭ ‬يأتون‭ ‬إليه‭ ‬بأدواتهم‭ ‬و‭ ‬دوابهم‭ ‬الخاصة‭ ‬وفي‭ ‬المقابل‭ ‬يتكلف‭ ‬المستفيد‭ ‬بتوفير‭ ‬الطعام‭ ‬لهم‭. ‬و‭ ‬يضيف‭ ‬نفس‭ ‬الباحث‭ ‬أن‭ ‬عرف‭ ‬التويزة‭ ‬لم‭ ‬يكن‭ ‬مقتصرا‭ ‬فقط‭ ‬على‭ ‬الحرث‭ ‬و‭ ‬الحصاد‭ ‬فقط،‭ ‬بل‭ ‬تعداه‭ ‬إلى‭ ‬كل‭ ‬ما‭ ‬يتعلق‭ ‬بالعمل‭ ‬الجماعي،‭ ‬كالمساهمة‭ ‬في‭ ‬الأفراح‭ ‬والأتراح‭ ‬وجني‭ ‬الزيتون‭ ‬واستصلاح‭ ‬الطرق‭ ‬وصنع‭ ‬الخيام‭ ‬ونسج‭ ‬الأغطية‭ ‬و‭ ‬غسل‭ ‬الصوف‭.‬

و‭ ‬نجد‭ ‬بجانب‭ ‬عرف‭ ‬التويزة‭ ‬عرفا‭ ‬آخر‭ ‬يدعي‭ ‬الوزيعة،‭ ‬وهو‭ ‬يتعلق‭ ‬بتوزيع‭ ‬اللحوم‭ ‬على‭ ‬أفراد‭ ‬القبيلة‭ ‬بما‭ ‬فيهم‭ ‬الفقراء‭ ‬والأرامل‭ ‬والأيتام‭ ‬منهم،‭ ‬بعد‭ ‬ذبح‭ ‬جماعي‭ ‬للأضاحي‭ ‬يكون‭ ‬أغلب‭ ‬السكان‭ ‬قد‭ ‬ساهم‭ ‬في‭ ‬دفع‭ ‬ثمنها‭. ‬يذكر‭ ‬أن‭ ‬عملية‭ ‬التوزيع‭ ‬هاته‭ ‬كانت‭ ‬تتم‭ ‬تحت‭ ‬إشراف‭ ‬مؤسسة‭ “‬اجماعة‭”‬،‭ ‬بعد‭ ‬إحصاء‭ ‬دقيق‭ ‬للأسر‭ ‬داخل‭ ‬القبيلة‭. ‬و‭ ‬قد‭ ‬كان‭ ‬هذا‭ ‬العرف‭ ‬التضامني‭ ‬يتقرر‭ ‬عند‭ ‬كل‭ ‬رمضان‭ ‬وعيد‭ ‬المولد‭ ‬النبوي‭ ‬وليلة‭ ‬عاشوراء‭ ‬والمناسبات‭ ‬الفلاحية‭ ‬كموسم‭ ‬الحصاد‭ ‬وجني‭ ‬الزيتون‭ ‬وعند‭ ‬قص‭ ‬صوف‭ ‬الماشية‭.‬

إلى‭ ‬هنا‭ ‬تبدو‭ ‬القبيلة‭ ‬المغربية‭ ‬على‭ ‬ما‭ ‬يرام‭ ‬وهي‭ ‬تدير‭ ‬شؤونها‭ ‬وفق‭ ‬نظام‭ ‬ديمقراطي‭ ‬معقلن‭ ‬تطبعه‭ ‬روح‭ ‬التضامن‭ ‬والحياة‭ ‬المشتركة‭. ‬غير‭ ‬أن‭ ‬الواقع‭ ‬لم‭ ‬يكن‭ ‬بهذه‭ ‬الصورة‭ ‬الوردية‭. ‬فكيف‭ ‬ذلك‭ ‬؟

لقد‭ ‬كان‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬النظام‭ ‬ثغرات‭ ‬تسمح‭ ‬بتسيد‭ ‬الأقوياء‭ ‬و‭ ‬فرض‭ ‬استبدادهم‭ ‬على‭ ‬الضعفاء،‭ ‬وبالتالي‭ ‬خروجه‭ ‬عن‭ ‬المسار‭ ‬الذي‭ ‬رسم‭ ‬له‭. ‬يوضح‭ ‬الباحث‭ ‬المختار‭ ‬الهراس‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬الصدد‭ ‬أن‭ “‬اجماعة‭” ‬لدى‭ ‬قبائل‭ ‬اجبالة‭ ‬لم‭ ‬تكن‭ ‬مؤسسة‭ ‬ديمقراطية‭ ‬بمعناها‭ ‬الكامل،‭ ‬و‭ ‬لم‭ ‬تكن‭ ‬تعكس‭ ‬مواقف‭ ‬وتطلعات‭ ‬السكان‭. ‬فقد‭ ‬كان‭ ‬أعضاءها‭ ‬يختارون‭ ‬من‭ ‬بين‭ ‬أعيان‭ ‬القبيلة‭ ‬و‭ ‬مسنيها‭ ‬من‭ ‬ذوي‭ ‬الخبرة‭ ‬والمكانة‭ ‬الاجتماعية‭ ‬المرموقة،‭ ‬حيث‭ ‬يقدمون‭ ‬الاقتراحات‭ ‬والحلول‭ . ‬أما‭ ‬العوام‭ ‬فلم‭ ‬يكن‭ ‬لديهم‭ ‬سوى‭ ‬حق‭ ‬الحضور‭ ‬والانصات‭ . ‬كما‭ ‬يذكر‭ ‬غابرييل‭ ‬كامبس‭ ‬أيضا‭ ‬أن‭ ‬امغارن‭ (‬الشيوخ‭ ‬ورؤساء‭ ‬الآسر‭) ‬هم‭ ‬وحدهم‭ ‬من‭ ‬يحق‭ ‬لهم‭ ‬الكلام‭ ‬في‭ “‬اجماعة‭”. ‬فهي‭ ‬و‭ ‬إن‭ ‬كانت‭ ‬ديمقراطية‭ ‬من‭ ‬حيث‭ ‬المبدأ‭ ‬فإنها‭ ‬كانت‭ ‬محدودة‭ ‬في‭ ‬الواقع‭. ‬فالقرار‭ ‬يكون‭ ‬دائما‭ ‬بأيدي‭ ‬أسرتين‭ ‬أو‭ ‬ثلاث‭.‬

أما‭ ‬جاك‭ ‬بيرك‭ ‬فيوضح‭ ‬أن‭ ‬القرابة‭ ‬إذا‭ ‬كانت‭ ‬تحقق‭ ‬بالفعل‭ ‬وحدة‭ ‬الجماعة،‭ ‬فإن‭ ‬المستفيد‭ ‬الرئيسي‭ ‬منها‭ ‬ليس‭ ‬كل‭ ‬اعضاءها‭ ‬بل‭ ‬فقط‭ ‬العائلات‭ ‬الشريفة‭ ‬والأصيلة‭ ‬ذات‭ ‬المكانة‭ ‬الرمزية‭ ‬المرموقة‭ ‬في‭ ‬مقابل‭ ‬الدخلاء‭ ‬والوافدين‭ ‬الجدد‭ ‬والمستضعفين،‭ ‬الذين‭ ‬يشهر‭ ‬في‭ ‬وجههم‭ ‬سلاح‭ ‬الجينالوجيا‭ ‬كلما‭ ‬اقتضت‭ ‬الظروف‭ ‬اقتسام‭ ‬منافع‭ ‬مرعى‭ ‬أو‭ ‬ماء‭ ‬جماعي‭ ‬أو‭ ‬أداء‭ ‬واجب‭ ‬جبائي‭. ‬لقد‭ ‬كانت‭ ‬الديموقراطية‭ ‬القبلية‭ ‬إذن‭ ‬مجرد‭ ‬وهم،‭ ‬و‭ ‬كانت‭ ‬العلاقات‭ ‬السلطوية‭ ‬هي‭ ‬البارزة‭ ‬والمتحكمة‭ ‬في‭ ‬الحياة‭ ‬القبلية‭ ‬لأن‭ ‬هناك‭ ‬فوارق‭ ‬اقتصادية‭ ‬واجتماعية‭ ‬ورمزية‭ ‬بين‭ ‬أفرادها‭ ‬تقتضي‭ ‬وجودها‭. ‬

انه‭ ‬بسبب‭ ‬ظروف‭ ‬الاضطراب‭ ‬السياسي‭ ‬والأمني‭ ‬الذي‭ ‬عانى‭ ‬منه‭ ‬المغرب‭ ‬طوال‭ ‬تاريخه،‭ ‬بسبب‭ ‬انهيار‭ ‬دولته‭ ‬المركزية‭ ‬المتكرر،‭ ‬صارت‭ ‬الفئة‭ ‬المحاربة‭ ‬في‭ ‬القبيلة‭ ‬هي‭ ‬صاحبة‭ ‬الكلمة‭ ‬الطولى‭ ‬على‭ ‬حساب‭ ‬الفئة‭ ‬المنتجة‭ ‬من‭ ‬فلاحين‭ ‬و‭ ‬حرفيين،‭ ‬ما‭ ‬أصاب‭ ‬مؤسسة‭ “‬اجماعة‭” ‬ونظامها‭ ‬الديمقراطي‭ ‬المفترض‭ ‬بالعطب،‭ ‬فتحولت‭ ‬من‭ ‬مؤسسة‭ ‬يفترض‭ ‬فيها‭ ‬خدمة‭ ‬أفراد‭ ‬القبيلة‭ ‬إلى‭ ‬مؤسسة‭ ‬تخدم‭ ‬مصالح‭ ‬الأوليغارشيا‭ ‬داخلها‭.‬

و‭ ‬لتوضيح‭ ‬هذه‭ ‬النقطة‭ ‬تذكر‭ ‬الباحثة‭ ‬رحمة‭ ‬بورقية‭ ‬أن‭ ‬وجود‭ “‬الخماس‭” ‬و‭ “‬امقاضع‭” ‬و‭”‬الرباع‭” ‬هو‭ ‬وجه‭ ‬أخر‭ ‬لهذه‭ ‬البنية‭ ‬العسكرية‭ ‬القبلية،‭ ‬التي‭ ‬يتم‭ ‬فيها‭ ‬تقسيم‭ ‬العمل‭ ‬بين‭ ‬حاملي‭ ‬السلاح‭ ‬و‭ ‬غير‭ ‬الحاملين‭ ‬له‭. ‬إذ‭ ‬يكون‭ ‬أصحاب‭ ‬البارود‭ ‬الفئة‭ ‬المتعالية‭ ‬عن‭ ‬العامة‭ ‬بينما‭ ‬يترك‭ ‬للخماسين‭ ‬والرعاة‭ ‬مهمة‭ ‬العمل‭ ‬الفلاحي‭ ‬والرعوي‭. ‬لذلك‭ ‬صار‭ ‬المجتمع‭ ‬يفضل‭ ‬حامل‭ ‬السلاح‭ ‬على‭ ‬الفلاح‭ . ‬

و‭ ‬عليه‭ ‬فإن‭ ‬الخيام‭ ‬الكبيرة‭ ‬التي‭ ‬بإمكانها‭ ‬أن‭ ‬تزود‭ ‬القبيلة‭ ‬بالرماة‭ ‬و‭ ‬بالسلاح‭ ‬هي‭ ‬العائلات‭ ‬التي‭ ‬تجد‭ ‬لها‭ ‬ممثلين‭ ‬داخل‭ “‬اجماعة‭”. ‬فمن‭ ‬الشروط‭ ‬التي‭ ‬يجب‭ ‬أن‭ ‬تتوفر‭ ‬في‭ “‬اجماع‭” ‬أن‭ ‬يكون‭ ‬قادرا‭ ‬على‭ ‬توجيه‭ ‬الحرب‭ ‬وأن‭ ‬يكون‭ ‬ملاكا‭ ‬كبيرا‭. ‬و‭ ‬بذلك‭ ‬فإن‭ ‬هناك‭ ‬فئات‭ ‬تقصى‭ ‬من‭ ‬وظيفة‭ “‬اجماع‭” ‬كالمرأة‭ ‬و‭ ‬من‭ ‬لا‭ ‬يستطيع‭ ‬ان‭ ‬يشارك‭ ‬في‭ ‬الحرب‭ ‬والفقراء‭ ‬كالحدادين‭ ‬والنجارين‭ ‬وحفاري‭ ‬الآبار‭ ‬والغرباء‭ ‬والدخلاء‭.‬

انعكست‭ ‬هذه‭ ‬التطورات‭ ‬على‭ ‬الناتج‭ ‬الفلاحي،‭ ‬الذي‭ ‬انخفض‭ ‬إلى‭ ‬أدنى‭ ‬مستوياته،‭ ‬فعجزت‭ ‬القبيلة‭ ‬عن‭ ‬انجاز‭ ‬الفائض‭ ‬الداخلي‭ ‬و‭ ‬الوفرة‭ ‬في‭ ‬الانتاج‭.‬‭ ‬تصف‭ ‬الباحثة‭ ‬بورقية‭ ‬هذا‭ ‬الوضع‭ ‬بالقول‭ ‬أن‭ ‬استغلال‭ ‬الأرض‭ ‬كان‭ ‬يلبي‭ ‬الحاجيات‭ ‬الضرورية‭ ‬التي‭ ‬تكفي‭ ‬لسنة‭ ‬فقط‭ ‬ولا‭ ‬يسمح‭ ‬بوجود‭ ‬الفائض‭. ‬كما‭ ‬ان‭ ‬وضع‭ ‬الفلاح‭ ‬الذي‭ ‬يكاد‭ ‬يرادف‭ “‬الخماس‭” ‬او‭ “‬امقاضع‭” ‬او‭ “‬الرباع‭” ‬يبين‭ ‬مدى‭ ‬تهميش‭ ‬و‭ ‬احتقار‭ ‬العمل‭ ‬الفلاحي‭ ‬لصالح‭ ‬النشاط‭ ‬العسكري‭ ‬ك‭ “‬الرماية‭” ‬أو‭ “‬الحركة‭”‬،‭ ‬حيث‭ ‬إن‭ ‬القيمة‭ ‬التي‭ ‬تبجل‭ ‬حامل‭ ‬السلاح‭ ‬تتم‭ ‬عادة‭ ‬على‭ ‬حساب‭ ‬العمل‭ ‬الفلاحي‭.‬

لقد‭ ‬أدى‭ ‬هذا‭ ‬الوضع‭ ‬الاجتماعي‭ ‬المائل‭ ‬لصالح‭ ‬حملة‭ ‬السلاح‭ ‬الى‭ ‬تحولات‭ ‬مست‭ ‬اقتصاد‭ ‬القبيلة‭. ‬فبدلا‭ ‬من‭ ‬أن‭ ‬يكون‭ ‬اقتصادها‭ ‬قائما‭ ‬على‭ ‬الفلاحة‭ ‬و‭ ‬غراسة‭ ‬الأشجار‭ ‬التي‭ ‬تشترط‭ ‬ظروف‭ ‬الأمن‭ ‬والاستقرار،‭ ‬فإن‭ ‬العكس‭ ‬هو‭ ‬الذي‭ ‬ساد،‭ ‬حيث‭ ‬اقتصر‭ ‬النشاط‭ ‬الفلاحي‭ ‬على‭ ‬زراعة‭ ‬الحبوب‭ ‬التي‭ ‬لا‭ ‬يتطلب‭ ‬حصد‭ ‬محصولها‭ ‬أكثر‭ ‬من‭ ‬سنة،‭ ‬على‭ ‬عكس‭ ‬زراعة‭ ‬الاشجار‭ ‬التي‭ ‬يتطلب‭ ‬جني‭ ‬محصولها‭ ‬الانتظار‭ ‬لسنوات‭ ‬عديدة‭. ‬

لقد‭ ‬سيطر‭ ‬الهاجس‭ ‬الأمني‭ ‬بسبب‭ ‬الحروب‭ ‬المتكررة‭ ‬بين‭ ‬القبائل‭ ‬على‭ ‬الفلاحين،‭ ‬فلم‭ ‬يزرعوا‭ ‬إلا‭ ‬الحد‭ ‬الادنى‭ ‬من‭ ‬الأراضي‭ ‬لسد‭ ‬الحاجيات‭ ‬الضرورية،‭ ‬خوفا‭ ‬من‭ ‬اكتساح‭ ‬يتعرضون‭ ‬له‭ ‬من‭ ‬طرف‭ ‬قوة‭ ‬معادية‭. ‬ما‭ ‬جعل‭ ‬انتاجهم‭ ‬ينحصر‭ ‬في‭ ‬خانة‭ ‬اقتصاد‭ ‬الكفاف‭. ‬و‭ ‬صار‭ ‬التركيز‭ ‬أكثر‭ ‬على‭ ‬تربية‭ ‬المواشي‭ ‬باعتبارها‭ ‬اموالا‭ ‬منقولة‭ ‬يسهل‭ ‬سوقها‭ ‬نحو‭ ‬الجبال‭ ‬عند‭ ‬تعرضهم‭ ‬للهجوم‭. ‬لهذا‭ ‬كان‭ ‬طبيعيا‭ ‬ان‭ ‬يستعمل‭ ‬المغاربة‭ ‬الخيام‭ ‬كوسيلة‭ ‬للسكن‭ ‬بدلا‭ ‬من‭ ‬المنازل‭ ‬المشيدة‭ ‬من‭ ‬الطوب‭ ‬رغم‭ ‬تواجدهم‭ ‬بالسهول‭.‬

إن‭ ‬هذه‭ ‬الوضعية‭ ‬القلقة‭ ‬و‭ ‬القابعة‭ ‬أسفل‭ ‬الهرم‭ ‬الاجتماعي‭ ‬التي‭ ‬عاشها‭ ‬الفلاح،‭ ‬تكشف‭ ‬بوضوح‭ ‬سبب‭ ‬غرق‭ ‬الاقتصاد‭ ‬المغربي‭ ‬طوال‭ ‬تاريخه‭ ‬في‭ ‬الركود‭ ‬و‭ ‬ضعف‭ ‬الانتاجية‭ ‬و‭ ‬تخلف‭ ‬التقنية‭. ‬فلا‭ ‬الفلاح‭ ‬نعم‭ ‬بظروف‭ ‬الأمن‭ ‬والاستقرار‭ ‬التي‭ ‬تمكنه‭ ‬من‭ ‬تحسين‭ ‬زراعته‭ ‬و‭ ‬توسيعها‭ ‬وتجويد‭ ‬أدواته‭ ‬التقنية،‭ ‬ولا‭ ‬هو‭ ‬استفاد‭ ‬من‭ ‬نظام‭ “‬اجماعة‭” ‬شبه‭ ‬الديمقراطي‭ ‬لإسماع‭ ‬صوته‭ ‬والدفاع‭ ‬عن‭ ‬مصالحه‭ ‬داخل‭ ‬القبيلة‭ ‬باعتباره‭ ‬الفئة‭ ‬المنتجة‭ ‬للفائض‭ ‬الداخلي‭.‬

لقد‭ ‬كانت‭ ‬الكلمة‭ ‬العليا‭ ‬في‭ ‬تاريخ‭ ‬المغرب‭ ‬للأمغار‭ ‬المقاتل،‭ ‬الذي‭ ‬اعتمد‭ ‬في‭ ‬مراكمة‭ ‬ثروته‭ ‬على‭ ‬فرض‭ ‬الجبايات‭ ‬الثقيلة‭ ‬على‭ ‬الفلاح‭ ‬وعلى‭ ‬تجارة‭ ‬الترانزيت‭ ‬واتاوات‭ ‬الخفر‭ ‬والمرور‭ (‬الزطاط‭). ‬محولا‭ ‬في‭ ‬ذلك‭ ‬نظام‭ “‬اجماعة‭” ‬الديمقراطي‭ ‬إلى‭ ‬نظام‭ ‬اقطاعي‭ ‬استبدادي‭. ‬وانضاف‭ ‬إلى‭ ‬ذلك‭ ‬أن‭ ‬المخزن‭ ‬كان‭ ‬يبني‭ ‬سياسته‭ ‬الداخلية‭ ‬في‭ ‬فرض‭ ‬سلطته‭ ‬على‭ ‬مجموع‭ ‬التراب‭ ‬المغربي‭ ‬على‭ ‬اتخاذ‭ ‬الأمغار‭ ‬المتغلب‭/‬القايد‭ ‬وسيطا‭ ‬بينه‭ ‬و‭ ‬بين‭ ‬قبيلته،‭ ‬ما‭ ‬يعني‭ ‬مزيدا‭ ‬من‭ ‬تشديد‭ ‬الخناق‭ ‬على‭ ‬الفلاح‭ ‬وإثقال‭ ‬كاهله‭ ‬بالضرائب‭.‬

لقد‭ ‬كان‭ ‬الفلاحون‭ ‬في‭ ‬ظل‭ ‬هذا‭ ‬الوضع‭ ‬رهائن‭ ‬لدى‭ ‬سيدهم‭ ‬الإقطاعي،‭ ‬فعاشوا‭ ‬على‭ ‬الكفاف‭ ‬وعانوا‭ ‬من‭ ‬الإفلاس،‭ ‬رغم‭ ‬أنهم‭ ‬الفئة‭ ‬المثلى‭ ‬القادرة‭ ‬على‭ ‬الانتاج‭ ‬وخلق‭ ‬الثروة‭. ‬ولذلك‭ ‬لاحظ‭ ‬الحسن‭ ‬الوزان‭ ‬أن‭ ‬أفراد‭ ‬القبائل‭ ‬التي‭ ‬تخضع‭ ‬للمخزن‭ ‬يرتدون‭ ‬أسمالا‭ ‬بالية‭.‬

من‭ ‬جهة‭ ‬أخرى،‭ ‬فإن‭ ‬القايد‭ ‬بسيطرته‭ ‬على‭ ‬زمام‭ ‬الأمور‭ ‬في‭ ‬قبيلته،‭ ‬واتخاذ‭ ‬المخزن‭ ‬له‭ ‬كوسيط‭ ‬و‭ ‬مخاطبا‭ ‬وحيدا،‭ ‬فإنه‭ ‬أصبح‭ ‬بحكم‭ ‬الواقع‭ ‬ملكا‭ ‬محليا‭. ‬فكان‭ ‬لا‭ ‬يتردد‭ ‬في‭ ‬التمرد‭ ‬على‭ ‬المخزن‭ ‬حالما‭ ‬سنحت‭ ‬له‭ ‬الفرصة‭. ‬إن‭ ‬إحدى‭ ‬التناقضات‭ ‬الرئيسية‭ ‬لسياسة‭ ‬الدولة‭ ‬المخزنية‭ ‬هي‭ ‬أن‭ ‬القايد‭ ‬الذي‭ ‬كانت‭ ‬تدعمه‭ ‬على‭ ‬حساب‭ ‬الفلاح،‭ ‬كان‭ ‬يتحول‭ ‬مع‭ ‬مرور‭ ‬الوقت‭ ‬إلى‭ ‬فرانكشتاين‭ ‬ينقلب‭ ‬عليها‭ ‬كلما‭ ‬أنس‭ ‬منها‭ ‬ضعفا‭.‬

لذلك‭ ‬نجد‭ ‬أن‭ ‬الدولة‭ ‬المغربية‭ ‬في‭ ‬العصر‭ ‬الحديث‭ ‬عملت‭ ‬على‭ ‬تحجيم‭ ‬مؤسسة‭ ‬القايد،‭ ‬وتحويله‭ ‬إلى‭ ‬مسؤول‭ ‬إداري‭ ‬صغير‭ ‬لديها،‭ ‬مع‭ ‬إعادة‭ ‬ترتيب‭ ‬النظام‭ ‬القبلي‭ ‬بما‭ ‬يخدم‭ ‬استقرار‭ ‬السلطة‭ ‬المركزية،‭ ‬حيث‭ ‬منع‭ ‬قانون‭ ‬القواد‭ ‬الصادر‭ ‬في‭ ‬20‭ ‬مارس‭ ‬1956‭ ‬من‭ ‬أخذ‭ ‬الضرائب‭ ‬التي‭ ‬كان‭ ‬يأخذها‭ ‬القايد‭ ‬من‭ ‬قبيلته‭ ‬نظير‭ ‬خدماته‭ ‬فيما‭ ‬مضى‭. ‬لقد‭ ‬حرص‭ ‬المشرع‭ ‬في‭ ‬مغرب‭ ‬الاستقلال‭ ‬على‭ ‬جعل‭ ‬القائد‭ ‬موظفا‭ ‬لدى‭ ‬الدولة‭ ‬يتقاضى‭ ‬أجرا‭ ‬رسميا‭ ‬محددا،‭ ‬مع‭ ‬عدم‭ ‬إبقاءه‭ ‬في‭ ‬منطقة‭ ‬نفوذه‭ ‬أكثر‭ ‬من‭ ‬ثلاث‭ ‬سنوات،‭ ‬منعا‭ ‬له‭ ‬من‭ ‬التجدر‭ ‬اجتماعيا‭ ‬واقتصاديا‭ ‬داخلها‭.‬

و‭ ‬هو‭ ‬ما‭ ‬اكده‭ ‬الملك‭ ‬الراحل‭ ‬محمد‭ ‬الخامس‭ ‬في‭ ‬8‭ ‬ماي‭ ‬سنة‭ ‬1958‭ ‬قائلا‭: “‬إن‭ ‬تطور‭ ‬البلاد‭ ‬اقتضى‭ ‬انكسار‭ ‬البنيات‭ ‬القبلية‭ ‬التي‭ ‬لا‭ ‬يمكن‭ ‬لها‭ ‬من‭ ‬الآن‭ ‬فصاعدا‭ ‬أن‭ ‬تكون‭ ‬الأساس‭ ‬لإرساء‭ ‬أجهزة‭ ‬تمثيلية‭ ‬فلذلك‭ ‬ارتأينا‭ ‬أن‭ ‬تكون‭ ‬الجماعة‭ ‬كخلية‭ ‬اجتماعية‭ ‬وسياسية‭ ‬جديدة‭ ‬الأساس‭ ‬لتنظيم‭ ‬المغرب‭ ‬الحديث‭”.‬

و‭ ‬بذلك‭ ‬تكون‭ ‬القبيلة‭ ‬المغربية‭ ‬قد‭ ‬عرفت‭ ‬عدة‭ ‬تغييرات‭ ‬في‭ ‬عصرنا‭ ‬الحالي‭. ‬وهي‭ ‬أنها‭ ‬صارت‭ ‬تنعم‭ ‬بالأمن‭ ‬و‭ ‬الاستقرار‭ ‬المساعد‭ ‬على‭ ‬الإنتاج‭ ‬الفلاحي،‭ ‬و‭ ‬لم‭ ‬تعد‭ ‬مضطرة‭ ‬إلى‭ ‬أن‭ ‬تكون‭ ‬على‭ ‬أهبة‭ ‬الاستعداد‭ ‬للهجرة‭ ‬والفرار‭ ‬نحو‭ ‬الجبال‭ ‬للاحتماء‭ ‬بها‭ ‬من‭ ‬الغارات‭ ‬المعادية‭. ‬كما‭ ‬أنها‭ ‬تحررت‭ ‬من‭ ‬سلطة‭ ‬القايد‭ ‬المستبد‭ ‬وانتقلت‭ ‬في‭ ‬تسيير‭ ‬شؤونها‭ ‬من‭ ‬نظام‭ “‬اجماعة‭” ‬التقليدي‭ ‬إلى‭ ‬نظام‭ ‬الجماعة‭ ‬القروية‭ ‬الحديث‭. ‬

لكن‭ ‬يبقى‭ ‬السؤال‭ ‬المطروح‭ : ‬ما‭ ‬جدوى‭ ‬هذه‭ ‬التحولات‭ ‬والسياسات‭ ‬الحديثة‭ ‬على‭ ‬وضع‭ ‬الفلاح‭ ‬المغربي‭ ‬المنتج‭ ‬للفائض‭ ‬الداخلي؟‭ ‬هل‭ ‬فعلا‭ ‬تحرر‭ ‬الفلاح‭ ‬من‭ ‬سلطة‭ ‬القايد‭ ‬و‭ ‬عاد‭ ‬إليه‭ ‬اعتباره؟

يلاحظ‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬الصدد‭ ‬أن‭ ‬البادية‭ ‬تحررت‭ ‬من‭ ‬سلطة‭ ‬القايد،‭ ‬كما‭ ‬أنها‭ ‬صارت‭ ‬تسير‭ ‬من‭ ‬طرف‭ ‬الادارة‭ ‬ممثلة‭ ‬في‭ ‬شخص‭ ‬القائد‭ ‬الممثل‭ ‬لسلطة‭ ‬الوصاية،‭ ‬و‭ ‬تسير‭ ‬كذلك‭ ‬من‭ ‬طرف‭ ‬الجماعة‭ ‬القروية‭ ‬ذات‭ ‬الأعضاء‭ ‬المنتخبين‭ ‬من‭ ‬طرف‭ ‬السكان‭. ‬و‭ ‬هنا‭ ‬نجد‭ ‬المفارقة‭ ‬التالية‭ ‬وهي‭ ‬أن‭ ‬القائد‭ ‬هو‭ ‬شخص‭ ‬ذو‭ ‬تعليم‭ ‬جيد‭ ‬و‭ ‬قدرات‭ ‬إدارية‭ ‬حسنة،‭ ‬في‭ ‬حين‭ ‬أن‭ ‬المنتخب‭ ‬الجماعي‭ ‬هو‭ ‬شخص‭ ‬أمي‭ ‬و‭ ‬بمهارات‭ ‬إدارية‭ ‬متواضعة،‭ ‬ما‭ ‬يجعل‭ ‬التفاعل‭ ‬بين‭ ‬البادية‭ ‬و‭ ‬الدولة‭ ‬العصرية‭ ‬ضعيفا‭ . ‬كما‭ ‬أن‭ ‬الدولة‭ ‬و‭ ‬إن‭ ‬كانت‭ ‬قد‭ ‬أقبرت‭ ‬ظاهرة‭ ‬القياد،‭ ‬فإنها‭ ‬من‭ ‬جهة‭ ‬أخرى‭ ‬قد‭ ‬أحيتهم‭ ‬في‭ ‬شخص‭ ‬الأعيان،‭ ‬الذين‭ ‬بدورهم‭ ‬سيطروا‭ ‬على‭ ‬الجماعات‭ ‬القروية‭ ‬وصولا‭ ‬الى‭ ‬البرلمان‭ . ‬

يوضح‭ ‬الباحث‭ ‬عبد‭ ‬الرحيم‭ ‬العطري‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬الصدد‭ ‬أن‭ ‬الطلب‭ ‬على‭ ‬الأعيان‭ ‬قد‭ ‬تجدد‭ ‬بعد‭ ‬الاستقلال‭ ‬بسبب‭ ‬الصراع‭ ‬الذي‭ ‬قام‭ ‬بين‭ ‬القصر‭ ‬واليسار‭. ‬فالدولة‭ ‬سعيا‭ ‬منها‭ ‬لتحجيم‭ ‬انتشار‭ ‬الاحزاب‭ ‬الوطنية‭ ‬في‭ ‬المجتمع‭ ‬و‭ ‬البادية‭ ‬خصوصا،‭ ‬خلقت‭ ‬أحزابا‭ ‬إدارية‭ ‬تابعة‭ ‬لها‭ ‬و‭ ‬ملأتها‭ ‬بالأعيان،‭ ‬وبالتالي‭ ‬فكما‭ ‬أفرغ‭ ‬القياد‭ ‬في‭ ‬الماضي‭ ‬مؤسسة‭ “‬اجماعة‭” ‬من‭ ‬محتواها‭ ‬الديمقراطي،‭ ‬فإن‭ ‬خلفاءهم‭ ‬الأعيان‭ ‬بدورهم‭ ‬يفعلون‭ ‬نفس‭ ‬الشيء‭ ‬مع‭ ‬مؤسسة‭ ‬الجماعة‭ ‬القروية‭ ‬وباقي‭ ‬مؤسسات‭ ‬الدولة‭ ‬التمثيلية،‭ ‬و‭ ‬مازال‭ ‬واقع‭ ‬التهميش‭ ‬و‭ ‬العزلة‭ ‬و‭ ‬الارتهان‭ ‬لكبار‭ ‬الملاكين‭ ‬هو‭ ‬ما‭ ‬يعيشه‭ ‬صغار‭ ‬الفلاحين‭. ‬و‭ ‬هو‭ ‬ما‭ ‬يعني‭ ‬أن‭ ‬الدولة‭ ‬المغربية‭ ‬الحديثة‭ ‬تكرر‭ ‬خطأها‭ ‬الأزلي‭ ‬المتمثل‭ ‬في‭ ‬خلق‭ ‬الفرانكشتاين‭ ‬الإقطاعي‭ ‬دون‭ ‬وعي‭ ‬منها‭ !. ‬

فالدولة‭ ‬مازالت‭ ‬تتعامل‭ ‬مع‭ ‬البادية‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬قناة‭ ‬الوسطاء‭ ‬الأعيان،‭ ‬و‭ ‬كأنها‭ ‬مازالت‭ ‬ضعيفة‭ ‬أو‭ ‬غير‭ ‬قادرة‭ ‬على‭ ‬التعامل‭ ‬المباشر‭ ‬مع‭ ‬الفلاح‭. ‬و‭ ‬هو‭ ‬تعامل‭ ‬ينم‭ ‬عن‭ ‬كسل‭ ‬سياسي‭ ‬يبحث‭ ‬عن‭ ‬الخدمات‭ ‬الجاهزة‭ ‬لهؤلاء،‭ ‬دون‭ ‬رغبة‭ ‬منها‭ ‬في‭ ‬العمل‭ ‬الشاق‭ ‬بحثا‭ ‬عن‭ ‬موطئ‭ ‬قدم‭ ‬في‭ ‬مجتمع‭ ‬البادية‭ ‬دون‭ ‬المرور‭ ‬عبر‭ ‬وساطتهم‭.‬

إن‭ ‬دروس‭ ‬و‭ ‬عبر‭ ‬الماضي‭ ‬تستلزم‭ ‬على‭ ‬الدولة‭ ‬فك‭ ‬الحصار‭ ‬عن‭ ‬سكان‭ ‬القرى‭ ‬في‭ ‬سهول‭ ‬وجبال‭ ‬وواحات‭ ‬المغرب،‭ ‬وتحريرهم‭ ‬من‭ ‬سلطة‭ ‬الأعيان‭ ‬ومساعدة‭ ‬الفلاح‭ ‬على‭ ‬الاستقرار‭ ‬بأرضه‭ ‬وإنتاج‭ ‬الفائض‭ ‬الداخلي‭ ‬وتحقيق‭ ‬استقلاليته‭ ‬المادية‭ ‬عنهم‭. ‬لذلك‭ ‬سيكون‭ ‬مفيدا‭ ‬للدولة‭ ‬على‭ ‬المدى‭ ‬البعيد‭ ‬أن‭ ‬تطبق‭ ‬اصلاحا‭ ‬زراعيا‭ ‬يتضمن‭ ‬توزيع‭ ‬أراضي‭ ‬متوسطة‭ ‬المساحة‭ (‬5هكتارات‭ ‬مثلا‭) ‬على‭ ‬صغار‭ ‬الفلاحين،‭ ‬ومدهم‭ ‬بوسائل‭ ‬المكننة‭ ‬الزراعية‭ ‬ومختلف‭ ‬التسهيلات‭ ‬لإنتاج‭ ‬الثروة‭ ‬الفلاحية‭ ‬وموازنة‭ ‬فئة‭ ‬كبار‭ ‬الملاكين‭ ‬التي‭ ‬أثبت‭ ‬التاريخ‭ ‬أنها‭ ‬العدو‭ ‬الأول‭ ‬للدولة‭ ‬المغربية‭ ‬المخزنية‭ ‬على‭ ‬مر‭ ‬العصور‭.‬

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى